في الساعات الأخيرة من شهر رمضان الكريم، نشأ "تريند" فريد في مصر مغاير للنمط الإعلاني والاستهلاكي الذي يراد أن يكون قريناً لهذا الشهر.
فتاة مصرية، أبت أن تكشف عن هُويتها، تواصلت مع السيدة هبة راشد، المسؤول الأول عن مؤسسة "مرسال" الخيرية في مصر، متسائلة عما إذا كان بإمكانها التبرع بكارت شحن من شركة "فودافون" لصالح قسم الرعاية الطارئة للأطفال حديثي الولادة في المؤسسة؛ نظراً لأنها لا تمتلك نقوداً يمكنها التبرع بها بشكل مباشر.
نشرت راشد نص الرسالة على "فيسبوك"، تشجيعاً للناس على المشاركة في مزاد علني على شراء الكارت في تلك الأيام المباركة، مع الحفاظ على هوية الفتاة سرية كما هي، وإذا بالكارت البسيط يتحول إلى محفل خيري عظيم، بعد تباري المتطوعين في رفع سقف ثمن الكارت، ودخول فودافون بنفسها إلى المنافسة عبر التبرع بجنيه أمام كل جنيه من الأفراد، إلى أن تجاوز الثمن المبدئي للكارت 11 ملايين جنيه مصري في ظرف ساعات.
إلى هنا فكل شيء على ما يرام وأفضل، اتحاد مجتمعي فعال حول مشروع خيري موثوق، ومسألة الموثوقية هي أحد أبرز التحديات أمام المؤسسات من ذلك النوع، تخضع للمراقبة الحكومية، وتنجح في إثارة روح تكافليّة جميلة في أيام مباركة تعتريها ظروف اقتصادية بالغة السوء.
المشكلة أن تلك الواقعة الفريدة لم تستنفر أجهزة الدولة المعنية إلا لإصدار بيان ملأه الشك والتحفُّز ضد تلك الحملة، مُذيلاً بعبارات "بارانويديّة" عن دورها في تتبع ورصد هذا النوع من الحملات، وهو ما اضطر المؤسسة الخيرية إلى إصدار بيان مقابل تذكّر فيه تلك الأجهزة بأنها مُشهرة قانونياً، وقد استوفت كل التراخيص اللازمة للقيام بمثل تلك الحملات، فضلاً عن الثقة العامة فيها.. فأين الخلل؟
أمننة العمل الخيري: كل شيء مُراقب
تعكس لنا تلك الواقعة طيفاً من الملامح المهمة في علاقة نظام الـ 3 من يوليو/تموز 2013 بالعمل الخيري، والأهلي، والجماعي، على التوالي، تلك العلاقة التي تبلورت سريعاً بمجرد صعود ذلك النظام إلى الحكم.
فالنظام المصري ينظر إلى شبكات الدعم والتكافل الاجتماعي تلك من عدة زوايا تقوده جميعاً إلى التعامل معها بحذر شديد وتغليب القلق على الدعم وتفضيل الأمني على التكافلي، والسعي المحموم إلى إخضاعها لقدر هائل من التعقيدات والإجراءات لضمان أن تلك الأموال خاضعة لرقابة الأمن السياسي أولاً، وأنها مرصودة اقتصادياً ضمن تصنيف فوائض المال لدى المصريين والاقتصاد غير الرسمي.
1. إحدى أبرز الزوايا التي ينظر من خلالها ذلك النظام، المتوتر من كل شيء، إلى شبكات التكافل الاجتماعي، هي كونها بوابة خلفية محتملة لإحياء النشاط الميداني لخصومه السياسيين من التيار الإسلامي، والذين طالما برعوا في تلك المساحة، مساحة: الإغاثي والخيري والتكافلي، فكان ذلك أحد أبرز أسباب قوتهم وقربهم من الناس، تماشياً مع المضامين الإسلامية الحاثّة صراحة على التعاون على البر.
لذا في وقت مبكر للغاية من عمر التحول السياسي القسري الذي حدث قبل 9 أعوام تقريباً، حرص ذلك النظام على اتخاذ حزمة من الإجراءات، تشريعياً وميدانياً، بهدف تقويض ذلك الدور الاجتماعي لخصومه، تحت لافتة تفكيك الاقتصاد الموازي للإسلاميين، وذلك عبر جهات معينة مثل وزارة التضامن الاجتماعي ووزارة الأوقاف والجهات المنوط بها فرض الرقابة المالية. أدى ذلك إلى السطو على البنية التحتية الخيرية لعشرات المستشفيات والمدارس والمراكز الخيرية، وتفكيكها أو نقل ملكيتها وإدارتها إلى تلك الجهات الحكومية.
2. الزاوية الثانية التي ينظر عبرها النظام إلى تلك الأنشطة وتدفعه إلى التربص الدائم بها هي زاوية "الاقتصاد غير الرسمي"، فهذا النظام منذ لحظات تشكله الأولى هو اقتصاد فقر وأزمة، يدعو قائده منذ 2014 إلى تقسيم الرغيف على 4 أجزاء، ويعمل على جرد كل مصادر المال، ويتمنى شخصياً لو كان سلعة يمكن بيعها، فيما تعني ثقافة التبرع، في المقابل، أن هناك فائضاً مالياً لدى شرائح من المجتمع، ومن ثم فإن ما يحتاجه الوطن يحرم على الجامع طبعاً.
في هذا السياق، سياق استدعاء حالة الفقر وإبراز ضرورة إخضاع تلك الأموال الفائضة عن حاجة المجتمع للإشراف الحكومي، قال السيسي إنه تبرع بجزء من راتبه إلى الدولة، وإنه ينتظر في المقابل أن يقوم المواطنون على الأقل بالتبرع "بالفكة" التي تقدر بالمليارات إذا جُمعت من المواطنين، داعياً إلى توجيه تلك الأموال إلى المؤسسة الرسمية التي أسسها النظام لكي تتولى، تحت إشرافه شخصياً، إدارة ذلك المال الفائض عن حاجة المجتمع: صندوق تحيا مصر.
ضمن تلك الحملة القومية لتوجيه الفوائض المالية المجتمعية إلى مؤسسة رسمية مختومة بختم النسر وتابعة لسيادته مباشرة، التقى السيسي قبلاً عدداً من النسوة الطاعنات في السن أمام الإعلام للتبرع ببعض مما يفيض من ممتلكهاتهن إلى ذلك الصندوق، وفي وعي شديد بدور ذلك الصندوق أفتى أحد رجال الدين المقربين من الأجهزة الأمنية، خالد الجندي، صراحة، بأن أفضل طريقة لغسل المال الحرام تكون عبر التبرع به لصندوق تحيا مصر.
3. أما الزاوية الثالثة التي تدفع النظام إلى القلق من هكذا حملات، فهي الخوف من التداعيات بعيدة المدى الناجمة عن شعور المجتمع بالقدرة على الإنجاز بما يتجاوز طاقة الأفراد. يثير ذلك لدى نظام الـ 3 من يوليو ذكريات القدرة على التكتل خلال ثورة يناير/كانون الثاني 2011، وروح ميدان التحرير، ومشاهد نجاح المواطنين في تقليل عواقب الفراغ الأمني الناتج عن انسحاب الشرطة من الشوارع ضمن تجربة "اللجان الشعبية" شديدة الفرادة.
"محدش هيصلي هنا"
من المفارقات الدالة أيضاً أن ذلك الحادث الخاص بـ"مرسال" قد تقاطع زمنياً مع معركة مشابهة كادت تتطور إلى حرب ضروس بين السلطة والمجتمع، وهي معركة الصراع على استظهار الشعائر الدينية في المساحات العامة والمساجد.
منذ اللحظات الأولى لصعوده، حرص النظام على تجفيف منابع العمل الديني الذي قد يتخذ أشكالاً غير شعائريّة كالتكافل وتدارس العلوم الدينية والتجمعات السياسية التي يكون المسجد والدين رافعاً لها.
فبينما يُعرف المسجد دائماً، في التراث الإسلامي، بأنه أكبر كثيراً من كونه ملتقى للصلاة؛ إذ تتصل أدواره بـ"الأمة" والمجتمع بشكل رئيس، فقد عمل النظام على تفريغه من مضمونه بحيث يكون تابعاً، بشكل حصري، إلى الأجهزة الأمنية التي ترتدي العمائم في وزارة الأوقاف، ويقتصر نطاق عمله الزمني على عدة دقائق 5 مرات يومياً، هي عدد الصلوات المفروضة، تحت دعاوى حماية المساجد من السياسة وأهل الشر.
ما أثار تلك المعركة في هذا التوقيت، هو تذرُّع النظام بالخوف من انتشار العدوى الفيروسية بين المواطنين في المساجد، ما أدى إلى منع الاعتكاف وتقييد التهجد ومنع صلاة العيد، بينما تمارَس باقي الأنشطة الأخرى في المجتمع، تلك الأنشطة الخالية من أي مضمون جاد، بشكل ربما أكثر من ذي قبل، مثل الحفلات الغنائية وتجمعات تشجيع الفريق القومي لكرة القدم، كما لو كانت العدوى- بعد احتوائها إلى حد كبير بفضل التلقيح ومناعة القطيع- لا تنتشر إلا في المجالات الحيوية ذات الطبيعة الجماعية الإسلامية.
صحيح أن النظام وأجهزة الأمن قد تراجعوا قليلاً أمام الموجة العاتية التي دفعت ضابط الأوقاف الذي يحتفظ بمنصبه في الوزارة منذ صعود السيسي رئيساً إلى الآن دون أي تجديد خلافاً لكل الحقائب الوزارية إلى التمسكن ولعب دور الضحية وفتح المساجد على مضض؛ ولكن العبرة دائماً بمقتضى الحال لا بالادعاء والمقال، والحكم يكون على القاعدة لا على الاستثناء.
فالمسجد بفعل كونه ملتقى يمزج بين العاطفة الدينية الحامية بالمضامين الإسلامية وبين التجمعات المتجاوزة للأفراد، لطالما ظل أيقونة وثيمة أساسية لقياس النبض الحقيقي للشارع، على نحو يفوق ربما رمزية غيره من مناطق التجمع والالتقاء. وإذا رفعت القبضة الأمنية قليلاً من جديد عنه، لرأينا التفاعل الطبيعي من المجتمع مع قضاياه الحقيقية، سياسياً واقتصادياً، حاضراً داخل أروقته، وهو ما لا يتمناه النظام أبداً. فهذا النظام مضادٌ لأي تجمع غير نمطي على أرضية جادة وحقيقية، سواء كان تجمعاً على البر كما هي الحال مع مرسال، أو تجمعاً للصلاة والتضرُّع إلى الله.
ومن ثم، فإن الحل الأنسب بالنسبة للنظام، كما جاء في المشهد الساخر من فيلم "صرخة نملة"، أن تظل نقاط الالتقاء المحتملة تلك، والتي تجمع بين الديني والجماعي، تحت الرقابة المشددة من رجال الأمن المباشرين ورجال الأمن العاملين في الأوقاف والمؤسسات الدينية الرسمية والذين يؤدون أدوارهم المخزية بتفانٍ لافت.
قبل 2011 كانت وثائق أمن الدولة المسربة بعد اقتحام مقار الجهاز سيئ السمعة قد أظهرت عناية شديدة من قبل عناصره بالمساجد على مدار الساعة، بحيث تكون هناك تقارير محدثة دورياً عن طبيعة الدروس والشيوخ وأعداد وانتماءات الحاضرين من قبل المخبرين إلى الضباط الكبار. كان ذلك في عهد العجوز حسني مبارك، فما بالك بما يحدث في عهد السيسي الذي يقول صراحة إنه مسؤول، بصفته السياسية، عن دين المواطنين؟
الخوف من كل ما هو جماعي وغير رسمي
من الواضح كذلك أن متخذ القرار في مصر، لاسيما إن كان أمنيّاً، يضع أمامه خارطة عامة توضح كيف يمكن تسيير الأعمال في مختلف القطاعات، بحدها الأدنى، دون مشاركة حقيقية وجادة من المجتمع المدني. فكل عمل أهلي ناجح غير منسق مع أجهزة الدولة عادة ما يكون موضع رفض وقلق من جانب النظام، بل ومن الوارد أن يأخذ أصحابه إلى السجن، فما حدث مع مرسال ليس جديداً.
في يونيو/حزيران 2020 وخلال ذروة كورونا، قام الأهالي في أحد مراكز محافظات الوجه البحري بتدشين مستشفى ميداني بالجهود الذاتية، عبارة عن مساحة عامة، وأطباء وأجهزة مقدمة بالتبرعات، لمساعدة السلطة على احتواء الأزمة العامة.
نذكر جميعاً كيف اتهم رئيس الوزراء الكادر الطبي بالتعمد في إحداث أزمة بالمنظومة الصحية عبر التغيب عن العمل، وكيف شكك السيسي في وطنية الأطباء الذين طالبوا بحل مشاكلهم العالقة كي يؤدوا أفضل ما عليهم في خدمة المواطنين، وكيف هددت قيادات من الطب العسكري بتحويل الصيادلة إلى أطباء رداً على تلك الأزمة بين النظام السياسي وبين الكادر الطبي، وكيف لوحق عدد من الأطباء أمنياً بسبب طلب مزيد من الأدوات الأساسية في المستشفيات العامة.
ميدانيّاً، طالما كان المجتمع المصري يتفاعل مع الأزمات والتطورات الإقليمية التي تحمل مضموناً جارحاً للكبرياء القومية، من خلال الأساليب السلمية الجماعية المعروفة عالمياً في الحالات المشابهة، على غرار المقاطعة الاقتصادية والاحتجاج عند السفارات والحملات الإغاثية للأشقاء.
رغم تلك الأزمة الضاربة في عمق جذور المنظومة، أصدرت الأجهزة المعنية قراراً بهدم ذلك المستشفى الميداني الذي أنشأه الأهالي بحجة عدم استيفاء المعايير الطبية اللازمة، كما لو كانت دور الرعاية الرسمية التي لا تتفوق في رمزيتها كثيراً عن ذلك المستشفى الذي أزيل إلا في كونه خاضعاً للسلطة كما يوضح ميشيل فوكو، أفضل حالاً من الناحية التقنية عن ذلك المجال الحيوي الجديد الذي دشنه المجتمع الأهلي في خضم الأزمة.
وبصرف النظر عن الأسباب، حتى لو تماشينا مع سردية السلطة إزاء تلك الحالة وعن عدم توافر المعايير الطبية الأساسية في ذلك الحيز؛ فإنه، في أي بلد محترم وطبيعي، كانت الأجهزة المعنية ستقدم الشكر للمواطنين على تلك البادرة أولاً، وستعرض التوصل إلى اتفاق يقضي بتحويل ذلك الحيز سريعاً إلى مساحة أكثر تطوراً من المزج بين الممارسة الطبية والممارسة الشعبية في آن واحد؛ وذلك بدلاً من النظر إلى ذلك المجهود الأهلي الناجز والتعامل معه كما لو كان بؤرة إرهابية أو إجرامية ينبغي إزالتها فوراً كما حدث بالفعل.
التضليل السياسي للجماهير
ميدانيّاً، طالما كان المجتمع المصري يتفاعل مع الأزمات والتطورات الإقليمية التي تحمل مضموناً جارحاً للكبرياء القومية، من خلال الأساليب السلمية الجماعية المعروفة عالمياً في الحالات المشابهة، على غرار المقاطعة الاقتصادية والاحتجاج عند السفارات والحملات الإغاثية للأشقاء.
ظل ذلك يحدث دائماً، في المساجد والجامعات ودرج نقابة الصحفيين، خلال العقود الأخيرة، بدءاً من التفاعل مع الانتفاضة الفلسطينية مروراً بغزو العراق 2003 والعدوان على لبنان وغزة، بغض النظر عن موقف السلطة، التي كانت تتفهم ذلك التفاعل الاجتماعي مع التطورات عادة، حتى إن جمال مبارك نفسه، بصفته السياسية والحزبية، قاد قافلة إغاثية على الحدود الشرقية مع غزة، رداً على عدوان إسرائيلي على القطاع.
الجديد هنا أن النظام السياسي الحالي المذعور من ظله بات قلقاً حتى من تلك المساحة، خوفاً من أن تتمدد ضده، وأن تعتاد الجماهير مجدداً النزول إلى الشارع وكسر حاجز الخوف من عناصر الأمن، أو أن تشعر مجرد الشعور بقدرتها على الإنجاز، حتى لو كان هذا الإنجاز، هو الاتفاق على عدم الفعل، تماماً كما يحدث في فعل "المقاطعة". فحتى المقاطعة، التي هي أضعف الإيمان، ممنوعة.
نذكر جميعاً الهجوم الإعلامي الضاري من رجال النظام على حملة مقاطعة البضائع الفرنسية في الأسواق العربية، رداً على الهجوم الرئاسي الفرنسي على الدين الإسلامي، رغم أن تلك المقاطعة لا تحمل أي دلالة أكبر من استمرار بقاء المجتمع على قيد الحياة واتخاذ مواقف ذات طابع سياسي معارض لانحيازات السلطة، إذ يعد النظام الحاكم في مصر أحد أبرز حلفاء الحكومة الفرنسية على الإطلاق.
البديل الذي أعده النظام لقطع الطريق على ذلك الموقف المجتمعي، هو أن يتخذ موقفاً شكلياً، خالياً من أي مضمون حقيقي، إزاء القضية محل الجدل، بالاتفاق مع الأطراف الأخرى (الفرنسيين في تلك الحالة)، على أن يتم تسويقه في الداخل المصري، باعتباره موقفاً نوعياً حضارياً، لم تعد الجماهير بعده في حاجة للتعبير عن نفسها.
على سبيل المثال في تلك الأزمة بين باريس والعالم الإسلامي، كان السيسي أول رئيس من دولة لها مكانتها في العالم الإسلامي، يزور فرنسا لبحث العلاقات الثنائية في ظل الاحتقان، بما في ذلك من دلالة سياسية واضحة على الوقوف مع الإليزيه في أزمته مع العالم الإسلامي، وفي نفس الوقت، حرص السيسي على تسجيل موقف شكلي في حضور ماكرون، يرفض خلاله الإساءة إلى الأديان والرموز الدينية، باعتبار تلك الأيقونات ذات خصوصية ثقافية ورمزية في الشرق، يفضل عدم المساس بها، وأن الأمور لا تسير لدينا على النحو الموجود في الغرب، تماماً كما يعد الاستبداد السياسي خصوصية ثقافية شرقية لا يجب الإشارة إليه من جانب الغرب، وفقاً لادعاءات السيسي قبل ذلك.
حينئذ، هلل الإعلام لذلك الموقف من السيسي باعتباره تجسيداً حضارياً راقياً لغضب العالم الإسلامي، بعيداً عن الفوضى الشعبية التي لا طائل من ورائها من مقاطعة وغيره، فضرب السيسي عصفورين بحجر واحد: وطد علاقته مع الفرنسيين في ذلك الظرف الصعب الذي وضعت فيه باريس أمام الأمة الإسلامية، وقطع الطريق على أي تفاعل جمعي عفوي من الممكن أن يؤذيه لاحقاً.
وقد تكرر ذلك التكتيك في مايو/أيار الماضي، قبل عام من الآن، حينما شن الاحتلال عدواناً وحشيّاً على القطاع (معركة سيف القدس: حارس الأسوار)، انتفض العالم كله لإدانته، وأدى إلى تثوير الشارع المصري، الذي كان يخرج عادة في مسيرات داعمة للأشقاء في غزة في مثل تلك الظروف؛ فاتخذ السيسي موقفاً شكليّاً بالوساطة غير النزيهة لإيقاف العدوان، دون أي إدانة رسمية للاحتلال، وتقديم المساعدات، وروج الإعلام بعدها أن هذا الموقف كفى المجتمع مؤونة التحرك، فضرب السيسي نفس العصفورين: وطد علاقته بالبيت الأبيض، ممثلاً في إدارة بايدن، وسوَّق لنفسه فاعلاً ينوب عن المجتمع في تلك الأزمات المشابهة، ليصبح ذلك هو سقف التفاعل مع أي حدث مماثل من حينها فصاعداً.
"غير المغضوب عليهم"
الحالة الوحيدة التي يسمح للمجتمع فيها بالتعبير عن نفسه بشكل متجاوز للأفراد، تكافليّاً أو ميدانيّاً، هي تلك الحالة التي تكون خلالها أجهزة الأمن متأكدة تمام التأكد، أن هذه التجمعات آمنة تماماً، خالية من أي اتجاهات فكرية، كل الحضور فيها معروفون بالاسم تقريباً، مناصرون للنظام على استعداد تام لإظهار الولاء له؛ وما عدا ذلك غير مسموح به. لا مجال هنا لعدم اليقين، فالاحتمالات قد تكلف الكثير.
فالسيسي الذي يمنع أي تجمعات سياسية أو اجتماعية (نقابية) أو فئوية بكل ما أوتي بالقوة (نذكر جميعاً ما حدث مع طلاب الثانوية العامة من ضرب واعتقالات حينما تظاهروا أمام الوزارة قبل أعوام)، هو نفسه الذي حشد الشارع للنزول في 30 من يونيو/حزيران 2013، ويوليو/تموز من نفس العام في جمعة التفويض، وهو من حشد، ما استطاع أن يحشد، خلال الأعوام السابقة، مراراً عند المنصة، في مناسبات مختلفة، وهو من لوح قبل ذلك بأنه قد يطلب تفويضاً جديداً من مؤيديه حال شعر بتهديد وجودي.
وبنفس المنطق، فإن المسموح لهم حصراً بالدخول إلى ملاعب كرة القدم، بعد استبعاد الجمهور الطبيعي بناء على عوامل أمنية وطبقيَّة، هم أنصاره، المرضي عنهم، المختارون بعناية شديدة، سواء لتشجيع المنتخب القومي، وهو تشجيع مبطن بأغراض سياسية، أو في حشود سياسية صريحة، كما حدث في حفل تدشين مبادرة "حياة كريمة" في ستاد القاهرة، والتي قال السيسي خلالها تصريحه الشهير الذي يكثف علاقته الاستعماليّة للجمهور: "بلاش هري".
أما عن المجتمع المدني العامل على الأرض، فلا يسمح بالتحرك دون تهديد إلا للمبادرات التي تركز على "التقني" الخالي من أي مضمون تماماً، مثل المبادرات الرياضية والتعليمية التي يفعل أصحابها الخير كنوع من كسر الروتين وصقل السيرة الذاتية المهنية بالتطوع وتكوين العلاقات، أو تلك التي تتبنى أجندة النظام ومقولاته السياسية كاملة مثل الشباب المنخرط في أنشطة حزب "مستقبل وطن" وتنسيقية الشباب والبرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب والأكاديمية الوطنية للتدريب ونماذج محاكاة البرلمان إلى آخر تلك النماذج الشكلية. لا مجال هنا لأي عمل جماعي جاد ذي صبغة سياسية أو اجتماعية مغايرة لأجندة النظام.
لو أن "مرسال" في مكان آخر
في سياق مغاير أقل توتراً، كان سينظر إلى التجربة الثرية لـ"مرسال" على ضوء معطيات مثل قدرتها على العمل الخيري دون إعلانات مكلفة، نجاحها في التوسع خلال وقت قصير للغاية، الأسباب التي دفعت المجتمع إلى الثقة في القائمين عليها، هيكلها الإداري والبشري المتطور، التغطية الإعلامية الإيجابية التي تحظى بها في وسائل الإعلام الأجنبية. كان سينظر إليها باعتبارها نموذجاً فريداً للعمل المؤسسي والمجتمعي، في بيئة متخلفة (بمصطلح علم النفس السياسي)، وكيف يمكن الاستفادة منها وتسويقها ودعمها.
كذلك، في نظام سياسي أفضل، كان سينظر إلى "مرسال" وحملتها الأخيرة عبر عدسة تركز على الدور الجديد الممكن لعبه من قبل المؤثرين في العمل الخيري، وكيف باتت المنصات الرقمية مساحة جديدة، تسويقاً وتمويلاً، في تغيير شكل ومفهوم الأنشطة المجتمعية غير الهادفة للربح.
ولكن الحظ السيئ لـ"مرسال" قادها أن تعمل في ظرف سياسي شديد الاستثنائية بالغ الرداءة، إلى حد أن تكون نظرة القائمين على البلاد للعمل الخيري مقتصرة على ضرورة الحد من مخاطر الشغل الجماعي على الأمن السياسي للنظام وتتبع حركة الأموال في المجتمع.
جدير بالذكر هنا أن أحد أبرز الأسماء البازغة مهنياً في مجالها، مجال الاقتصاد، والتي ارتبطت بـ"مرسال" عبر تقديم مساقات تدريبية مهمة لرواد الأعمال ضمن دور الجمعية في التأهيل لسوق العمل، وهو عمر الشنيطي، يقبع في السجون المصرية منذ أعوام، محبوساً على ذمة "قضية الأمل" التي تدور أوراقها حول محاولة بعض الشباب المدني المتعلم جيداً التحضير لدخول الانتخابات البرلمانية!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.