على الرغم من مرور 74 عاماً على النكبة الفلسطينية، فإن آثارها ما زالت باقية حتى يومنا هذا، وما إنشاء دولة الاحتلال الإسرائيلي في قلب المشرق العربي، إلا واحدة من نتائجها العديدة، وهو حدث ما زالت تداعياته قائمة. وشكلت النكبة أولى جراحنا الغائرة، التي ما زادتها الأيام إلا انكلاماً، وما آخرها ما يجري في الأقصى من اعتداءات وفي القدس من تهويد، واستمرار الاحتلال في قتل الفلسطينيين جهاراً نهاراً، وآخرهم الإعلامية القديرة المغدورة شيرين أبو عاقلة.
وفي الحديث عن النكبة فقد أسفرت عن تحويل جل سكان فلسطين حينها إلى لاجئين، انتقلوا قهراً إلى الدول المجاورة، إلى جانب ما رافق مجرياتها من مجازر فظيعة وتدمير عشرات المدن والقرى الفلسطينية، وبحسب الإحصاءات الفلسطينية احتلت العصابات الصهيونية حينها احتلال أكثر من ثلاثة أرباع مساحة فلسطين التاريخية، إضافةً إلى تدمير 531 تجمعاً سكانياً، وتشريد نحو 800 ألف فلسطيني.
وفي سياق تسليط الضوء على بعض محطات النكبة في القدس المحتلة، نتناول في هذا المقال بعض المحطات التاريخية للنكبة في القدس المحتلة، وما ترتب عليها من نتائج وتطورات، فعلى الرغم من عدم تمكّن العصابات الصهيونية من احتلال الشطر الشرقي من المدينة حينها، إلا أن القرى الفلسطينية في شطرها الغربي ذاقت ويلات ومحناً، ووصلت المعارك إلى المدينة، وعانى أهلها تبعاتها حتى احتلال كامل أجزاء المدينة عام 1967.
القدس شرارة الثورات الفلسطينية
تشكل القدس نقطة أساسية للصراع مع الاحتلال ومواجهة مخططاته، ويمكن وصفها بأنها مفجرة الأحداث والثورات في فلسطين، فمنها خرجت أبرز الثورات والهبات الفلسطينية إبان الاحتلال البريطاني لفلسطين، ومن ثم بعد قيام دولة الاحتلال، وكان آخرها الهبة الفلسطينية الشاملة، ومعركة "سيف القدس" في عام 2021.
وفي المراحل التاريخية الماضية انطلقت من القدس انتفاضة النبي موسى عام 1920، وثورة البراق عام 1929، وصولاً إلى مشاركة القدس الفاعلة في ثورة عام 1936، وقام الثوار الفلسطينيون بشن عددٍ كبير من العمليات النوعية، التي استهدفت الوجود اليهودي في المدينة، أو مواكب وعناصر من قوات الاحتلال البريطاني في المدينة، وعلى الرغم من ضعف التسليح للمقاومين الفلسطينيين، إلا أنهم استطاعوا تشكيل حالة مقاومة تركت بصمتها في مجريات ثورة 1936.
معارك القدس في عام 1948
وعلى أثر تطلع الفلسطينيين إلى استحداث حالة مقاومة، بدأت المنظمات الصهيونية التحضير للمعركة القادمة في القدس المحتلة، فمنذ عام 1945 أطلقت استعداداتها العسكرية في المدينة، وبلغ أعداد المقاتلين الصهاينة عشية قرار تقسيم فلسطين نحو 2500 مقاتل من منظمة "الهاغانا"، إضافةً إلى العديد من عناصر منظمتي "الإيتسل" و"الليحي"، اللتين كانتا تمتلكان ترسانة عسكرية كبيرة، حصلت عليها بدعمٍ من سلطات الاحتلال البريطاني.
وعلى الرغم من حجم الاستعداد الصهيوني، أمسك العرب زمام المعركة في مدينة القدس، حيث استطاعوا فرض الحصار على الأحياء اليهودية متجاوزين الأعداد الكبيرة للمقاتلين من المستوطنين، وفرضوا مراقبة مشددة على مداخل القدس ومخارجها، وعلى الطرق التي تربط المدينة بباقي المناطق الفلسطينية، وهو ما منع اليهود من إرسال أي دعم للأحياء اليهودية في المدينة، حيث تحولت قوافل المؤن والعتاد إلى كمائن تسبب خسائر فادحة للمستوطنين، وأمام هذا الواقع قرر بن غوريون إطلاق حملة عسكرية تكسر الحصار المفروض، وتوصل الدعم لليهود في المدينة، ووضعت القيادة الصهيونية في خططتها استهداف أكبر عدد من القرى الفلسطينية، وتهجير سكانها منها.
أطلق على هذا الهجوم الخطة "د"، وانطلقت في الأول من نيسان/أبريل 1948، بمشاركة 1500 جندي يهوديّ، وخلال تحركها ارتكبت القوات الصهيونية مجازر في قرى دير ياسين والقسطل، واحتلت العديد من القرى المحيطة، وفي 10/4/1948 فتحت قوات الاحتلال الطريق إلى مدينة القدس، واستطاعت قوات يهودية أخرى احتلال المرتفعات المطلة على ممر باب الواد، وفي 20/4/1948 أعادت القوات العربية السيطرة عليها، وعلى الرغم من هذا استطاعت القوات اليهوديّة إدخال كميات ضخمة من المؤن والأسلحة إلى الأحياء اليهودية في القدس وكان لاستشهاد عبد القادر الحسيني أثر سلبي على معنويات المدافعين عن القدس، لما له من دور جوهري في الثورات الفلسطينية وفي معركة القسطل.
جبهة حي الشيخ جراح ما بين عامي 1947 و1948
تنبه أهالي سكان حي الشيخ جراح إلى طمع العصابات الصهيونية للحي نتيجة موقعه الاستراتيجي، فعملوا على شراء بعض قطع السلاح، واستعانوا بعددٍ من القرويين ليساعدوا سكان الحي على الحراسة والقتال، وشهد الحي أولى العمليات القتالية في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 1947 في اليوم التالي لإصدار قرار التقسيم، حيث ألقيت في الحي أول قنبلة على باصٍ يهودي كان يمر في الحيّ في طريقه إلى الجامعة العبرية، ما أدى إلى جرح مستوطنين، واستمر استهداف الحافلات والسيارات الصهيونية التي تمر في الحي طوال شهر كانون الأول/ديسمبر 1947.
وجرت في الحي معارك عديدة خلال أحداث 1948، ففي بداية العام قام قائد حامية الشيخ جراح محمود جميل الحسيني مع مجموعة من المناضلين بنسف أول بيت يهودي قريبٍ من الحي، وفي 10 كانون الثاني/يناير قامت معركة بالحي أسفرت عن مقتل 3 مستوطنين، وجرح 7 آخرين، وبحسب المؤرخ الفلسطيني عارف العارف، استعمل الفلسطينيون في هذه المعركة لأول مرة الرشاشات المعروفة بـ"البرن". وفي 13 كانون الثاني/يناير اندلعت معركةٌ أخرى دامت ساعتين، فتضرر 20 منزلاً في الحي جراء قصف العصابات الصهيونية.
وانتهج الفلسطينيون استراتيجية القنص منذ بداية شهر شباط/فبراير 1948، على أثر تلقي العصابات الصهيونية دعماً بريطانياً كبيراً، وتدخل عشرات من الجنود والمصفحات البريطانية، فكانوا يقنصون المستوطنين قرب الحي والمناطق المجاورة. وفي 13 نيسان/أبريل 1948، اندلعت بحسب العارف "أكبر المعارك التي حدثت في بيت المقدس"، فقد هاجمت مجموعة من المقاومين من جيش "الجهاد المقدس" قافلة صهيونية لعصابة "الهاغانا" كانت في طريقها إلى مستشفى "الهداسا"، وسقط من العصابات الصهيونية عشرات القتلى على أثر الانتصار الفلسطيني في هذه المعركة. واستطاع الحي الصمود حتى احتلال الشطر الشرقي من القدس عام 1967.
تصعيد عسكري على أثر قيام دولة الاحتلال
أعلنت سلطات الاحتلال البريطاني انسحابها من فلسطين في 15/5/1948، وللاستفادة من حالة الفراغ التي سيتركها هذا الانسحاب، تأهبت "الهاغانا" وقوتها الضاربة "البلماح"، لشن حملة عسكرية جديدة تستهدف احتلال مدينة القدس، واستهدفت هذه الحملة سد الفراغ الذي ستتركه القوات البريطانية المنسحبة، والسيطرة على مفاصل المدينة قبل الموعد المقرر لإعلان دولة "إسرائيل".
وعلى أثر هذا الهجوم، شهدت الأيام اللاحقة لانسحاب القوات البريطانية معارك شديدة في مدينة القدس، حتى أطلق المقدسيون على الأيام الخمسة ما بين 14 و19 أيار/مايو "الأيام الحمراء" لشدة المعارك وضراوتها، وسقط العديد من الشهداء، وامتلأ مستشفى الهوسبيس وهو الوحيد في القدس بالجرحى، وقاتل المقدسيون ومن صمد في المدينة من المجاهدين العرب في وجه الهجمة الصهيونية.
وفي صباح 14/5/1948 انسحب الجيش البريطاني من القدس، وتم إنزال العلم البريطاني عن قصر المندوب السامي، وفي الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم غادر المندوب السامي السير ألن كننغهام المدينة، من دون أن يودعه أحد من الفعاليات. ولم تكد سيارة المندوب السامي تغادر القدس، حتى بدأ اليهود هجومهم على المدينة على كل الجبهات، مستهدفين السيطرة على الأماكن الاستراتيجية التي كان يشغلها البريطانيون.
كانت حدة المعارك بين العرب واليهود في مدينة القدس شديدة، حيث ركزت "الهاغانا" قواتها الرئيسة على المنطقة الواقعة جنوب شرق القدس في فندق الملك داود ومنطقة السكة الحديدية، قامت قوات "الأرغون" باحتلال الشيخ جراح، وحاولت القوات الصهيونية احتلال القدس القديمة عدة مرات، وحاولوا إضعاف المقاومة العربية من خلال قصف المدينة بالمدفعية، ثم هاجمت كتيبة إسرائيلية المدينة من باب صهيون في الجنوب، وأخرى من الباب الجديد في الشمال. وقد ردَّت الكتيبة الثانية بعد أن تقدمت مسافة قصيرة داخل المدينة، في حين فشلت الكتيبة الأولى في الوصول إلى باب صهيون.
استطاعت القوات الصهيونية فرض حصار شديد على البلدة القديمة، التي أصبحت ممتلئة بالمقاتلين وسكان القدس وما فيها من لاجئين، وفي 17/5/1948 استطاعت قوات "الهاغانا" إحداث ثغرة كبيرة في سور المدينة عند باب النبي داود، بعد هجوم كاسح على طول جبهة المدينة، واستغلت "الهاغانا" هذه الثغرة وأدخلت المؤن والعتاد إلى الحي اليهودي، وتمركز عناصرها داخل الحي بالقرب من المسجد الأقصى، ما رفع معنويات اليهود في الحي بعد حصار طويل، وأعطتهم دعماً للاستمرار في الحرب.
ومع هذا الوضع المتدهور في القدس، وصلت إلى المدينة كتيبة من الجيش الأردني، ونجدات من رام الله وبيت لحم، ومتطوعون من جماعة الإخوان المسلمين، وقامت كتائب جيش الإنقاذ المتمركزة في النبي صموئيل بقصف الأحياء اليهودية، ما أسهم في تخفيف الضغط عن البلدة القديمة، وشكل وصول القوات الأردنية النظامية والتطوعية إلى القدس انفراجةً للوضع العسكري في المدينة، ما دفع اليهود إلى النزوح عن الحي اليهودي في البلدة القديمة خوفاً من ردة فعل العرب.
نهاية المعارك.. وبعضٌ من آثارها
استمرت المعارك حتى 26/5/1948، وتحول سيرها إلى الجانب العربي، حيث صدت القوات العربية قوات "الهاغانا"، وفرضت حصاراً شديداً على الحي اليهودي، واستمر قصف الحي حتى 28/5/1948، فطلب المحاصرون في الحي الاستسلام، وتضمنت شروط الاستسلام تسليم السلاح والذخائر الموجودة بحوزة السكان، وأسر جميع المحاربين، وبعد توقيع اتفاقية الاستسلام أخذ العرب 340 أسيراً، وأخلي الحي اليهودي من سكانه الذين بقوا حتى نهاية المعارك.
وعلى الرغم من الأحداث القاسية التي مرَّت على سكان المدينة، شكلت النكبة محطة لرفع التضامن بين مختلف شرائح المجتمع المقدسي، فقد لجأ إلى المدينة فلسطينيون من مختلف المناطق التي شهدت مجازر وتم تهجير سكانها، وتلقى اللاجئون في المدينة المساعدة من دون أي اعتبار لأي خلفية دينية أو ثقافية، فقد صهرت النكبة المقدسيين، ورفعت من قدرتهم على مواجهة الأخطار والمحن.
وعلى صعيدٍ آخر انعكست النكبة سلباً على موقع مدينة القدس، حيث تراجعت مكانتها بعد احتلال باقي الأراضي الفلسطينية، فبعد ازدهار القدس في نهاية القرن التاسع عشر، وتطور مساحتها وخروجها خارج الأسوار القديمة، وإنشاء العديد من الأحياء التي ضمت أنماط عمارة جديدة، ومرافق عامة كالمدارس والكليات وغيرها، ورافقت هذه الطفرة ازدهار في النواحي الاقتصادية والثقافية، أجهضت النكبة هذه النهضة المقدسية، ما أثر في التركيب الاجتماعي والاقتصادي لها، ما دفع العديد من أبناء المدينة إلى مغادرتها في محاولة لتجاوز هذه الصعوبات.
وعلى الرغم من الخسائر الشديدة التي مُني بها الفلسطينيون والمقاومون العرب، شكلت أحداث النكبة في القدس نموذجاً عن قدرة العرب في مواجهة مشروع الاحتلال، وقناعة بأن إنقاذ الشطر الغربي من القدس عام 1948، كان مشروعاً ممكناً لو تضافرت الجهود عليه، ولكنها دروس لم يتم الاستفادة منها بعد سنوات قليلة، عندما استطاعت القوات الإسرائيلية احتلال القدس وفي القلب منها المسجد الأقصى المبارك عام 1967، وهناك قصة أخرى عن نكسة مُني فيها جيل بأكمله، وعن مدينة تعاني التهويد والأسرلة منذ نحو 55 عاماً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.