إذا حظيت بفرصة الظهور على التلفزيون الليبي، فعليك أن تهنئ القائد وأسرته الكريمة حتى بلا مناسبة!
عام 1999، كنت في مدينة طرابلس الليبية، وأوصاني صديق عزيز بحضور معرض للحاسب الآلي، فزرته واشتريت لشركتي بعض المعدات الخاصة والنادرة وقتها مثل الـ"موديمز" والـ"راوترز".
قبل عام من ذلك كان الحصول على تلك المعدات يتطلب موافقات أمنية؛ ففي طلبية لأجهزة كمبيوتر ومعدات ذات صلة لشركتنا، قام الأمن الداخلي بفك كل الـ"موديمز" الموجودة بالأجهزة، وقدمت الشركة طلباً لاستردادها، فأعطيت واحداً فقط.
قمت بزيارة جناح لشركة من بنغازي، مالكوها أصدقاء، ففرحوا بي وأحضروا المصور المرئي وقال لي: نريد منك كلمة عن المعرض بشكل عام، ولم يكلَّف أحد بالحوار معي، فبدأت باسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، وتكلمت لدقائق في مواضيع فنية وحول أهمية مثل هكذا مناشط، لم أتطرق فيهن لمعمر القذافي ولا أسرته، خاصة أن الوقت كان شهر أغسطس/آب ولا يزال هناك بعض الوقت على بدء الاحتفالات بالعيد الـ30 لثورة الفاتح.
بعد أن انتهينا من التسجيل، قلت للمخرج: لم نذكر الأعياد، ولم نهنئ الأخ القائد وأسرته الكريمة بالمناسبة، ولا الشعب الليبي العظيم، فما رأيك أن نعيد تسجيل المقدمة وأوصلها باللقاء بمعرفتك؟! فرد على ابتسامتي بابتسامة قائلاً: "برا"، وهي كلمة طرابلسية جميلة لها معانٍ متنوعة حسب السياق، "يا باشمهندس، توا انحطوا فقرتك في النص بعد أي لقاء تمت فيه المعايدة"، وما أكثرهن، وحقيقة ليس كل من يتحدث يعايد، لكن المخرج يعطي اللقاءات التي بها معايدة أولوية.
اختراع تأخر 30 سنة!
صيف عام 1998، دُمجت اللجنة الشعبية لمحافظة "الحزام الأخضر" مع "المرج"، وما يقع جنوب بنغازي ضُمَّ لها، واكتشف السيد مهندس سلطة الشعب، وهو أمين في مؤتمر الشعب العام، الضرورة الملحة لترشح حملة الشهادات العليا.
أمين اللجنة الشعبية النوعية للشعبية، المحافظة، يجب أن يكون حاصلاً على بكالوريوس في مجال تخصصه، مع خبرة 5 سنوات، أو ماجستير وخبرة سنتين، وسنه فوق الـ30، ويفضل أن يكون عاملاً بالقطاع الذي يصعد له، أي "ينتخب"، وهي كلمة محرم استخدامها؛ كونها "رجعية"، وكل رجعي مرتبط بالملكية.
ونسوا أو تناسوا أن أعظم دول العالم ملكيات، وأكثر الدول نمواً واستقراراً في العالم العربي هي ملكيات غير دستورية، فيما كانت المملكة الليبية دستورية. على كلٍّ تذهب الملفات لمكتب الاتصال باللجان الثورية لتحال إلى اللجنة الأمنية أولاً لقراءة ملفات أصحابها، ولكل ليبي ملفه الخاص به عند أجهزة الأمن، والبعض له ملفاتهم في مثابات اللجان الثورية بمناطقهم، يستثنى، ربما، من ذلك من ليس له علاقة بالدولة؛ بحيث لا يعمل وليست له متطلبات، ولا يجري استثناء المجانين أو فاقدي الأهلية، فتعود ملفات ويجري التحفظ على ملفات أخرى.
مكتب الاتصال باللجان الثورية يمثل أمانة الحزب الحاكم والوحيد، والمدثر تحت عباءة مسمى حركة، وحين تساءلت في عهد "الفاتح" عن الفارق بين الحركة والحزب في مقال، قالوا: إن الحركة أشمل وأبرك، أي إن في الحركة بركة. والحزبية مجرمة رغم أني للآن لا أجد فارقاً، وأعتبر الحركة "اسم الدلع" للحزب، وكتبت مقالاً في عهدهم عنوانه "1400 سنة ضوئية بين الثوريين والمجتمع المكي"، أما أمين اللجنة الشعبية، المحافظ، يجري الترشيد باسمه.
المحاصصة
كان مبدأ المحاصصة والتراضي هو السائد في كامل ليبيا عدا طرابلس؛ كونها تقيم بها "القيادة التاريخية الأولى"، وترنو، أو لنقل: تهفو، إليها أفئدة "القيادة العامة"، إضافة للحكومة وملحقاتها، أما بنغازي فقد دخلتها المحاصصات التي تعتمد القبلية متأخراً، مع اختلاف بسيط هو أن بها قبائل كثيرة وعائلات أكثر تنتج تحالفات هشة، يفوز فيها من يجمع رقماً أكبر من الأصوات.
هذا الأمر ينسحب على محافظة "المرج"؛ فقد قُسِّمت الحصص إلى طابورين: الأبيار، وهي طيف اجتماعي واحد، لها طابورها، وتشكيلات المرج الاجتماعية، ولها طابورها. وباعتبار قبيلتي لها حصتها التي تقسم على فرعين، وكل فرع تتبادل العائلات التي بداخله ما حصلوا عليه، ولأن "القرعة" أولاً جاءت بأمانة المرافق والإسكان والبيئة، عميد البلدية أو عمدتها، وهي واحدة، مع أمانات أخرى للفرع الذي أنتمي إليه، وباستبعاد من تحصل على نصيب في المرات السابقة، فقد آلت هذه الأمانة لعائلتنا، عملاً بقاعدة "اللي خذا قسمه ايواطي عينه"، وداخل العائلة وصلت إليّ خوفاً من ضياعها، كون أنه لا يوجد أحد تنطبق عليه شروط الترشح لها غيري.
أتذكر بعض الطُرَف التي إما حدثت أمامي أو لي؛ واحدة منها عام "الكوميونات" 1986 كنت مفصولاً من الجامعات الليبية لمدة سنتين، بناءً على قرار أمين اللجنة الشعبية لكلية العلوم حين كنت طالباً بشعبة "إعدادي طب"، بتوصية من لجنة تأديب بناءً على تقرير دكتور، رحمه الله وغفر له، فقد درسني لأقل من فصل، وبذا كانت شهادتي هي الثانوية العامة، وقد كانت شهادة كبيرة في مجال السلطة الشعبية وقتها. عرض على والدي أمامي منصب أمين المؤتمر، فرفضه رفضاً قاطعاً، وكان حاضراً أحد أقارب الوالد، وهو من رشح الوالد، فلم يعجبه رد والدي، وقال له: "حرام عليك تضيعها"، قال الوالد: وما أفعل بها؟! قال: "حط فيها واحد م العويل"، وحينها لم أكن أبلغ الثامنة عشرة، وأخي يصغرني بأربعة أعوام.
وفي عام 1994 كانت الحياة صعبة لا تطاق، وكنت عقدت قراني، والعقد يعطيك الفرصة للحصول على سلعتين معمرتين من أصل أربعة، وهي الثلاجة والتلفزيون، تختار بينهما، والغاز والغسالة، تختار بينهما. و"بختك نصيبك" إما أن تحصل على واحدة جيدة أو غير جيدة، لكن ثمنها في الشركة كان 5 أضعاف السعر الذي اشتريته بها، فإن حصلت على أقل الثلاجات جودة، وثمنها تقريبا 150 ديناراً فإنك تبيعها بـ750، وأوردت هذا لمن عمل قائمة سجل بها السلع الأساسية ووضع أمامها أسعارها، ونسي أن الجمعيات لا تعطي سوى 6 سلع وهي الشاي والسكر والسجائر، والدقيق والأرز، والطماطم، وسلعة معمرة كل عام تجري عليها قرعة بين كل منتسبي الجمعية، الذين تفوق كتيباتهم المائة، وكيس به تشكيلة ملابس سنوياً، ليس للحجم معنى فيها، بمعنى قد تكون بها أحجام كبيرة جداً أو صغيرة جداً، أما "الكرشة" التي تصاحب الفاصوليا، وتسبب غازات بالمعدة، فهي أهم من أن تكتب في كتيب الجمعية، وتتعداه لتكتب وتمهر بالختم في كتيب العائلة، مثلها مثل الأبناء والزوجة، لكنها لا تحضر أشياء أخرى، وحتى ما تحضره من سلع يباع نصفها أمام أقواس الفندق، ويجري تهريب جزء منها. سياسة الجمعيات الشيوعية المهجنة، وكأن المواطن الليبي وفقها لا يأكل إلا الأرز، ولا يشرب إلا الشاهي، أو الشاي السيرلانكي، أو شاي سيلان!
حتى عقود الزواج في ليبيا لم تسلم من البيع!
عموماً الحصول على ما يضمنه عقد الزواج لك، لا يتسنى إلا من خلال العلاقات الشخصية، وإلا عليك أن تبله وتشرب "ميته"، أيضاً هناك كمية تعطيها منشأة الذهب على كل عقد لا تتجاوز الـ70 غراماً من مخصص 150، فيعطونك أقل من 3 أوقيات ذهب، في حين كان الليبيون يشترطون وقتها 30 أوقية في أقله، أو قطعاً ذهبية تقترب من هذا الوزن، الذي يقترب من كيلوغرام ذهب، أو يزيد بين عاجل ومؤخر، وبالمناسبة للناس الطيبة التي تخرج زكاة مالها إن بلغ النصاب وحال عليه الحول، يجب عليهم أن يخصموا مؤخر الصداق غير المؤدى، لعل زكاة المال حينها تصبح غير واجبة، فهو دين في رقبة الرجل، وفي الغالب هو كيلوغرام من الذهب عيار 22.
وقف أمامي في الطابور شاب، أمام منشأة الذهب، في البلاد، أمام سوق الظلام التاريخي الذي هدم كغيره من معالم بنغازي بأوامر عليا. قدم الشاب العقد الذي بدا ممزقاً وغير واضح، فتجادل مع بواب المنشأة الذي خرج عن طوره وفقد صبره، وقال للشاب: والله عقدك هذا ما يمشي حتى في المرج، ملمحاً إلى تزوير رخص القيادة التي تجيك في بيتك، ولا أحد يعلم إن كنت مبصراً أم بصيراً. أنا من مدينة المرج، ولم يرق لي الوصف، باعتبار أن التزوير سوس نخر كل مناطق ليبيا وربما المرج أقلها، وهو فعلاً أقلها حين ثبت ذلك لاحقاً من خلال كشوف الازدواجية في العمل، التي كانت نسبة المرج هي الأقل فيها، إلا أني خفت من أن يمتد غضب بواب العمارة صاحب الإدارة إليّ؛ فيحرمني بأية حجة من غرامات الذهب، وهذا عام آخر، يمكن تسميته بعام الغرامات، نسبة إلى عام مجاعة قبيل الحرب الكونية الثانية، أضحى فيه كل شيء يوزع بالغرام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.