مثّل صوت الأنفاس الثقيلة في فيلم "الحرّيف" خياراً فنّياً موفّقاً وبديعاً من المخرج محمّد خان، ضمن خليط لعب فيه الصوت دوراً كبيراً لتبيان دواخل شخصيّة البطل عادل إمام، "فارس"، فمنذ البداية يحضر الصوت بقوّة في مواضع الضغط اليوميّ الرتيب، في مكان العمل والشارع وحتّى المقهى الذي لا تجد فيه الشخصيّة مهربها، بل تبقى عند حالة التوتّر والضيق، ليكون متنفّسها في لحظة التفوّق والإبداع أثناء لعب كرة الشارع. يبدأ هتاف الجماهير صاخباً في البداية إلى جانب ما يجري في المدرج من رهان وتعليق وتفاعل، لكنّ كلّ ذلك يخفت ببلوغ شخصيّة فارس ذروة اندماجها وأدائها في اللعبة لصالح أنفاسها الثقيلة أو متنفّسها، يعضدها خيار الحركة البطيئة Slow-motion، ومن ثمّ ترافقها الموسيقى ذات الطابع الحالم، في تدرّج يُكسي تلك اللحظة ما تستحقّ من أهمّية، لتنطبع وتؤثّر بعمق في ذهن المتفرّج.
يجعل المخرج من تلك اللحظات أثناء اللعب المتنفّسَ الوحيد ذا القيمة للشخصيّة. حتّى الرغبة لا تلعب الدور نفسه؛ إذ العلاقة الجنسيّة مع المطلّقة لا تكفل ذلك، فبعد المضاجعة وتبادل قُبلٍ مطوّل أكثر بكثير من اللزوم في لحظة كانت المطلّقة راغبة بما هو أكثر فيما فارس أقرب إلى الاكتفاء والإحجام. ليضعنا المخرج فور خروج الشخصيّة إلى الشارع أمام مشهد لرجلٍ يتقيّأ، ويلعبُ الصوتُ دوره كالعادة مسهماً في جعل المتفرّج يقطع مع ذلك الحدث. وندخل لاحقاً عالم "فارس" غير المتّزن من حيث علاقته بابنه ومطلّقته الراغبة بالزواج بغيره، ومشكلاته الماديّة، وماضي نزعة العنف عنده، وعرض العمل الذي يتلقّاه من صديقه كسبيل للتغيير.
ومع التأزّم والشّك، تغيب الأنفاس أو المتنفّس عن مباراة فارس اللاحقة؛ إذ يبيعها نكاية بالسمسار الخسيس وبقصد توفير المال. تتعقّد الأمور في أكثر من جانب، لتفتر الرغبة في اللعب ولا يجد البطل المتعة ولا المتنفّس في اللقاءين التاليين؛ حيث يبرز منافس جديد أصغر وأكثر حيويّة، كأنّما هو الإشارة لأنّ زمن فارس في مستطيل كرة القدم قد ولّى.
ومن هناك نسير نحو الانفراج بقبول فارس عرض العمل الذي رغم ما يشوبه سيكفل حلّ مشكلاته، ومع حصوله على السيّارة بما ترمز من ارتقاء في السلّم الاجتماع وما تمثّل من حلّ نحو التوازن المنشود، يقودها في الشوارع والأزقّة الشعبيّة التي كان يجوبها راجلاً كتبيان للتحوّل ينتهي إلى عودة تلك الأنفاس أو إيجاد المتنّفس لكن بدرجة أقلّ من السابق. تجتمع العائلة في السيّارة، لكنّ الإشباع عند شخصيّة فارس لا يكتمل بحكم حاجتها إلى إنهاءٍ يقطع مع هذه المرحلة من حياتها، لذا تذهب لخوض مباراتها الأخيرة. تحضر الموسيقى منذ دخولها المباراة الدائرة ترافقها أصوات الجماهير الصاخبة. ينجح فارس في قلب نتيجة الهزيمة الثقيلة إلى تعادل، ويصير النصر قريباً، وتحضر الأنفاس مجدّداً أثقل وأقوى وأبلغ مع بلوغ تلك الذروة والاندماج تحقيقه النصر والإنهاء الذي يريد.
خلاف عادل إمام وخان
رغم ما شاب العمل من نقائص في تصوير مجريات المباريات، ربّما بحكم ضعف ورداءة المعدّات في تلك الفترة، وأزمنة التصوير الجدّ قصيرة للأفلام المصرية، بما لم يكفل شغلاً جيّداً في تصويرها، إلّا أنّ خيار التصوير في إطار شعبيّ وسط جماهير حقيقيّة إلى جانب عمق التصورّ والطرح الفنّي جعلنا نرى واحداً من أفضل الأفلام المصريّة، وأحد أهم الأعمال فنّياً في مسيرة عادل إمام التي طغى عليها التجاريّ وهوس الشبّاك. غير أنّه كان سبب خلاف وجفاء بينه وبين المخرج الراحل محمّد خان، ردّه هذا الأخير في حوار له إلى فشل الفيلم تجارياً، لكن حسب ما يروي الكاتب اللامع بلال فضل في برنامجه "الموهوبون في الأرض" فإنّ عادل إمام استهجن خيار جعل صوت الأنفاس على ذلك النحو؛ إذ كان زائداً عن الحدّ بما جعل الجماهير تنفصل عن الفيلم.
الأرجح أن فئة الجماهير التي سخرت من صوت التنفّس هي تلك التي اعتادت من عادل إمام على صنف أفلام تجاريّة شعبيّة "خفيفة"، غرق فيها لسنوات طوال، وبالتالي لم تجد ضالّتها في فيلم الحريّف بما جعله يفشل تجارياً في وقت كان عادل إمام نجم الشبّاك الأوّل بلا منازع. ورغم الاحتفاء بالقيمة الفنيّة لـ"الحريف" والإشادة بالطرح الفنيّ لمحمّد خان فيه الذي ازداد وتصاعد على امتداد السنوات التالية، فإنّ هوس الشّباك غلب على عادل إمام وأبقاه عند رأيه ذاك.
بالمقابل أشاد أحمد زكي بـ"الحرّيف"، وندم كثيراً لإفلاته منه، رغم أنّه في ذلك الموسم تفوّق على عادل إمام تجاريًّا. حتّى إنّه هاجم ناقداً أشاد بذلك التفوّق؛ إذ رأى أنّ فيلمه عاديّ جداً مقارنة بالمستوى الفنّي المتميّز لـ"الحرّيف". وكان محمّد خان قد اختاره في البداية للعب دور البطولة في الفيلم بتصوّر للشخصيّة بشعر كثيف مجعّد وشنب، إلّا أنّ أحمد زكي ذهب إلى الاستوديو حليق الرأس متحدّياً المخرج، فما كان من خان إلّا أن استبعده ومنح الدور لعادل إمام. ولازلتُ أتخيّل، ودون انتقاص من أداء عادل إمام، ماذا لو كان الفيلم من نصيب الفذ أحمد زكي، وبملامح كما تصوّرها محمّد خان!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.