لم يكن الفتح الإسلامي للشام نهاية لسيطرة المسيحيين على مقاليد الأمور في الدولة، وإنما مثّل وجهاء المسيحية "دولة عميقة" لم يحاول الفاتحون المسلمون الاصطدام بها، بل على العكس تماهوا معها واستعانوا بها في إدارتهم للشام، وأبرز هؤلاء الوجهاء هم آل سَرجُون، الذين لعبوا دوراً بارزاً في الشام في أغلب فترات الحُكم الأموي لها.
وهنا يجب التأكيد على أن لقب "سرجون" ليس جديداً على الأراضي الشامية، فسبق أن حمله عدة ملوك أسسوا الدولة الأكادية التي حكمت أغلب مُدن سوريا قبل ما يزيد عن 2000 عام من ميلاد المسيح.
لم أعثر على دليل أثري قطعي يربط بين نسل الملوك الأكاديين وبين تلك العائلة الشامية العريقة، التي نالت من المجد والنفوذ شأناً كبيراً قبل الحُكم الإسلامي للشام وبعده، والمشهورة بلقب "سَرجُون" (بعض المصادر أسمتها "سرجيوس"، لكنها تسمية غير شائعة)، بل إن "سرجيوس" أيضاً كان أحد الأسماء العديدة التي نعرفها للراهب بحيرا الذي قابله النبي في الشام خلال رحلته التجارية.
في الحقبة الزمنية الحديثة، وأقصد هنا بها الوقائع التي تماست مع ظهور الإسلام، قدّمت لنا كُتب التاريخ ربّ العائلة منصور بن سرجون بِاعتباره الشخصية المؤسسية الأولى لمجد تلك العائلة المسيحية، والذي يعدُّ أحد المفاتيح المهمة لأي حاكم ينوي فرض نفوذ على الشام، وهو ما جعله حاضراً في الأحداث المفصلية من تاريخ المدينة، نائباً عن الأهالي ومتحدِّثاً بِاسمهم.
فحسبما يذكر محمد سهيل طقوش في كتابه "تاريخ الخلفاء الراشدين.. الفتوحات والإنجازات السياسية"، فإن جيوش المسلمين عندما حاصرت دمشق بشكلٍ مُحكم أجبر الحامية البيزنطية على الانسحاب، أيقن أهل دمشق أنهم مهزومون أمام المسلمين لا محالة، هنا قاد منصور بن سرجون مفاوضات الصُلح مع القائد العسكري خالد بن الوليد، والتي انتهت باستسلام المدينة أمامهم سنة 635م.
ويُضيف نجيب العقيقي في كتابه "المستشرقون"، أن منصور بن سرجون لم يكن فقط أسقف دمشق، وإنما القائم على بيت مالها أيضاً.
يقول البطريرك أغناطيوس الرابع هزيم في كتابه "لبنان في تاريخه وتراثه": إن الدور البارز الذي لعبه منصور بن سرجون في عمليتي الاستسلام والمفاوضة دفع بعددٍ من المؤرخين إلى محاولة تفسير هذا السلوك لمن افترض أنه يدين بالولاء للبيزنطيين بحُكم الوظيفة والانتماء الكنسي، فتحدّث نفرٌ منهم عن "خيانته"، فيما تمادى آخرون واعتبروا أن "منصور ارتكب أكبر خيانة بحق المسيحية في الشرق"، وكلها تفسيرات خطأ؛ فلقد كان منصور قارئاً جيداً للواقع، وعلم أن بلاده لن تصمد أبداً في حربٍ أمام المسلمين بعد تخلي البيزنطيين عنهم.
ويُضيف البطريرك، أن عمر بن الخطاب، لما زار بلاد الشام بعد اكتمال فتحها، وعقد اجتماعاته الشهيرة في منطقة الباجية لتقرير السياسة الواجب اتّباعها في حُكم البلاد المهزومة، ثبّت منصوراً في منصبه، ومنحه لقب "مولى حليف".
في عهد الأمويين
يقول عبد الشافي محمد في كتابه "السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي": إنه فور تدشين الدولة الأموية، وحرصاً منه على توحيد صفوف الجبهة الداخلية واستقطاب وجهاء الشام إليه، أبقى الخليفة الحاذق معاوية بن أبي سفيان على آل سرجون في مراكزهم قائمين على ديوان الخراج المركزي، وهو الوضع الذي استمرَّ طيلة عهود 3 خلفاء، هم: معاوية، ويزيد، ومروان بن الحكم.
كانت هذه الخطوة ضمن السياسة الكبرى التي اعتمدها الأمويين في حُكم البلاد المفتوحة، عبر الارتكاز على أبناء الأرض، وجذب ودّهم، حتى يكونوا دعائم راسخة تعين الدولة على النهوض. يقول أنستاس الكرملي في مقالة بمجلة "لغة العرب العراقية": إن حكومات العرب لم يكن لها في بادئ الأمر من العربية إلا اِسمها، بل كان ذلك في كل أيام حكمهم في دمشق؛ إذ كانت في أيام حكم الأمويين عربية المظهر، سورية الإدارة.
ويضيف عبد الشافي: لم يكن سرجون رئيساً لديوان الخراج فقط، وإنما كان مستشاراً سياسيّاً مسموع الكلمة عند الخليفة.
ليس هذا وحسب، وإنما نمت علاقة وطيدة بين أسرتي معاوية وسرجون دفعتهما لتنشئة أولادهما معاً، فتحكي كُتب التاريخ عن الصداقة الحميمة التي جمعت بين ولي العهد والخليفة المرتقب يزيد بن معاوية ورجل الدولة المنتظر يوحنا بن سرجون، بالإضافة إلى الشاعر المسيحي الشهير الأخطل التغلبي، الذين جميعاً تربّوا في بلاط القصر. كما أوردت دائرة المعارف الإسلامية، أن الأخطل احتفظ بعلاقته الجيدة رغم أنه لم يكن على مذهبهم الملكاني.
ويُضيف عبد العزيز علوان في كتابه "النقد الفني في التاريخ" أن أسرة سرجون تغمدت ابنها يحيى (يوحنا) مبكراً بالرعاية، ويسّرت له سُبُل حفظ الشعر العربي والإلمام بعلوم اللغة، حتى نشأ متبحراً في شتّى أنواع الثقافات المختلفة، وهو ما زاد من إعجاب يزيد به ورغبته في مُجالسته دائماً.
وبحسب البطريرك أغناطيوس الرابع؛ فإن معاوية أوصى، وهو على فراش الموت، بأن يشترك منصور بن سرجون مع الضحّاك بن قيس ومسلم بن عقبة في تسيير أمور الدولة حتى يأتي ولي عهده يزيد، الذي كان يقود حملة حربية في آسيا الصغرى، ويتسلّم مهام منصبه.
وبعد وفاة معاوية، احتفظ منصور بمكانته في البلاط الدمشقي اليزيدي، بل تقدّمه الكتب باعتباره الناصح الموثوق برأيه ليزيد، ووفقاً لما ذكره ابن الأثير في كتابه "الكامل" فإن سرجون لعب دوراً هامشيّاً في واقعة مقتل الإمام الحسين في معركة كربلاء، بعدما أشار على يزيد بتعيين عبيد الله بن يزيد والياً على الكوفة، وعقب توليته على المدينة التي نوى الحسين الزحف إليها وقع الصدام الدموي الشهير بين الحسين ومَن تبعه مِن آل البيت، وبين القوات الأموية.
الزمن يدور بآل سرجون
يقول الصولي في كتابه "أدب الكتاب": إن منصوراً استمرَّ كاتباً للخلفاء الأمويين حتى عهد الوليد بن عبد الملك، الذي "رأى منه توانياً"، فقرّر الإطاحة به من مكانه سنة 81هـ. ويبدو أن سرجون وصل حينها لقدرٍ عظيمٍ من النفوذ أجبر الخليفة على الاحتيال من أجل التخلُّص منه.
بحسب الصولي، قرّر الخليفة تحويل لغة الدواوين من الرومية إلى العربية، وهو ما يحتّم تغيير الكاتب إلى آخر عربي هو سليمان بن سعد، فهو أول مسلم ولي الدواوين، والذي قاد عملية التعريب، والتي كانت طريقة لبقة لإخراج سرجون من منصبه الذي بقي فيه طويلاً، وإزاء نجاح سليمان في مهمته كافأه الخليفة بـ150 ألف دينار.
وفي كتابه "تاريخ دمشق"، يقول ابن عساكر: إن الخليفة لم يُقدم على هذه الخطوة إلا بعد وفاة منصور بن سرجون، وعقب رحيله انتهز هذه الفرصة وسحب كافة الوظائف المالية التي كان يشغلها آل سرجون في الجهاز الإداري للدولة الأموية، محاولاً إنهاء نفوذهم التاريخي في الشام.
فماذا عن يوحنا الدمشقي؟
بعد تشدُّد قبضة الخلفاء الأمويين بحقِّ مسيحيي الشام، اختار يوحنا الدمشقي اعتزال العمل العام، ما بين عامي 718م و720م، والتحق بدير القديس سابا القريب من القدس، حيث قضى بقية حياته يشتغل في الأبحاث الدينية ويصنف كتباً أغلبها حقّق شهرة ساطعة في ربوع العالم المسيحي. وهو ما فنّده الدكتور جواد علي في مقالته عن سيرة يوحنا الدمشقي.
إن يوحنا الدمشقي بن منصور ورث من والده مكانته في نفوس الأمويين، وكان مقرّباً من الخليفة يزيد بن معاوية ومن أفضل أصدقائه، وعقب وفاة والده لم تتأثر مكانة يوحنا الدمشقي المرموقة في سوريا حتى خلافة هشام بن عبد الملك، حين آثر اعتزال الدنيا والمناصب الكبرى، والتحق بالخدمة في أحد أديرة فلسطين.
وخلال مكوثه في الدير اشتهر يوحنّا باطلاعه العميق على الثقافة الإسلامية، وهو ما اتّضح في كتبه اللاهوتية التي كان كثيراً ما يستشهد بآيات من القرآن أو بأحاديث عن النبي خلال سطورها، كما عارض عقيدة "الجبر والاختيار" التي سعى الأمويون لترويجها بين الناس؛ لحضّهم على الطاعة والقبول بأفعال الحاكم مهما كانت، وطيلة خدمته في الدير ألّف يوحنا الكثير والكثير من المؤلّفات حتى مُنح لقب "دفّاق الذهب".
وصفه المؤرّخ فيليب حتّى بأنه "مفخرة من مفاخر الكنيسة التي ازدهرت في ظِل الخلافة الأموية"، بل إن بعض المؤرخين العرب، مثل الدكتور جواد علي، يعتبرون أن مؤلّفات يوحنا كان لها أثرها على الفقه الإسلامي نفسه بعدما اعتبر بأنه ساهم في إشعال جذوة "علم الكلام" بين المسلمين. كما يعتبر حسين العودات في كتابه "صورة العرب لدى الآخر"، أن كتابات يوحنا هي التي رسمت صورة الإسلام في مخيلة البيزنطيين حتى نهاية القرن السابع الميلادي.
مصادر إضافية
عبد الشافي محمد، كتاب "السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي" ص284.
الصولي، أدب الكتاب، ص 193.
دائرة المعارف الإسلامية، الجزء الـ32، ص 10165.
لويس شيخو، النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية، ص 109.
الفرد والمجتمع في الإسلام، عبد الوهاب بوحديبة، ص 149.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.