صادف الأحد الماضي الذكرى الـ55 لنكبة حزيران/يونيو 1967 التي هزمت فيها إسرائيل ثلاثة جيوش عربية خلال ست ساعات لا ستة أيام، واحتلت كامل فلسطين وشبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان.
أطلقت الأنظمة المهزومة مصطلح النكسة على الهزيمة التاريخية والمدوية، في هروب موصوف من الحيثيات والدلالات، واستخلاص العبر ودفع الثمن، بينما تبدو الذكرى هذا العام مفعمة بالشجون، مع تأكيد القيادة الفلسطينية انتماءها إلى منظومة الاستبداد والفساد العربية المهزومة والساقطة، وسعيها لما يشبه توريث السلطة بشكل أحادي استبدادي وفج، بموازاة استنتاجات واجتهادات غير دقيقة رغم النوايا الطيبة للمقاومة لجهة قدرتها على تحرير فلسطين عسكرياً، وهو نفس ما كانت قد ذهبت إليه الثورة الفلسطينية المعاصرة في ستينيات القرن الماضي بعد النكبة مباشرة وهزيمة أنظمة الاستبداد والفساد العربية، لكنها سرعان ما تحولت هي نفسها إلى نظام استبداد وفساد موصوف أولاً بشكل ناعم وملطف عبر منظمة التحرير ثم بشكل فظّ وخشن عبر السلطة الفلسطينية.
أما عربياً، فتأتي ذكرى نكبة حزيران في ظل تمكن الثورة العربية المضادة وسعيها المكابر لإعادة تحديث وإنتاج الأنظمة المهزومة والساقطة التي تسبّبت بنكبة فلسطين ونكبات لشعوبها المستضعفة والمقهورة.
النكسة أم النكبة؟
قبل قراءة الواقع الراهن فلسطينياً وعربياً في ذكرى نكبة 67 لا بدَّ من الإشارة إلى عدة مفاهيم تأسيسية ومنهجية متعلقة بها، أولها أنها لم تكن مجرد نكسة؛ بل نكبة كاملة الأوصاف، فأن تنتصر إسرائيل على ثلاثة جيوش عربية تفوقها بأضعاف في العدّة والعتاد في ست ساعات لا ستة أيام، ومن ثم احتلال كامل فلسطين التاريخية بما فيها القدس بكل ما تختزنه المدينة من دلالات دينية وتاريخية وسياسية ونفسية، إضافة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية- مساحتها أضعاف مساحة فلسطين- فهذه ليست نكسة أبداً وإنما نكبة ثانية بعد الأولى 1948، التي احتلت فيها إسرائيل بدعم الاحتلال البريطاني ثلاثة أرباع فلسطين، وشرّدت نصف أهلها تقريباً، ولكن دون احتلال أي أراضٍ عربية أخرى.
فهم الحكام العرب، تحديداً العسكر الانقلابيين في القاهرة ودمشق جيداً، حيثيات ودلالات الهزيمة- النكبة لكن سمّوها نكسة لتخفيف وقع المصطلح ولتفادي استخلاص العبر السياسية والشخصية الضرورية، وبالتالي رحيلهم عن السلطة بل ومحاكمتهم بسبب مسؤوليتهم عن الهزيمة التاريخية، خاصة أنهم وصلوا إلى السلطة على ظهور الدبابات، وقاموا بتأسيس أنظمة استبدادية أذلّت وقهرت وأفقرت الناس بحجة إزالة آثار النكبة الأولى 1948م، وبعد أقل من عقدين فقط تسببوا بنكبة ثانية أضاعت كل فلسطين إضافة إلى أراضٍ عربية أخرى مساحتها أضعاف مساحة فلسطين نفسها، بما يعاكس أي منطق سياسي وعسكري؛ نظراً للتفوق العربي الهائل على كافة المستويات البشرية والجغرافية والجيوسياسية.
في هذا الصدد يمكن فقط تخيل لو أصرّ جمال عبد الناصر مثلاً على تحمل المسؤولية بدلاً من استقالته الشكلية والمفبركة لتغيير وجه العالم العربي تماماً، -كما لو أعاد بعد انقلاب 1952 الذي كان بمثابة نكبة موصوفة أيضاً السلطة إلى المدنيين- وحتماً ما كان ليقع الانقلاب العسكري على الملكية الدستورية في ليبيا 1969، وقبل ذلك بشهور على الحكم المدني الديمقراطي في السودان- استضاف قمة اللاءات الثلاث التاريخية الشهيرة بعد نكبة 67 مباشرة- وما كان ليتم تنصيب مثل معمر القذافي أميناً للقومية العربية. بينما في سوريا لم يتهرب فقط وزير الدفاع الجنرال حافظ الأسد من مسؤوليته عن الهزيمة؛ حيث ما كان يجب أن تسقط الجولان عسكرياً وفق أي منطق في ظل موقعها الاستراتيجي والمحصن، لكنه رقى نفسه بعدها إلى رئاسة الجمهورية وطبعاً بانقلاب عسكري موصوف أخذ المنحى الطائفي فيما بعد، وأعاد سوريا التاريخية العظيمة سنوات بل عقوداً إلى الوراء بذهنية موتورة دمرت كذلك النظام الديمقراطي في لبنان، وخاضت معارك لا تتوقف ضد الثورة الفلسطينية المعاصرة وقيادتها الشرعية.
النكبة الثانية ولدت وأنتجت بدورها نكبات أخرى من خلال اعتراف الأنظمة العربية بقراري الأمم المتحدة 242 و338، وبالتالي الاعتراف بإسرائيل ولو نظرياً، وتقزيم حدود فلسطين إلى الضفة الغربية وغزة بما يعادل خُمس مساحة فلسطين التاريخية، وفق ما يعرف بحل الدولتين حالياً وعملياً، فقد زرعت بذور معاهدات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة هناك في نكبة 67، وكان التخلي عن اللاءات الثلاث لقمة السودان المدني الديمقراطي مسألة وقت؛ ليصبح السلام مع إسرائيل خياراً استراتيجياً للعرب جميعاً دون استثناء، كما أقرت قمة بيروت في العام 2002.
صدر واحد من أبلغ التعبيرات عن نكبة 67 وآثارها من الشهيد الأديب غسان كنفاني بمقولته التاريخية أيضاً لم يتغير الفاشلون بل غيروا القضية نفسها، وتخلوا عن فلسطين الكاملة للقبول بدولة ضمن حدود حزيران/يونيو 67 مع تنازل عن حق عودة اللاجئين وتجاوز لاءات الخرطوم إلى الصلح والاعتراف والتفاوض مع إسرائيل كل بطريقته وحسب مصالحه.
الواقع الفلسطيني والعربي
عند قراءة الواقع الفلسطيني والعربي الراهن بذكرى نكبة 67 ثمة أمور هامة وجوهرية يجب أن تقال، ففي السياق الفلسطيني تتصرف سلطة رام الله ولا تزال كعضو أصيل في منظومة الاستبداد والفساد العربية التي تسببت بنكبة حزيران، بل وساندتها ضد الثورات العربية الأصيلة التي أسقطتها من أجل العودة إلى الطريق الصحيح نحو تحرير فلسطين بعيداً عنها.
هذا منهجياً، أما سياسياً وبالتزامن مع ذكرى النكبة، تتمسك القيادة الفلسطينية بالسلطة اعتماداً على الدعم الخارجي من الغزاة والطغاة الأمريكان والإسرائيليين والعرب رغم انهيار وتآكل شرعيتها الداخلية، وعجزها عن إنجاح مشروعها السياسي التفاوضي المنبثق أساساً من الاعتراف بالنكبة الثانية وتجلياتها أصلاً. ثم باشرت أخيراً بإجراءات انتقال أحادية واستبدادية بعيداً عن مشيئة الشعب وإرادته وحسمه الديمقراطي.
من جهتها، تقدم حركات المقاومة في غزة قراءات واجتهادات غير دقيقة رغم النوايا الطيبة والحسنة طبعاً تتعلق أساساً بالقدرة العسكرية على هزيمة إسرائيل وتحرير فلسطين وإزالة آثار النكبتين الأولى والثانية، رأينا فقط تعبيراً عن تلك القراءات والاجتهادات الخاطئة في العجز عن الرد على مسيرة الأعلام الأسبوع الماضي، وعلى الاقتحامات المستمرة للأقصى والحرم القدسي الشريف والتهويد الموصوف للحرم الإبراهيمي في الخليل، علماً أن الثورة الفلسطينية المعاصرة تصورت بعد نكبة حزيران/يونيو أيضاً أنها قادرة هي الأخرى على فعل ذلك قبل أن ينتهي بها المطاف رغم التضحيات الجسام للتيه في زواريب مدريد وأوسلو.
في هذا الصدد لا بدَّ من التأكيد كما دائماً على حقيقة أن مهمة تحرير فلسطين كانت ولا تزال عربية وإسلامية بامتياز، وواجب الحواضر التاريخية الكبرى في القاهرة ودمشق وبغداد وحلب والموصل ضمن وحدة طبيعية حتمية بين مصر والشام لهزيمة الغزاة، كما حصل في التجارب السابقة المماثلة بمواجهة التتار والصليبيين. غير أن هذا لا يعني أبداً تخلي الشعب الفلسطيني عن واجباته الوطنية والقومية بل عليه خوض معركة الاستنزاف عبر مقاومة شعبية عنيدة ومتواصلة لإجبار الاحتلال على دفع الثمن ولتسريع عمل ماكينة تدميره الذاتي، حسب تعبير رئيس الموساد السابق تامير باردو، إلى حين انهياره وزواله الحتمي في فلسطين.
أما الواقع العربي في ذكرى النكبة، فيتضمن تمكن الثورة المضادة وسعيها إلى تحديث وتعويم وشرعنة أنظمة النكبة والنكبات التي أسقطتها الثورات الأصيلة. وتزامناً مع الذكرى هذا العام تسعى أنظمة الثورة المضادة كذلك إلى القضاء على الأمل العربي الوحيد "في تونس" بنجاح الثورات الأصيلة وإبقائها على السكة الدستورية والديمقراطية السياسية الصحيحة. في مهمة تبدو مستحيلة لإعادة عقارب التاريخ إلى الوراء والمارد الثوري الأصيل إلى القمقم، وفي ذكرى النكبة الثانية لم تكتفِ تلك الأنظمة بالصلح والاعتراف والتفاوض وإنما بتنا أمام ما يشبه التحالف مع إسرائيل وحتى تسليمها القيادة الإقليمية، كما رأينا في قمتَي شرم الشيخ والنقب منذ أسابيع.
علماً أن إسرائيل العاجزة عن النجاة بنفسها من أزمتها الوجودية لن يكون بوسعها تحقيق ذلك للأنظمة العربية الساقطة والفاقدة للشرعية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.