عندما أوحت المدرسة الكولونيالية للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بالتطاول على الأمة الجزائرية، بنكران الوجود خارج "الحقبة الاستعمارية" من وحي "رسالة التمدين"، تلك التي ترى أن الاستعمار هو بداية التاريخ لدول شمال إفريقيا، وأغلب الدول الإفريقية، و بأن الجزائر صنيعة فرنسية؛ لم يكن نزيل قصر الإيليزيه يحمل جديداً فيما يتعلق بالمدوّنة الكولونيالية، التي كانت أوكلت خلال سنوات الغزو جيشاً من علماء الآثار والأنثروبولوجيا، في مهمة القيام بحفريات كبيرة لاستنهاض الحقبة الرومانية، وبعث تراثها المادي، تمكيناً لسيطرتها الثقافية والروحية، بما أن الغرب وريث شرعي لمجد روما.
لكن تلك السياسة اصطدمت بشواهد قديمة نوميدية لأهل تلك الأرض، على غرار الضريح الملكي النوميدي لإيمدغاسن، الواقع بولاية باتنة شرقي الجزائر، والمشيّد في القرن الخامس قبل ميلاد المسيح، وكان ذلك شاخصة غرستها تلك الأرض في قبر الأطروحة الاستعمارية المتهاوية، حتى إن الجنرال مونتسابارت قائد الجيش الإفريقي في الحملة الفرنسية على جنوب إيطاليا، كان خطب في الجنود الجزائريين المستنفرين لقتال الألمان ضمن الفرقة الجزائرية الثالثة للمشاة بعبارة "أحفاد نوميديا العظيمة". كما لو أن قدر هذه البلاد أن تجيب المحتلين وناكري حياتها ووجودها بالشهداء والموتى والأضرحة التي سبقت رسالتهم، لا بل وجودهم بعمر طويل.
لذا لن يتأخر ذلك التاريخ القديم في أن يكون سيارة إسعاف لجأ إليها وزير الخارجية، رمطان لعمامرة، خلال زيارته لإيطاليا شهر أكتوبر 2021، حينما قرر أن يرد على الاستفزاز الماكروني بصورة عملية وهو ينزل من قلب روما إلى سجن التوليانوم أو الكارشيري مامرتينو بقلب روما، ليزور زنزانة الملك النوميدي يوغورطة ملك نوميديا، تلك المملكة التي أنشأها جده ماسينيسا العام 204 قبل الميلاد وامتدت حتى عام 46 قبل الميلاد، انطلاقاً من عاصمتها سيرتا، وضمت أغلب الأراضي الشمالية الجزائرية الحالية حتى تخوم الصحراء، وأجزاء من تونس وليبيا وشرق المغرب الحالي حتى وادي الملوية.
فمن هو يوغرطة؟ ذلك الذي تقول عنه الروايات إنه لم يمت جوعاً، جراء سوء التغذية، بل تجويعاً وفق رواية، أو إضراباً عن الطعام؛ ليكون أول زعيم دولة يقرر تلك الخطوة النضالية وفق روايات أخرى.
1/ المنبوذ ابن الجارية الذي أطلق شعار "روما للبيع فمن يشتريها"؟
عندما أبدى المؤرخ الروماني الشهير غايوس سالوستيوس كريسبوس الشهير بسالوست، أسفه البالغ، على حال جمهورية روما وقد نهش الفساد مؤسساتها ومجلس شيوخها، راح يكتب مؤلفه الشهير "بيلوم جيغيرتانوم"، وتعني "حرب يوغرطة"، دون أن يعي أنه سيخلد أثر ذلك الشاب الماسيلي الحالم المولود عام 160 قبل الميلاد قرب سيرتا، عاصمة البلاد آنذاك، أو قسنطينة حالياً عاصمة شرق الجزائر، تلك الرقعة الجغرافية التي شهدت كبرى الصدامات والتفاعلات التاريخية التي لا تزال شواهدها ماثلة إلى يوم الناس هذا، عبر مدن غابرة مثل لامبزيس وتيمقاد وتيديس وكويكول وميلاف وصالداي وبغاي وقساس وكالاما ونقرين وستيفيس.
كانت تلك الرقعة الزاخرة نقطة انطلاق شرع فيها جده، الإقليد ماسينيسا وتعني الملك ماسينيسا، في تأسيس دولة مركزية موحدة، جمعت بين كنفيدراليتي ماسيليا شرقاً، وماسيسيليا غرباً. ولم يكن يتاح له أن يبعث تلك المملكة وهو يرفع شعار "إفريقيا للأفارقة" سوى بعد جهد عسير، إذ إنه خاض تجربة تحالفات معقدة بدأت بالتعاون مع قرطاج ضد روما ثم الانقلاب ضدها بالتحالف مع روما، في فورة صراع انتقامي مع غريمه الماسيسيلي صيفاقس بسبب قصة حب مدمرة مع الحسناء سوفينيزبا، حتى إذا ما انتهت الحروب البونيقية كان يرسخ فكرته على الجغرافيا، ثم إنه لمّا توفي ترك الملك لشقيقه مكيبسا الذي كان له ولدان يريد توريثهما التاج هما أديربال وهيمبسال، مستفيداً من إبعاد ابن شقيقه يوغرطة ابن مستنبال من السباق، بداعي أنه ابن أمة محظية.
لكن الفتى الذي يصفه المؤرخ الروماني سالوستيوس بوصف "قليل الكلام كثير الأفعال"، اكتسب قوة وشجاعة كبيرتين، مكنتاه من التفوق على أقرانه في الفروسية والقتال وصيد الأسود، فنال حظوة وحباً كبيرين لدى النوميديين، لدرجة أن عمه خشي وقد استبد به الهرم والمرض من ضياع العرش من نجليه، فقرر أن يتخلص منه بطريقة ناعمة بأن أرسله على رأس الخيالة النوميد لمعاضدة حلفائه الرومان في حصار نومنثيا بإسبانيا عام 113 قبل الميلاد، بيد أنه ارتقى في غمار تلك الحرب بطلاً كبيراً حظي بعرفان مجلس شيوخ الجمهورية الرومانية، وبتمجيد خاص من الجنرال سكيبون الإفريقي، الذي زكاه برسالة مثيرة إلى عمه، فقرر إثرها أن يعيد له حقه في العرش بتبنيه ثم باقتسام المملكة مع ولديه عام 120 قبل الميلاد.
وعقب وفاة الملك مكيبسا دبّت خلافات بين الثلاثة، فقتل يوغرطة هيمبسال بسبب إهانته له، ثم أعلن مشروعه بتوحيد المملكة تحت صولجان واحد كما كانت في عهد جده ماسينيسا، فحاصر العاصمة سيرتا وقتل أديربال وأتباعه ومجموعة من التجار الرومان، ما أثار حفيظة مجلس الشيوخ الروماني، لكن الملك الجديد لجأ لطرق أخرى لتفتيت وحدة مجلس شيوخ روما ومبعوثيهم، مستفيداً من الفساد المستشري في عدد كبير منهم، حيث تمكن من شراء ذممهم مقابل التغاضي عن قتل خصومه وتنفيذ مشروعه، مطلقاً عبارته التاريخية الشهيرة "روما للبيع، فمن يشتريها؟"، وقد دفع ذلك بالمؤرخ الروماني سالوست أن يكتب: "واستعمل يوغرطة الأسلوب نفسه مع المبعوثين الآخرين، فربح الكثيرين منهم، وقليلون هم الذين فضلوا كرامتهم على المال". ثم يضيف: "على الرغم من ذلك فقد قوّت تلك المجموعة من مجلس الشيوخ، والتي تبدي اهتماماً بالمال والمحاباة أكثر من العدل".
2/ غدر به صهره باخوس الموريتاني، وسلّمه مكبلاً للجنرال ماريوس
شن يوغرطة حربه على الوجود الروماني في إقليم نوميديا، فكسب عدة معارك حربية بواسطة الخيالة النوميد خفيفي الحركة، منتهجاً المعارك المباشرة في تضاريس يعرفها، وعبر حرب العصابات، وكبّد الجيوش الرومانية هزائم عدة بدءاً من عام 110 قبل الميلاد بموقعة سوثول قرب كالاما (قالمة الحالية)، كما نظم كميناً محكماً بطابور من الفيلة قرب نهر موثول أبطله القائد ميتليوس، الذي ألحق بجيش النوميديين خسائر طفيفة لكنها لم تكن حاسمة، قبل أن يعود يوغرطة ويهزمه في معركة قرب زاما بالأراضي التونسية، ليظل الكرّ والفرّ سمة حرب قضّت مضجع روما في أكثر عصورها اضطراباً في الداخل كما في الخارج.
دامت تلك الحرب 7 سنين لم يتمكن فيها الرومان من النيل من الجيش النوميدي، فلم يجد القائد الروماني ماريوس مفراً من اللجوء إلى وسيلة أخرى للقضاء على من بات نسخة مكررة للقائد القرطاجي حنبعل برقة، عبر نسج مكيدة مع صهر يوغرطة، باخوس الموري، الذي كان على رأس مملكة موريتانيا شمال المغرب الحالي، بأن أغراه عبر موفده سوللا للإطاحة بزوج ابنته مقابل رقع جغرافية محدودة، فتواطأ معهم بأن وضب له كميناً بعد دعوته إليه، من أجل التفاوض بشأن اتفاق سلام مع الرومان، ليلقى عليه القبض وينقل مكبلاً، بعد أن قطعت أذناه للاستئثار بأقراطه، وليودع سجن التوليانوم عام 104 قبل الميلاد.
والزنزانة التي تعد قبواً أرضياً لا يمكن دخولها سوى عبر بالوعة حديدية، أنزل إليها الملك النوميدي مقيد اليدين والقدمين مثل دلو ماء، ومكث في قعرها المملوء ماءً آسناً وحامياً، وكانت تلك طريقة معروفة في الإذلال في ذلك السرداب الدائري الرطب والعطن، والذي لا تدخله الشمس مطلقاً، وتقول بعض الروايات التاريخية بأن يوغرطة أحس بتلك الإهانة فقال متحدياً، وهو يُغمس في الماء الحامي: "ما أبرد حماماتكم".
ينقل الدكتور الليبي محمد المبروك الدويب، أستاذ اللغات القديمة بقسم الآثار بكلية الآداب بجامعة بنغازي، على لسان سالوست، في ترجمته لكتابه "حرب يوغرطة" من اللاتينية إلى العربية، ما يلي:
"عندما أعلن أن حرب نوميديا انتهت، وأن يوغرطة أسر ويقاد مغلولاً إلى روما، أعلن عن تعيين ماريوس قنصلاً وهو غائب، وأسندت له مهمة قنصل بلاد غاليا – فرنسا، فأقام، بوصفه قنصلاً، في اليوم الأول حفلاً عظيماً للنصر، ومنذ ذلك الوقت صارت آمال الوطن ورفاهيته بين يديه".
3/ السلطات الجزائرية ترد على التصريحات الفرنسية بجدارية متحف روما
خلال آخر زيارة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لإيطاليا، نزل ثامن رئيس جمهورية جزائري لزنزانة يوغرطة، ليكون أول رئيس يقوم بتلك الخطوة في إطار زيارة رسمية اكتسبت طابع زيارة دولة، مكرساً انطباعاً أولياً في مصالحة الجزائر مع تاريخها القديم، تبعاً لمسعى مبادرة لم الشمل؛ إذ يعد يوغرطة بطلاً قومياً ورمزاً من رموز الدفاع عن السيادة الترابية، حيث تراكم الدولة الجزائرية تراثاً نوميدياً عريقاً يشبه إلى حد كبير تراث فرنسا الحالية مع التاريخ الغالي القديم.
فهي جبر لأخطاء كارثية غذتها صراعات الهوية لزمن طويل، وجيل ثورة التحرير الكبرى الذي تجاهل التاريخ القديم لاعتبارات أيديولوجية لا علاقة لها بفكرة الدولة ضاربة الجذور الألفية، ولأسباب شخصية أوحت كما لو أنه لا تاريخ خارج ثورة التحرير الكبرى، أو كما لو أن ذلك الجيل كتب تاريخ نصره الشخصي لا تاريخ الأمة، قبل أن يضطرهم ماكرون بتصريحات استفزازية للعودة إلى الوراء لتوجيه اللكمة القاضية، فاستوجب الرد العودة إلى الماضي المرسخ في جدارية مثبتة في باحة السجن الذي صار اليوم متحفاً إيطالياً يزوره ملايين السياح سنوياً.
تحمل تلك الجدارية إشارة بالغة الرمزية والأهمية، لا لأن يوغورطة مذكور فيها بصفته ملك دولة محاربة فحسب، بل لأن شخصاً آخر كان قضى نحبه في الزنزانة نفسها، يتعلق الأمر بالملك فرسونجيتوراكس ملك غاليا، أي تلك الأمة التي يعتبرها الفرنسيون حجر الأساس في بناء الأمة والدولة الفرنسية، مع علامة فارقة تؤكد أن يوغرطة سبق نظيره الغالي بنصف قرن، في ذلك المتحف الزنزانة، ففيما مات الأول جوعاً سنة 104 قبل الميلاد، قضى الثاني نحبه بقطع رأسه عام 49 قبل الميلاد، عقاباً له على شنه حرب مقاومة ضد روما.
بدا كما لو أن السلطات الجزائرية لجأت لاستعمال العقل التاريخي في إدارة صراعاتها مع القوة الاستعمارية السابقة، كما لو أنها تريد أن تخاطب الأحياء بمجد الأموات، وتخاطب منكري التاريخ من عمق التاريخ، وترد على نزلاء قصر الإيليزيه المتعاقبين من قبو تلك الزنزانة التي كان فيها يوغرطة ملك دولة بحدود وجغرافيا وجيش وإقليم وعاصمة هي سيرتا أو قسنطينة الحالية، التي يبلغ عمرها 2500 سنة، وهو رقم يفوق تاريخ دول قديمة وحديثة بزمن طويل.
يقال: إذا تحدثت روما، المدينة الخالدة، فعلى جميع أقطار الأرض أن تنصت
أو تصمت.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.