يتكفل صوته بإعادتي إلى صوابي، تهدئتي، وتلطيف ثورة نفسي، ذلك الصوت لشخص له قدرة استثنائية على جعلي أطرب وهو ليس بمطرب، تلك هي أسطورته، يصفونه بصفات عديدة، تارة "شيخ الفنانين"، وتارة أخرى "كبيرهم الذي علمهم الفن"، أما أنا فأصفه بـ"الأسطورة الصامتة"، رجل عاش في الظل يصنع المفاجآت في صمت تام، وبنظام يستحق التأمل.
عبد الوارث عسر، ذلك الرجل الذي كلما علمت عنه معلومة اتسعت عيني لفرط المفاجأة، هل فعل ذلك الرجل الهادئ كل تلك الأمور حقاً؟ بالنسبة للكثيرين ليس أكثر من ممثل أدوار ثانوية، ظل ثابتاً على رتم واحد من البداية للنهاية، لكنه في الواقع كان يؤسس لما هو أعظم وأعمق أثراً.
معجزة طفل
"كل إنسان يؤثر فيه الجو اللي بيعيش فيه في بدء حياته، وده بيقوي شخصيته الوطنية من جهة، وبيوسع معلوماته من جهة أخرى". هكذا كانت منحة القدر له أن يولد في قلب القاهرة عام 1894، بحي الجمالية، تحديداً في حارة درب الطبلاوي، إلى جوار الحسين والجامع الأزهر، لم يكد يتم عامه الأول حتى بدأ في التألق.
بمجرد أن أتم الخامسة: "نهار ما جيت داخل الكتاب لبست جلابية وفوقها حرملة جوخ، جم أولاد الكتاب مع الشيخ والعريف قدام باب البيت وقرأوا الفاتحة بصوت عالي جماعي، وسلمني والدي لسيدنا واستدار الطابور ورجعنا لباب الكتاب على باب الحارة". في ظرف عام واحد فقط، كان الصغير عبد الوارث قد أتقن جزئي عم وتبارك، كتابة، وقراءة، وحفظاً، وتجويداً، جعله هذا يؤمن: "اللي يقرأ القرآن الكريم ويحفظه ويكتبه بالطريقة دي لا يعجزه أي شيء في القراءة والكتابة مدى الحياة".
لم يكن هذا هو الأمر الوحيد المبهر بشأنه، فعلى مقهى قريب، كان عبد الوارث ينصت لـ"المحدت" يروي قصص عنترة وأبو زيد الهلالي، وكان الناس ينصتون له بإمعان يقول: "أذكر لما قصة عنترة توصل لنقطة زواج عنترة من عبلة، في ذلك اليوم حين تنتهي القصة يقوم أهل الحي يعلقوا زينات ويجيبوا شربات وينوروا فوانيس ويسموه فرح عبلة"، هكذا أتقن القص وانتقل لمراحل أبعد من التميز، داخل مدرسة خليل أغا الابتدائية في حي الحسين، كان الصغير ينتظر ظهور الزعيم مصطفى كامل، في المدرسة الأهلية التي أنشأها في حي شارع أمير الجيوش في الجمالية أيضاً، نهار خميس، يخطب الزعيم فيحفظ الصغير الخطبة، ويعود إلى منزله ليكررها ويقلد زعيمه المفضل.
أسعد القدر عبد الوارث بأستاذ للغة العربية اسمه أحمد القوصي، زجال ويحمل روح فنان، قرر أن يقوم بعمل مسرحية لأول مرة في المدرسة، وأسند الدور الرئيس في هذه المسرحية للصغير الموهوب، لكنه لم يكتف بذلك، بل طلب إلى الشيخ سلامة حجازي أن يأتي ليعلم الطلبة الصغار فن التمثيل عام 1905، وكان أن استجاب الرجل، وجاء بنفسه: "كان يقولي شوف انت بتقول الجملة إزاي، شوف إحساسك، أظهرلي إحساسك، ولما يغيب يبعتلنا أحد أعضاء الفرقة عشان يتابعنا".
دودة كتب ومسرح
ليس ثمة تلفزيون أو راديو، فقط مسرح عشقه الصغير الذي لم يكن ليفعل شيئاً دون رضا والده: "استأذنته أن أذهب إلى المسرح، فرقة الشيخ سلامة حجازي كلهم أصدقائي، لكن والدي اشترط أن أذهب بقيمتي، وأقطع تذكرة وأجلس كالمتفرجين، هكذا رحت أتردد عليهم في المسرح، أحضر الفصل الأول في "اللوج" ثم بقية الفصول أحضرها من الداخل، أكرر حضور الرواية الواحدة جملة مرات لا أمل، حتى غاب الريجيسير في مرة عن مسرحية لرواية بعنوان "عواطف البنين"، فقمت أنا بعمله ولم أخيب، كنت معجباً بهذا العالم الجذاب، سنوات طويلة، حتى كبرت وجاء ثانوية، وجاء أستاذ جورج أبيض من أوروبا، وشاهدت كل مسرحياته، في ذلك الوقت في عام 1915، خطرت لي فكرة أن أكتب مسرحية، لكنني أولاً قرأت الأدب العربي بتوسع داخل البيت، بمطالعاتي، وبلا مساعدة من أحد، فقرأت الأغاني والأمالي، ومجمع الأمثال، والعقد الفريد، والقصص العربية في الجاهلية كحرب البسوس وقصة عنترة، قرأت التاريخ العربي للطبري ودرسته بتوسع، وشعرت بميل لدراسة التاريخ الفرعوني، وكان المرحوم أحمد باشا كمال من أصدقاء والدي، أراه في زيارات لمنزلي، لصقت به وطلبت أن أدرس، أعطاني جملة كتب منها كتاب له، كنت أقرأه وأسأله، ومن هنا شعرت أن لدي استعداداً أن أنظم شعر، ولدي استعداد".
من الريف إلى المسرح
توفي الوالد عام 1914، وعجز الطالب المتفوق عن الالتحاق بكلية أحلامه الحقوق، وارتحلت الأسرة إلى العزبة الخاصة بهم في الريف، بمحافظة البحيرة، عند تلك النقطة كان كل شيء يبدو أنه قد آل إلى النهاية، لكن عبد الوارث كان يملك حلماً، هكذا عاد إلى القاهرة وذهب رأساً إلى مسرح جورج أبيض عام 1917 في شارع فؤاد، كمتطوع يرغب في التعلم، يومها طلب إليه جورج أبيض الذي عاد لتوه من فرنسا بعدما تعلم التمثيل، أن يقول له شيئاً، فألقى عليه خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي حين دخل إلى الكوفة، فألحقه الرجل فوراً بالمسرح مع زملاء كان منهم بشارة واكيم ومحمد عبد القدوس وزكي طليمات وروزاليوسف ومريم سماط.
موظف صباحاً وممثل مساءً
لم يكد ينخرط عبد الوارث في مجاله الأثير حتى اندلعت ثورة 1919 وتوقف المسرح، وعاد العمل أواخر عام 1921، من فرقة إلى فرقة شَعَر عبد الوارث أن العمل في مجال الفن لن يسد رمق أسرته، ولن يقيه شر الجوع، هكذا التحق بخدمة الحكومة في وزارة المالية، حيث ظل يعمل في قلم الحسابات 40 عاماً: "أثناء وظيفتي لم أنقطع عن المسرح، ولا عن التمثيل عموماً، أعدت تكوين جمعية أنصار التمثيل عام 1913، مع آخرين، وقمنا بعمل مسرحيات من جديد، كتابة وتمثيل، بالتعاون مع زميلي سليمان نجيب. كان سليمان بيسافر كل سنة أوروبا ويشوف المسارح ويرجع بـ10 أو 12 مسرحية نترجم المناسب ونمصره وننفذه زي: "النضال" و"البطالة" و"الهلال والصليب".
سيناريست عتيد تخصص في أفلام عبد الوهاب
تعاون عبد الوارث مع المخرج محمد كريم، والذي كان متخصصاً في أفلام عبد الوهاب فقط، يقول: "كتبت فيلم يوم سعيد، وممنوع الحب، وفيلم لست ملاكاً، وكتبت معاه بقية الأفلام اللي طلعها خارج أفلام عبد الوهاب، زي أصحاب السعادة، ودموع الحب، كتبت ومثلت في نفس الأفلام".
حين تم اتخاذ قرار بتحويل رواية "زينب" للكاتب الكبير محمد حسين هيكل إلى عمل سينمائي، لم ينبهر عبد الوارث باختياره لكتابة السيناريو، توجه فوراً إلى هيكل وقال له: "إذا سمحت معاليك، أنا طريقتي في كتابة السيناريو، إني أغير وأحذف وأضيف شخصيات، وأتصرف في الحوادث، حسب السرد السينمائي، فضحك وقال إن لم تفعل هذا لن تكون سيناريست، يومها أدركت أن هذا الرجل يعرف كيف هو الفن، هكذا زودت شخصية عم سلامة، ولما قرأنا السيناريو له أعجبه وشجعنا بكلمات طيبة ونجح الفيلم نجاحاً كبيراً".
أستاذ في معهد السينما.. تعلم التمثيل من القرآن!
كان من بين المعلومات المذهلة بشأن عبد الوارث عسر، عمله أستاذاً في معهد السينما، تحديداً في فن الإلقاء، وقد قام بتأليف كتاب بعنوان "فن الإلقاء" يعتبر مرجعاً في الشأن، يقول: "لم أستعن في هذا الكتاب بأي مراجع أجنبية، فقد لاحظت من علوم الأدب والبلاغة والبيان أن المقصود منها التعبير".
يرى عبد الوارث أن الفن التمثيلي ما هو إلا تعبير، بالكلمة والصورة والحركة والتمثال، الممثل يستعمل هذا كله بينما صنعة المخرج أن يصنع تابلوه جميل، من هنا الأدب هو الأساس لأن في البدء كانت الكلمة، (وعلم آدم الأسماء كلها)، الأساس لابد يكون فيه كل ما يلزم للتعبير بأفضل شكل".
من كتب الجاحظ وعلماء البيان العرب، تحديداً كتاب البيان والتبيين، استسقى أصول التمثيل، يقول: "إذا كنت هتحكي حكاية عن الأعراب فيجب أن تحكيها بإعرابها ومخارج ألفاظها، الكتاب بيقولي كدة صراحة". ويستطرد: "القرآن دلني على فن التمثيل، ربنا قال لرسول الله في شأن المنافقين في سورة محمد: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ)، سيماهم يعني ملامح وجوههم وشكلهم، وفي لحن قول يعني بالتنغيم الصوتي والإلقاء، هو الفن التمثيلي فيه غير كده تمثيل؟ مفيهش حاجة غير كده، وجدت أدق قواعد التمثيل أيضاً لدى أبو حيان التوحيدي وهو يصف الشخصيات وصف في منتهى الدقة".
لهذا كان عبد الوارث يؤمن أن الكتابة هي حجر الأساس في هذا الفن، الكتابة أولاً وقبل كل شيء: "عاوزين كُتّاب ينزلوا في الشوارع ويقعدوا في القهاوي في الحسينية والعطوف والدراسة، ويقعدوا على المصاطب في الفلاحين زي ما كنا بنعمل إحنا زمان".
أداؤه الصوتي مع "ديزني"
كنت دائماً ما أكذب أذني حين أسمع صوته في دور الراوي بفيلم سنوايت والأقزام السبعة، لكنني حين بحثت اكتشفت أن الفيلم إنتاج سنة 1937، وأن صوت سنوايت هو صوت فاطمة مظهر أخت الفنان أحمد مظهر، الأغاني في الفيلم نفسه قدمتها رتيبة حفني، وقامت بدور الساحرة الشريرة ملك الجمل، هذا بخلاف مشاركة جمال إسماعيل، كان هذا هو أول فيلم تتم دبلجته بالعربية من أفلام ديزني.
عن لوتس وهاتور وفاتن حمامة
"البنات هم اللي في البركة"، كان هذا هو رأيه، كان عبد الوارث عسر محباً عتيداً، ومخلصاً أيضاً، أطلق على ابنتيه الوحيدتين اسمين فرعونيين، لوتس نسبة إلى زهرة اللوتس، وهاتور إله الجمال عند الفراعنة، تقول لوتس: "عمره ما كذب علينا أو ضربنا، كان أقصى خوفنا أنه يغضب مننا، وأقصى عقاب له كان أن يخفي وجهه منا، تعودنا على الصراحة المتناهية، طول عمره صريح معانا، منذ كنا أطفال وحتى صار جد ولديه 5 أحفاد، يشجع الجميع على التعلم طوال الوقت".
ابنة ثالثة غير محسوبة لعبد الوارث عسر كانت فاتن حمامة: "أشعر بأبوة تجاهها؛ لأن دورها الأول وعمرها 6 سنوات كان معي، كنت أحملها على كتفي، وأشتري لها الحلوى، كبرت أمامي، أشعر بشعور صادق لا أتكلف، وهي نفسها، لديها نفس الإحساس".
لم يكن يتحدث كثيراً عن زوجته حكمت هانم المكاوي، لكنه كان يكن لها ما يكفي من الحب، طوال حياته، حتى إنه وبمجرد وفاتها تدهورت حالته الصحية حزنا على حبيبته، فظل 3 سنوات بين متاعب المرض والدخول في غيبوبة طويلة حتى فارق الحياة عام 1982 داخل مستشفى المعادي العسكري.
لهذا اختار أن يظل مسناً رغم شبابه
من البداية للنهاية ظل يقدم أدوار الرجل المسن، كلمة السر كانت لدى عمر وصفي المدير الفني لفرقة عبد الرحمن رشدي، يقول: "وجهني لهذا الاتجاه، كان عمري 23 عاماً، كنت أتمنى تقديم دور الشاب، احتجيت فقال لي: يا عبيط أدوار الشباب بتمثل ايه، هو في حاجة أكبر من عاطفة الحب؟ دور المسن فيه كل المشاعر الإنسانية، كل المخرجين اقتنعوا بهذا أيضاً، فلم تغرني البطولة أبداً".
هذا هو حفيده.. ولهذا قال له: "احترم نفسك"
لا يعلم الكثيرون أن الفنان محمد تاجي هو أحد أحفاد الراحل عبد الوارث عسر، الوحيد بين الأحفاد الذي قرر الدخول إلى مجال التمثيل، "خليك طبيعي قدام الكاميرا ماتمثلش، قالي احترم نفسك واحترم العمل اللي بتعمله واحترم المكان اللي انت داخله، ده اللي هايخلي الجمهور يحترمك".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.