"فقد اخترت الصحافة كي أكون قريبة من الإنسان، ليس سهلاً ربما أن أُغيّر الواقع، لكنني علی الأقل كنت قادرة علی إيصال ذلك الصوت إلی العالم".
منذ ساعات وأنا أشاهد فيديو استشهاد الصحفية الفلسطينية "شيرين أبو عاقلة"، لأكثر من مرة يصرخ الشاب الذي يحمل الكاميرا في زميلتها "شذى حنايشة"، ويطلب منها أن تظل في مكانها "مشان الله خليكي"، يصرخ وهو يحاول حماية شخص آخر من خطر الموت، الموت الذي يتسبب به الرصاص الإسرائيلي، والذي لا يموت به إلا الفلسطيني في أي وقت، فقط لأنه فلسطيني!
أنا شيرين أبو عاقلة
منذ الأمس وصور وخبر استشهاد شيرين تجتاح كل وسائل التواصل الاجتماعي. أشاهد الصورة فتنطق بلا صوت "أنا شيرين أبو عاقلة"، وأرد علی نفسي "أعرفك، ضحية جديدة من ضحايا الاحتلال الغاشم الذي يمارس إرهابه بموافقة الجميع".
ولدت شيرين نصري أنطون أبو عاقلة، في 3 يناير/كانون الثاني عام 1971، في القدس المحتلة، ومنذ طفولتها عرفت معاني كلمات أكبر من عمر طفلة صغيرة لا يتسع عقلها لكلمات مثل احتلال، غاشم، ظالم، صهيونية، قاتل. وغيرها من الكلمات التي يتعرف عليها كل فلسطيني ويشاهد أثرها علی أرض الواقع. درست شيرين في مدرسة "بيت حنينا" في القدس، ثم في جامعة اليرموك في الأردن، تخصصت في الهندسة المعمارية بناءً علی رغبة والديها، ومن ثم انتقلت لدراسة تخصص الصحافة والإعلام، وحصلت علی شهادة البكالوريوس عام 1991.
عملت شيرين في أكثر من موقع ووكالة عربية وعالمية مثل وكالة مونت كارلو، الأونروا، صوت فلسطين، وقناة عمان الفضائية. وفي عام 1997 انتقلت للعمل كمراسلة إعلامية مع قناة الجزيرة، لتظل ولمدة 25 سنة تطل علينا من بين الخراب الذي يعم كل بلادها بصوتها الإذاعي الهادئ، لتُطلعنا على كل جديد لحظة بلحظة، ومن ثم تموت برصاصة سكنت أسفل الأذن لتودّع الحياة التعيسة التي نعيشها علی ظهر هذا العالم، ولتستريح من كل ما يؤلم ابن آدم علی وجه الأرض.
"والذي اغتالني محضُ لص
سرق الأرض من بين عينيَّ
والصمت يطلق ضحكته الساخرة"
الشاعر المصري "أمل دنقل" من قصيدة: لا تصالح.
لماذا يُقتل الفلسطينيون؟
يمكن للموت أن ينال منّا جميعاً لأن موعد الرحيل قد حان، يمكن أن نموت فجأة بأي طريقة، ولكنّ الفلسطينيين وحدهم يملكون خيارات محدودة جداً، أكثرها شيوعاً الموت غدراً.
كنت طفلاً عند موت "محمد الدرة" منذ سنوات طويلة، كنت أبكي في كل مرة أری مقطع القتل وأقول لنفسي أنت في سلام لأنك لن تموت هكذا، عدا ذلك فهو غير مهم. حينما كبرت رأيت الثوار يموتون في الشوارع علی يد القناصين، والجنود يموتون علی الحدود وهم يحمون البلاد، حينما كبرت أدركت أنني علی خطأ، الغدر يأتي ممن يغتال الحق ليُسكته، لأنه لا يقدر علی مواجهته.
اليوم ترحل شيرين بعيداً، حيث لا يوجد إطلاق نار بكثافة، ولا احتلال غاشم يُلطخ بدماء الشهداء الفلسطينيين يد كل من يصافحهم، ويعقد معهم عقود تعاون ووثائق اعتراف بما ليس هو حق، ترحل شيرين لتستريح من الركض من إطلاق النيران أو من اقترابها لتوضيح الصورة عن كثب لكل من يشاهد الحرب على الهواء مباشرة، لأنه لا يملك غير ذلك.
ماذا لو لم تكن فلسطينية؟
في حياة موازية لحياة الشهيدة "شيرين أبو عاقلة" ربما كانت شيرين امرأة تعيش حياة عادية جداً، تعمل إعلامية في شبكة تلفزيون عالمية لتنقل الحقيقة أيضاً، ولكن بصورة أقل وطأة، وبكلمات أكثر دبلوماسية، وبابتسامة هادئة لا يمكنها أن تظهر من امرأة مثل شيرين الحقيقية، التي قامت بتغطية أكثر جرائم الاحتلال فداحة، وأكثرها وحشية بحق أهلها ووطنها.
ربما كان ممكناً في حياة أخری للمراسلة المناضلة أن تستغل جنسيتها الأمريكية بطريقة أفضل، وأن تمارس عملها في الصحافة المكتوبة أو الإعلام من مكان أكثر هدوءاً وأقل صخباً، ولكنها شيرين، التي وككل مواطن فلسطيني وُلد ووجد هذا الاحتلال مغتصباً للأرض ومستوطناً فيها كسرطان خبيث، قررت أن تُحافظ علی فلسطينيتها حتی آخر رمق، حتی النفس الأخير قررت أن تُسهم في إيصال صوت الإنسان إلی العالم، قررت أن تحمل القضية علی اكتافها كما يحمل سيزيف صخرته.
ولربع قرن من الزمان وهي تنتقل في كل البلاد التي يتقلص حجمها أمام عيونها؛ كي تُخبر الناس بأن المحتل يقتل هنا، ويفتح النيران علی متظاهرين عُزل هنا، ويهدّم البيوت هنا، ويعتقل أبرياء هنا، كل هذا فعلته شيرين وحدها وكأنه شيء عادي، ربما لأنه القدر الذي لا يمنح الشهادة أو البطولة إلا للأكفاء.
إدانات مكررة وتصريحات باردة!
أعلن الجميع إدانته لمقتل المراسلة الفلسطينية علی يد قناص من قوات الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، بإطلاق رصاصة في الرأس، بالرغم من ارتدائها الزي الرسمي المعروف عالمياً والمخصص للصحفيين، والذي لم يردع قوات الاحتلال عن إطلاق النيران علی صحفيين كانوا موجودين لتغطية اقتحام قوات الاحتلال لمخيم "جنين".
وبالرغم من ذلك فإن ما خرج من تصريحات من الجانب الإسرائيلي لا يمكن وصفه إلا بأنه مجرد جريمة أخری تُضاف إلی جرائم لا يمكن إحصاؤها من جانب محتل وضيع، حيث أعلنوا أن من قتل شيرين هم من أطلقوا النيران علی قوات الاحتلال أولاً، وألّا مسؤولية عليهم في موت شيرين، بل إن ما يجعل كل كلمة تخرج منهم تبدو كالبنزين الذي يُسكب علی الجرح فيزيد ألمه، هو قول المتحدث الرسمي إن هناك سعياً من إسرائيل لإقامة تحقيق شامل لمعرفة القاتل!
تروي "شذى حنايشة"، المراسلة الصحفية التي كانت برفقة شيرين، وعلي السمودي، أن إطلاق النار جاء بشكل مباشر تجاههم، وأن الطاقم الصحفي كان يرتدي الملابس الواقية، التي تشير لمهنتهم، ما ينفي تماماً وجود احتمالية القتل الخطأ، بل إن إصابة صحفية أسفل الأذن هو اغتيال واضح للعالم الذي يُغمض عيونه عمّا يحدث في فلسطين لمصالحه الدولية مع دولة الكيان الصهيوني.
ولكن نفس العالم ونفس المجتمع الدولي لا يكف عن التنديد وتهديد وفرض عقوبات علی روسيا لأنها احتلت أوكرانيا، بل إنه يمرر مشاهد الاجتياح العسكري الروسي علی كل مواقع التواصل الاجتماعي، ليلفت أنظار العالم لخطورة وظلم التدخل العسكري، ولكنه يحظر أي شيء يتحدث عن القضية الفلسطينية، ليبرهن علی ازدواجية المعايير في أشد وأبسط الأمور.
العالم الذي كان من الممكن أن يشعل الحرب لو أن الضحية في أرض غير فلسطين، ولكنه العالم نفسه الذي يصم أذنيه ويغمض عيونه ما دام القاتل إسرائيلياً!
في تغطيتها لأحداث الشيخ جراح، التي بلغت أوجها في العام الماضي، تتعرض شيرين للمضايقة من امرأة إسرائيلية تصرخ في وجهها، ورغم ذلك تشرح شيرين الموقف علی الهواء مباشرة، وتوجه حديثها بهدوء للمرأة حتی تُكمل البث. توضح شيرين أنها تتحدث مع المرأة بهدوء، حتی لا يتم اتهامها بمضايقة امرأة إسرائيلية، في لقطة قد ينقلب فيها صاحب الحق فجأة إلى ظالم، بسبب قانون الاحتلال، الذي يُنصف الغزاة علی أصحاب الأرض!
يبدو رحيل المراسلة الصحفية شيرين أبو عاقلة، البالغة من العمر 51 عاماً، عن طريق اغتيالها برصاصة حية من قناص إسرائيلي، وكأنه نهاية مُفجعة لبطلة كانت تستحق حياة أهدأ، لصوت حق لم يتمكن أحد من إسكاته أو خفضه فقرروا اغتياله.
في هذا العالم التافه الذي نعيش علی سطحه يكفي أن يموت شخص واحد حولنا كي تتوحد صفوفنا التي تتفرق بسبب أتفه الأمور، يمكن لشخص واحد أن يموت فيحزن من أجله الملايين، ويبكي علی وفاته الآلاف ممن لم يعرفوه عن كثب، ولم يصافحوا يده أو يروه مباشرةً، يكفي أن نكتب عنه بلا توقف ونُعيد ونُزيد في الحديث عن أثره وعن حياته. ليست شيرين الشهيدة الأولی التي تسقط من الصحافة في قلب الميدان، وليست أول من تموت غدراً علی يد قوات الاحتلال الصهيوني، صاحب اليد المغموسة بدماء الفلسطينيين الذين مازالوا يدافعون عن أرضهم، ولن تكون شيرين أبو عاقلة آخر شخص يسقط وهو يؤدي عمله بشرف وأمانة حتی آخر لخطة.
ربما هو الصدق الذي جمع كل الناس من كل مكان، صدق شيرين نفسها في إيصال صوت الإنسان إلی العالم، صدق كل من يؤمن بحق الفلسطيني في وطنه، صدق كل إنسان يعرف أن الديانة وحدها ليست وسيلة العبور إلی جنات الله، وأن الجنسية وحدها ليست الدافع الوحيد لدفاع المواطن عن وطنه، وأن الشهادة الجامعية وحدها قد لا تمنح أصحابها المكانة العالية في قلوب الناس، بل إنه الصدق فقط هو من يُكلل سعي الإنسان الشقي في الأرض، ويرفعه حينما يرحل إلی أعظم الدرجات حيث الخلود، لأن من مات وهو صادق وصامد علی قول الحق ومؤمن بأن إيصال صوت الإنسان إلی كل العالم رسالة، لا يموت أبداً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.