لا شكَّ أن نتائج انتخابات 2021 النيابية كانت سبباً رئيساً في الأزمة السياسية الحالية بالعراق؛ لأنها أفرزت صدارة قوى انفعالية يملك أغلبها سلاحاً، كما أنها أضعفت- رقمياً- قوى الاعتدال التي من شأنها حفظ التوازنات، وتفكيك الأزمات، ورعاية المبادرات التي تتسم بالوسطية والممكن قبولها من جميع الأطراف، وهو ما خلَّف أزمة خانقة لا يعرف أحد كيف سيكون مصيرها، لكن لا بد من سيناريوهات مرجحة طِبقاً للأحداث والأُطر السياسية والدستورية، فما هي؟
خطاب الصدر
كانَ خِطاب السيد مقتدى الصدر يوم الإثنين الماضي، والتغريدة التي سبقته بليلة حول إعلانه معارضته التجريبية المؤقتة، دليلاً على نفاد جميع وسائل الصدر وإدراكاً لضعفه، فهو لم ينجح بكسر الأطراف الأخرى عندما حاول مع حلفائه عقد جلسة لانتخاب رئيس الجمهورية، خصوصاً أن محاولته لعقد الجلسة الثانية أثبتت تسرب وانسحاب أكثر من 30 نائباً من دعم معادلته، بالإضافة لما طرحه من مُهل متعددة- كان يعتقد أنه سيضعف الطرف الآخر من خلالها- لم يلتزم بها هو نفسه، بل رأى أن بقية الأطراف تقوى، بينما يضعف هو وتحالفه الثلاثي.
كما أن فشل محاولته جذب المستقلين لمعادلته ورفضهم مبادرته، جعلته يدرك أن الطريق مسدود أمامه بشكل لا يُمكن إنكاره؛ لذا يُعتقد أن ذلك سبب دعاه للجوء إلى التصعيد، ليخرج علينا بخطاب يشكو به وحدته، ويخوِّن من خلاله من لم يتفق معه، وكالعادة لم يجعل خطابه خالياً من تهديدات مبطنة أو صريحة.
تحالف السيادة
ما عاد المتحالفون في "السيادة" يقدرون على إخفاء ما يحدث داخل تحالفهم، من خلافات وتشنجات، منها ما اتضح من تعامل النائب محمد الحلبوسي مع زميله عدنان الدليمي، والخلاف حول إدارة المحافظات التي يمثلها تحالف "السيادة"، أو صراع الزعامات الذي عاد إلى الواجهة.
كما أن "السيادة" يسلك مؤخراً سلوكاً يدعو للتهدئة بين الأطراف، وعدم التدخل بالصراع الواقع بين الأطراف الشيعية، على عكس ما حدث في بداية الأزمة، لكن الحلبوسي ما زال متمسكاً بالصدر لأنه يخشى بعض قادة "الإطار" الذي يصرون حتى الآن على عدم طمأنته حول ثبات رئاسته للبرلمان؛ لذا فهو يحاول بعض الأحيان لعب دور الوسيط بين الطرفين، لأنه يرى أن اتفاقهما سيكون ضامناً لاستمراره بموقعه أكثر من خلافهما، أيضاً.. فإن التوجه والتوجيه الدولي المؤثر على هذا التحالف، بحسب المعلومات، فقد غيَّر موقفه ودعا قادة السيادة ألّا يكونوا جزءاً من محاولة كسر المكون الاجتماعي الأكبر.
السيناريو الأول: المواجهة المسلحة!
ذهبَ عدد من المحللين والمراقبين إلى الاعتقاد بأن القوى الشيعية ذاهبة إلى الصدام المسلح الحتمي، عازين ذلك إلى خطاب الصدر الأخير وتهديده، ولكن من ينظر بعمق، يعرف أن الصدريين لا يقدرون في هذه اللحظة على مواجهة فصائل المقاومة مثلاً التي تدعم الإطار، لأن الثاني أكثر عدداً وأقوى عُدةً، كما أن المعلومات تشير إلى أن التيار الصدري، بما فيه "سرايا السلام"، غير مهيئين لمواجهة قريبة على الإطلاق، خصوصاً بهذا الحجم الذي يتم الحديث عنه، لكن يتضح أيضاً أن الماكينات الإعلامية للتيار الصدري، تحاول التلويح بهذا الخيار بشكلٍ أو آخر، لأسباب عديدة تتعلق بتأجيج الرأي العام واستخدامه كورقة ضغط، مع أنهم يعرفون أن هناك عدداً من فصائل المقاومة، توصل رسائل جهوزية في حالة أراد الصدريون المواجهة، مع أني أرى أن كلا الطرفين غير جاهز للمواجهة، لأنها بلا شك ستؤدي إلى خسارتهما سوياً؛ لذا يجدر عدم ترجيح هذا السيناريو، مع أنهُ سيبقى احتمالاً قائماً ولو ضئيلاً حتى نهاية الأزمة.
تعليق خارج الحياد: كان على العراقيين أن يعرفوا منذ البداية، أن دعم السلاح- أي سلاح خارج إطار الدولة- وبأي شكل من أشكال الدعم، وبالأخص الدعم السياسي، خطيئة تؤدي إلى كوارث يصعب النجاة منها، ولو أدركوا ذلك منذ اللحظة الأولى، لما كان هذا السيناريو مطروحاً من الأساس!
السيناريو الثاني: الدعوة إلى انتخابات مُبكرة
مسألة حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، تبقى سيناريو محتمل الحدوث بشكل كبير إذا ما رأينا أن الانسداد غير قابل للتفكك، ولكننا إذا نظرنا لمسائل مثل ما اكتسبته الأطراف المتصدرة في الانتخابات الأخيرة، وإدراك هذه الأطراف أنها مكتسبات غير قابلة للتكرار، بالإضافة إلى عدد المستقلين الذي يقرب من 50 نائباً، والذين يرون أن الظروف التي ساعدتهم للظفر بالمقعد النيابي في تلك الانتخابات، لن تتجدد إذا ما أُعيدت، يجعل فكرة أن يحل البرلمان نفسه- وهو شرط دستوري لا سبيل غيره- صعبة جداً، أيضاً لا بد من استذكار إلزام المحكمة الاتحادية للبرلمان بتعديل القانون الانتخابي، والذي قد يكون سبباً في إشعال انسداد آخر، باعتبار أن القوى سيصعب أن تتفهم فيما بينها حول القانون الجديد، إذا استمرت بهذه الفُرقة والتصعيد.
السيناريو الثالث: تحالف الصدر مع جزء من "الإطار"
سعى الصدر منذ اللحظة الأولى إلى جذب جزء من الإطار للتحالف معه، سعياً منه لتفكيك الإطار التنسيقي، ابتدأه بوضع ڤيتو على التحالف مع المالكي، مع عرضه التحالف مع جميع أطراف الإطار الأخرى، ثم عاد مجدداً ورفع هذا الڤيتو بعد أن رأى إصرار الإطار على الرفض، لكنه اشترط أيضاً ألا يأتي الإطار جميعه؛ حيث اشترط عليهم أن يأتوا بـ50 نائباً كحد أقصى، مبرراً ذلك بأنه يريد ما يطلق عليه "حكومة أغلبية"، مع أن الرأي المُرجح يظن أن الصدر يفعل ذلك، كي لا يوجد أمامه موازن شيعي نوعي في معادلة الحكم يمنعه من السيطرة التامة عليه، لأن الإطار بعدد مقاعده كاملةً، سيمثل عقبة أمام طموحات الصدر في التوسع للسيطرة على الدولة بشكل غير مسبوق، لكن الإطار بقي مصراً على موقفه بعدم التوافق معه إلا مجتمعين، وهو ما يجعل هذا السيناريو حتى اللحظة غير قابل للتحقق.
السيناريو الرابع: معارضة الصدر
تكرر تلميح الصدر بإمكانية ذهابه إلى المعارضة، وإن فعل الصدر ذلك حقاً، فهذا قد يعني تفكك تحالف إنقاذ وطن، لأن السيادة والديمقراطي لا نية لديهما في الذهاب إلى المعارضة، لأسباب عديدة تتعلق بوضعهما وفلسفة عملهما السياسي، مما قد يوفر للإطار مساحة أوسع للتحرك لتشكيل الحكومة، لكن الإطار حتى اللحظة لا ينوي السعي لتشكيل حكومة دون مشاركة الصدر، والصدر برأيي لن يجازف حقاً في الذهاب إلى المعارضة، ويفوّت الفرصة التي لن تتكرر في توسعه داخل الدولة، وهذا السيناريو إن تحقق، فيعني اشتعالاً في الشارع لن يجعل لأي حكومة إمكانيةً لاستقرارها.
السيناريو الخامس: اتفاق الصدر مع كل "الإطار"
شخصياً، ما زلتُ أُرجح هذا السيناريو، ففي النهاية سيدرك الصدر أن لا فرصة لتشكيل حكومة يمكنها أن تستقر لعامين كأقصى تقدير، إلا بتوافقهِ مع الإطار، وأن كل هذه المراوغات لا نفع فيها له، ولن تحقق لهُ زيادة مكتسبات، بقدر ما ستضعفه شيئاً فشيئاً كما يحدث منذ مراوغتهِ الأولى، وقد تكون كل خطاباته وإصراره حجةً يلقيها على جمهورهِ بعد توافقه مع الإطار، باعتباره لم يترك سبيلاً إلا وفعله، كما بيَّن في تغريدته يوم الأحد الماضي، لأني لا أراه مستعداً للمجازفة بما يمكنه كسبه في هذه المرحلة.
ولكن يجدر التنويه: أن حتى هذهِ الحالة، لن تنتج حكومة ناجحة حقاً، ولن يلحظ الناس تطوراً ملموساً في واقعهم، ولكنه سيكون سيناريو أهون من بقية السيناريوهات، وقد يدفع أزمات أكبر.
تعليق أخير
بالتأكيد يمكن أن يتحقق واحد من هذه السيناريوهات، وإن استبعدنا بعضها الآن، وقد تتوفر سيناريوهات أخرى، فالثابت الوحيد هو المتغيِّر، لكن كل السيناريوهات، ليسَ فيها أمل يُرتجى، سوى أن بعضها أهون من الآخر، وسبب بذلك فقدان التوازن في المعادلة الحالية نتيجةً لما أفرزته الانتخابات، وهو ما تجدر ملاحظتهُ دوماً؛ لأن العراق إذا أراد نجاحاً، فلا بد لهُ من استقرار، والاستقرار لا يمكن أن يتحقق عراقياً، إلا بالتوازن والتعامل المتوازن، في كل الساحات والمجالات، كما كتبتُ سابقاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.