نحن العرب لم نعد ننتقل من كارثة إلى أخرى فقط، بل نمر بجملة من الكوارث الإنسانية والأخلاقية والمجتمعية بالتزامن، فقد دُمر العراق وتم فصله عن عالمه العربي، ويتم العمل على قدم وساق على تدمير سوريا وفصلها عن عالمها العربي أيضاً، وفي اليمن يطبق نفس السيناريو لذات الهدف، وفي ليبيا مأساة متجددة، وفي باقي الدول تزدهر الديكتاتورية وتخفت الحرية.
الكارثي في الأمر، أن هناك مدناً بأكملها قد دمرت وتحولت إلى أنقاض وقتل تحتها الآلاف من المدنيين العزل ونُكل بالبعض الآخر، وما ترتب عليه من نزوح جماعي لآلاف بل الملايين من سكان المناطق المنكوبة هاربين من آلة الحرب والقتل والدمار.
خرج الملايين من بيوتهم التي هُدمت هائمين على وجوههم متجهين خارج عالمنا العربي، يبحثون عن مأوى آمن آخر لهم ولذويهم يأويهم، فكان مقصدهم الوحيد أوروبا، التي قد يجدون فيها الأمن والأمان.
خرج ويخرج صوب أوروبا، خلف أبناء الحروب، عشرات الآلاف من معظم دول العالم العربي، خصوصاً من مصر والسودان والصومال وبعض دول المغرب العربي، هاربين من الفقر وضيق الحاجة والمرض والاضطهاد وغياب العدل وانعدام الأمل في مستقبل أفضل لهم ولأولادهم في بلادهم، لا فرص عمل ولا رعاية ولا خدمات، جعلوا من المواطن العربي إنسان مهزوماً، فاقداً للحقوق وللقيم وللكرامة في بلده ووطنه.
ولذلك، لنا يا حكامنا حق التساؤل:
أما زلتم بعد ذلك كل هذا الدمار تعقدون الآمال على "القوى العظمى" وبلاد العم سام تحديداً؟
وهل تعتقدون حقاً أنهم سيحاربون إيران من أجلكم؟
أما زلتم تعقدون الآمال على من لم ولن ينصفكم ولن يدافع عن مصالحكم وعن بلادكم؟!
الطريق الأمثل بعد الاستفادة من المحن!
أقول لكم:
لن ينصفكم هؤلاء أبداً ومهماً دفعتم لهم من أموال وثروات بلادكم، والتي هي الأحق بها شعوبكم. لن ينصفوكم أبداً ولن يقدموا على مساعدتكم في حل مشاكلكم، ولن يقوموا بإخراجكم من الأزمات والمخاطر المحيطة، ولن ينتشلوكم من الكوارث والتي ألمّت بالبلاد والعباد.
لكن ما هو الحل؟
الحل يكمن في الآتي:
• أن تستثمروا في العلم والبحث العلمي وفي بناء الإنسان.
• أن تضعوا خطط تنموية للنهوض بالزراعة والصناعة من أجل بناء اقتصادات قوية، مصنعة، لا تعتمد على الريع والخدمات فقط.
• أن تقوموا بتقديم العون للدول الفقيرة بالاستثمار أو بالمساعدة تقنياً ورسم سياسات وتقديم الخبرات لتحقيق شكل من أشكال التكامل.
• أن تحجموا الفساد، بإقصاء الفاسدين، ولن يتأتى لكم ذلك إلا من خلال مجالس تشريعية وأجهزة رقابة فعالة، تنتخب مباشرة من الشعوب، يحملون همومهم ويعبرون عن طموحاتهم.
من أجل تحقيق ذلك كله، عليكم أولاً، اتخاذ الخطوة المهمة الجريئة، ألا وهي:
أن تتصالحوا مع شعوبكم!
نعم تصالحوا مع شعوبكم.. حاولوا التصالح مع قوى المعارضة بنوايا سليمة وجادة، ولتفرجوا عن المعتقلين، دون تمييز، في بداية انفراجة مجتمعية وسياسية جادة.
افتحوا القنوات السياسية والإعلامية، وأطلقوا حرية الرأي والمشاركة السياسية وللجميع وبدون استثناء، وهذا هو أقرب طريق وأفضله للقضاء على التطرف والإرهاب.
فالطريق الوحيد لتجفيف منابع الإرهاب وتحقيق سلام مجتمعي هو فتح قنوات المصالحة والمشاركة السياسية ولجميع القوى وخصوصاً قوى المعارضة وبدون استثناء. لابد للدول أن تحتضن أولادها جميعاً وبصرف النظر عن أفكارهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم السياسية والحزبية والعقائدية والدينية، سواء كانوا أفراد أو فصائل أو جماعات.
ولكن كيف السبيل لذلك؟
حسناً.. التجربة الألمانية لديها الحل.
الاستفادة من التجربة الألمانية!
هنا في ألمانيا يوجد حزب متطرف اسمه حزب البديل لألمانيا. هذا الحزب متطرف له توجهات وأفكار تتعارض مع العمل الديمقراطي في ألمانيا، وله توجهات تحمل عداوات وكراهية للأجانب وخصوصاً ضد المسلمين واليهود.
وبالرغم من قيامه حزب البديل بمهاجمة السياسيين من الأحزاب الألمانية الكبيرة القائمة وتسببوا في عمل قلاقل عن طريق المظاهرات والوقفات الاحتجاجية، لم تقم الدولة الألمانية وعلى رأسها حكومتها بالعمل على إقصائهم بالقوة والزج بهم في المعتقلات، بل قامت بفتح قنوات الحوار محاولين الالتزام بالدستور والقانون الألماني والذي يقدس حرية التعبير ويكفلها بدرجة كبيرة.
وبسبب التزام الجميع بالدستور وتطبيقه خصوصاً باب الحريات والتعبير عن الرأي، أعطى للجميع حق الممارسة السياسية حتى للحزب المتطرف، والذي استطاع أن يكسب أصوات أكثر سمحت له بدخول البرلمان الألماني مستغلاً بعض الحوادث الفردية والتي اقترفها بعض الأجانب، ومستفيداً من مشاعر الخوف والتي انتابت بعض الألمان نتيجة لهذه الأحداث الفردية المؤسفة.
بالرغم أن هذه الأصوات الانتخابية الكبيرة والتي حصدها هذا الحزب كان من رصيد الأحزاب الكبيرة والتي تآكل من رصيدها، والذي قد يهدد بقاء هذه الأحزاب في الصدارة، وبالرغم من ذلك لم يفكروا ولو لحظة التعدي على الإرادة الشعبية ملتزمين بالدستور، لم يقوموا بفرض قانون الطوارئ في البلاد، أو تلفيق التهم لقادة هذا الحزب، أو تجنيد الإعلام للتشهير به وذبحه سياسياً.
بل قاموا باتخاذ الطريق الصحيح بمحاولة مخاطبة الناخب عن طريق تحسين الخدمات وعمل إصلاحات هيكلية وأيضاً في برامج الحزب، من أجل الوصول بطريقة أسرع ومباشرة للناخب وتستطيع تقديم خدمات أفضل له من أجل كسب ثقة المواطن، وبالتالي كسب صوته في الانتخابات القادمة.
هكذا يجب أن يكون أيها الحكام!
هكذا يتصرف رجال الدولة الحقيقيون الذين يقدرون المسؤولية ويعرفون واجباتهم تجاه وطنهم ومواطنيهم تماماً، ويحرصون على تطوير بلادهم وتحقيق الرخاء لشعوبهم.
ولذلك أتمنى عليكم ومن خلال التجربة الألمانية أن تقوموا بفتح باب المصالحة العامة، وأن يتولى الجميع مسؤولياتهم تجاه الوطن والمواطن، وعلى الأنظمة أن تسارع بتقديم يدها للمعارضة وتفتح لها قنوات العمل السياسي في الدولة، وبذلك تتلاحم قوى الدولة المنقسمة، وتجمع قواها المشتتة لتتفرغ جميعاً لبناء الأوطان بعد إنهاء الخلافات.
ولكن هناك شروط للمصالحة يجب أن تتوفر وتراعى من أجل إنجاح المصالحة لننتقل بعد ذلك لمرحلة بناء دولة جديدة، أن تشمل العناصر الأساسية الهامة التالية.
- أن يتقدم النظام القائم بالاعتذار للشعب عما اقترفه من تجاوزات في حق المواطن، سواء كان سفك دماء أو بطشاً وتنكيلاً، أو الزج بالأبرياء في المعتقلات ومطاردة الأحرار والنشطاء السياسيين في الخارج.
- منع مشاركة كل من تلوثت يداه بدماء المواطنين أو من شاركهم ودافع عنهم ودفع بهم وحرّضهم، في لجان المصالحة، وأيضًا ألا يكونوا من رجال المرحلة الجديدة.
- عدم مشاركة الفاسدين أو الذين تحاط بهم شبهة فساد، في لجان المصالحة، وأيضاً ألا يكونوا من رجال المرحلة الجديدة.
- منع مشاركة أي شخص من مراكز القوى أو من أصحاب النفوذ المستغلين للسلطة، وأيضاً الذين هم من أهل الثقة والمحسوبية، في لجان المصالحة، وكذلك ألا يكونوا من رجال المرحلة الجديدة.
غير ذلك فهو إهدار للطاقات والقدرات في الدول، ما يتسبب في إعاقة تقدم البلاد وزيادة في معاناة الشعوب.
الخاتمة!
نستخلص من ذلك كله أيها السادة، أن حكومات الدول في النظم الديمقراطية والمستمدة شرعيتها من الشعب مباشرة تعلم بأنها سلطة تنفيذية تخضع للرقابة الجادة والكاملة من قبل السلطة التشريعية، ولذلك تحرص على كسب رضا الناخب، وذلك بالعمل الجاد في حل مشاكله وتذليل الصعاب له والمحافظة على حقوقه من تعليم وصحة وفرص عمل ومواصلات سهلة حديثة وآدمية، وحياة كريمة له ولأولاده وأحفاده من بعده.
والأهم من ذلك كله، تحرص حكومات هذه الدول، ومنها ألمانيا، على ضرورة الحفاظ على تماسك المجتمع بجميع طوائفه ومعتقداته وتوجهاته، لتحقق بذلك السلام والأمن المجتمعي. وكما هو وارد في الدستور والذي يجرم كل من يعمل قلاقل وزرع فتن أو يقوم بالتحريض على العنف أو التهديد أو القذف والتشهير في المجتمع ويتم تقديمه للعدالة ليلقى عقابه.
أما الدول التي تستخدم القوة المفرطة في التعامل مع مواطنيها وتنتهج أسلوب القتل والتصفية الدموية لمعارضيها بعيداً عن القانون وأروقة المحاكم، وتستخدم إعلام الدولة لزرع الفتن وبث نار الانتقام وغرس العداوات وشيطنة المعارضة وجعلها عدواً، وتستخدم سلطات الدولة من شرطة وجنود لإهانة المواطن وإهدار كرامته وممارسة السيادية عليهم، هي دول لا تؤتمن على الشعوب، ولا يؤمن لها على مواطنيها، ولا يمكن لها أن تبني دولة أو تحقق الأمن والأمان للمواطن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.