روّجت لقضايا حقيقية ولم تركض وراء الشهرة.. ما يجب أن يتعلمه “المؤثرون” من شيرين أبو عاقلة

عدد القراءات
6,258
عربي بوست
تم النشر: 2022/05/16 الساعة 13:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/05/16 الساعة 13:08 بتوقيت غرينتش

في صباح يوم الأربعاء، الموافق 11 مايو/أيار 2022، استيقظت امرأة من نومها مبكرةً جداً، ربما لم تتمكن حتى من احتساء كوب الشاي وتناول فطيرة الصباح. ارتدت ملابسها سريعاً، قادت سيارتها وذهبت لمكان عملها.

وفي صباح اليوم ذاته، استيقظ العالم على خبر مقتل هذه المرأة!

"شيرين أبو عاقلة"، امرأة فلسطينية، ومراسلة صحفية مخضرمة، كانت تغطي، صباح ذلك اليوم، خبر اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مخيم جنين، لكنّها أصبحت الخبر بعدما قتلها قناص إسرائيلي برصاصة في الرأس، رغم ارتدائها سترة الصحافة وخوذة الحماية الخاصة بالصحافيين.

"استشهاد شيرين أبو عاقلة مراسلة الجزيرة برصاص جيش الاحتلال، خلال تغطيتها لاقتحام مخيم جنين"، بهذا العنوان أعلنت شبكة الجزيرة مقتل مراسلتها في الأراضي الفلسطينية "شيرين أبو عاقلة"، بعد نحو ربع قرن من عملها الفريد.

25 عاماً عملت فيها "أبو عاقلة" مراسلة صحافية، وربما كانت تعد نفسها شخصاً عادياً يتابعه الجميع عبر شاشة التلفاز، فلا تتتبع الصحف أخبارها الشخصية، ولا يتهافت مستخدمو الإنترنت على متابعة صفحاتها الشخصية، لا تتعاقد معها شركات الأزياء، وليست من "مشاهير" "إنستغرام" أو "تيك توك"، ربما اعتقدت أنها شخص عادي، ولكن هل هي فعلاً كذلك؟

أطول جنازة في التاريخ الفلسطيني المعاصر

في مشهد مهيب لم يتكرر منذ زمن طويل، اجتمع آلاف الأشخاص في مدن فلسطينية مختلفة للمشاركة في تشييع جثمان الراحلة "أبو عاقلة". لم يكن مشهداً عادياً، آلاف الأشخاص من كل الأعمار والديانات والطوائف والخلفيات السياسية، اجتمعوا لتوديع أبو عاقلة.

بصرخات البكاء، والهتافات، والزغاريد والتصفيق ورشّ الأزهار، اجتمع هؤلاء الأشخاص ليخبروا شيرين كم أحبوها، وليشكروها على عمرها الذي أفنته في عملها لنقل معاناتهم.

وصفت جنازة "شيرين" بأنها الأطول في تاريخ فلسطين المعاصر؛ حيث حمل نعشها آلاف الفلسطينيين على أكتافهم، وانتقلوا به من جنين إلى القدس مسافة 75 كيلومتراً.

وفي أماكن أخرى من العالم، اجتمع مئات الأشخاص حداداً على روحها، أو تظاهراً على قتلها، فيما اكتسحت الجماهير العربية والفلسطينية مواقع التواصل الاجتماعي بمنشورات تمجدها وتحيي تاريخها. منهم من اختار أن يكتب لها رثاءً، ومنهم من رسمها أو أعد مقاطع فيديو لها، ومنهم من أخذ يعدد محاسنها، ومنهم من بكى في صمت.

وبالنسبة لمتابعٍ لأحداث المنطقة العربية؛ فليست مسافة جنازة شيرين وحدها المفاجئة، إنما الزخم الإعلامي والاجتماعي الذي حظيت به من صحفيين وإعلاميين وأفراد عاديين كان غير اعتيادي أيضاً. فهل حقاً كانت شيرين شخصاً عادياً يؤدي مهام عمله نهاراً، ويعود إلى بيته ليلاً؟  

شيرين أبو عاقلة.. نموذج للمؤثر الحقيقي

بعد استشهادها، تبيّن للملايين أنّ "شيرين أبو عاقلة" لم تكن شخصاً عادياً، بل ربما كانت إحدى الشخصيات الأكثر تأثيراً في حياتنا. ربما أدركنا ذلك متأخراً، لكن غيابها عن الحياة ربما وضع الأمور في نصابها. كشفت حالة الحزن الجماعية، وحجم التفاعل الضخم مع استشهادها كيف أثّرت شيرين في حياة الناس، وكيف استطاعت أن تكون أيقونة إعلامية ارتبط اسمها بـ"فلسطين"، واقترن عملها بمفهوم الشجاعة، وبنت الفتيات الصغيرات اللاتي تمنين أن يصبحن صحفيات أحلامهن على وقع صوتها وصورتها وهي تردد اسمها مع نهاية كل تقرير.

"شيرين"، التي لم نرها إلا بثوب الصحفية، كانت مثالاً فريداً على الصعيد الشخصي أيضاً.

ففي الوقت الذي تلوّث فيه عدد ليس بالقليل من الصحفيين باتباع المصالح الشخصية، والحيد عن المبادئ، قدّمت شيرين نموذج الصحفي المحترف المهني، الذي تبنى قضية عادلة طوال حياته، ولم يتزحزح عن مبادئه أو يتنازل عن بعض منها لقاء الحصول على امتيازات مالية أو مجد شخصي.

وعلى الرغم من جميع هذه المزايا التي قلّما توجد في شخص واحد، لم تستغل "شيرين" شخصيتها لترويج أو تسويق نفسها على مواقع التواصل الاجتماعي بوصفها "شخصية مؤثرة شهيرة" تسعى لحصد المتابعين و"اللايكات" من خلال مواقف أو أفعال مبتذلة، كما تجري العادة في هذا الوقت.

وعند إجراء عملية بحث بسيطة لحساباتها الشخصية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، نجد شيرين الإنسان البسيط، الذي يشارك صوره مع كلبه المفضل، أو صوراً للثلج، أو صوراً جمعتها مع أصدقائها. نجد مساحتها الشخصية التي استغلتها للتعبير عن قضايا الفلسطينيين والكتابة عن معاناتهم، والتفاعل مع المتابعين كافة، وبالطبع لم تخلُ صفحاتها من بعض المنشورات الطريفة التي عكست تواضعها وروحها الجميلة.

وعلى الرغم من لهاث الأشخاص حالياً خلف الشهرة، وفعلهم المستحيل ليحصلوا على آلاف المتابعات، وتحويل أنفسهم من أشخاص عاديين إلى ما يسمى "مؤثرين"، لم تسع شيرين إلى ذلك على الرغم من امتلاكها كل ما يخولها لفعل ذلك.

لم تستخدم "شيرين" عملها ومكانتها لتحول نفسها إلى شخصية تسعى للشهرة وامتلاك "الفانز"، فلم نر لها منشوراً واحداً عبر منصة إنستغرام مثلاً تستعرض فيه ثوباً فخماً ارتدته في زفاف صديقة، ولم نجد صوراً لسياراتها الفارهة. لم تشارك متابعيها زياراتها لمطعم فخم، أو إقامتها في فندق خمس نجوم. لم تتعاقد مع شركات تروج لسلعها، ولم تفتعل مواقف مصطنعة لتخبرنا في نهايتها عن منتج أحبته مع توصية بشرائه.

فالمتتبع لسلوك شيرين، باعتبارها شخصية يتابعها الملايين عبر التلفاز ويتابعها الآلاف عبر حساباتها الشخصية، يرى أنها حملت فكراً عميقاً لا حقيبة باهظة الثمن، وأنها تبنت قضية عادلة لا نهجاً استعراضياً، وأنها نشرت توعية لا منتجاً للعناية بالشعر أو الأظافر.

ندرك الآن، بعد استشهاد شيرين ورحيلها عن عالمنا، أنها لا تزال تقدم نماذج جديدة لتقتدي بها أجيال كاملة. فشيرين التي عُرفت أيقونةً صحفية، تقدم اليوم نفسها أيقونةً وطنية خدمت القضية الفلسطينية أكثر مما فعل الساسة والأحزاب. وتقدم نفسها نموذجاً كزميلة رائعة أحبها الجميع لمهنيتها وإخلاصها ومرونتها في التعامل مع زملائها، كما تقدم نفسها نموذجاً لإنسانة معطاءة عُرفت بتعاونها مع الجميع، وحبها لفعل الخير، واهتمامها بمساعدة الفئات الضعيفة حتى أثناء تأديتها لمهام عملها. وعند النظر لكل هذه العوامل مجتمعة، فشيرين تقدم نفسها نموذجاً حقيقياً وفعلياً لشخصية "المؤثر" الحقيقي الذي شوهته معايير التأثير والشهرة عبر منصات التواصل الاجتماعي حالياً. "المؤثر" الحقيقي الذي يصنع التغيير، ويترك أثراً حقيقياً في حياة الآخرين، ويساهم في دعم قضيته، ويترك مجداً لن ينساه التاريخ.

"أثر الفراشة لا يزول"

وبالحديث عن الأثر الذي تركته "شيرين" في الآخرين، نتذكر أن هناك أثراً أكبر من ذلك حققته لصالح إحدى أعدل القضايا في العالم، وهي القضية الفلسطينية.

فعند النظر إلى تطبيع بعض الحكومات العربية مع إسرائيل، وما فرضته من قيود على قنواتها الإعلامية المختلفة عند التعاطي مع الانتهاكات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، نجد أن القضية الفلسطينية تخوض حالياً صراعاً آخر من نوع مختلف؛ إذ أصبح جزء من الإعلام العربي والصفحات الموجهة عبر منصات التواصل الاجتماعي يلعب دوراً مهماً في التغطية على جرائم الاحتلال الإسرائيلي، ليس هذا فحسب، بل تبرير الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، وشيطنة الشعب الفلسطيني وكل ما يتعلق به.

ومن هنا تتضح أهمية الصحفي الحر لدى الشعب الفلسطيني؛ إذ يعد الصحفي الوفي لمبادئه والأمين في نقل الحقيقة دون تزييف أو تمييع، بمنزلة الشاهد والدليل على الانتهاكات الإسرائيلية، والفاضح لها، ليس على المستوى المحلي فقط، بل على المستوى الدولي.

والمتابع لمسيرة "شيرين أبو عاقلة"، الحافلة والممتدة لأكثر من 25 عاماً، يدرك أنها كانت من أفضل الذين أدّوا عملهم باحترافية ومهنية ووفاء لوطنهم في الوقت ذاته. حرصت "شيرين" دوماً على الوجود الفوري في مناطق الأحداث الساخنة؛ كالاقتحامات والاشتباكات، وحتى الحروب، وكانت تستمر بالتغطية المباشرة عبر كاميرا "الجزيرة" رغم المخاطر الي تلفها، وترفض الانسحاب من مكانها أو وقف عملها لمجرد تهديدها أو اقتراب الخطر منها.

طوال 25 عاماً، كانت شيرين توثق، وتنقل، وتفضح جرائم الاحتلال، وكانت بفكرها، وصوتها، ولغتها، وكلماتها، تدحض الرواية الإسرائيلية الكاذبة للأحداث، وتحارب صحفاً عالمية لا تتجرأ على ذكر جرائم إسرائيل، وأخرى عربية كانت تبررها أو تغير من حقيقتها.

لقد تركت شيرين خلفها أثراً كبيراً ممتداً، ليس في إرثها الصحفي فحسب، بل في شخصيتها وسلوكها والطريقة التي استثمرت بها خبراتها وشهرتها لخدمة قضيتها ومساعدة زملائها، والتأثير الإيجابي في ملايين الناس.

 يقول الشاعر الفلسطيني "محمود درويش" في قصيدته "أثر الفراشة":

أَثر الفراشة لا يُرَى

أَثر الفراشة لا يزولُ

هو جاذبيّةُ غامضٍ

يستدرج المعنى، ويرحلُ

حين يتَّضحُ السبيلُ

رحلت شيرين تاركة خلفها ملايين القلوب التي بكتها، وتذكرت محاسنها، وأحيت إنجازاتها. ليس هذا فقط، بل تسبب رحيل شيرين في إيقاظ بعض الضمائر التي أماتتها المصالح والفساد السياسي، وباتت قصتها مصدر إلهام لملايين الناس الذين عزموا أن تكون قدوتهم وبطلتهم التي يتتبعون أثرها، ويسيرون على خطاها ويتعلمون منها.

شيرين أبو عاقلة، المعنى الحقيقي للشخصية المؤثرة، والمثال العملي الذي يثبت أنّ الشهرة والتأثير لا تنحصر بالحياة اللامعة والاستعراض الفارغ، وإنّما بالصدق والإخلاص والأثر الطيب. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ندى نبيل
حقوقية وصحافية
حقوقية وصحافية أعمل كمديرة منصة هيوميديا الحقوقية الإعلامية وهي مشروع تابع للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.
تحميل المزيد