في كل عام يزورنا فيه العيد دائماً ما تصيبني حالة من الحنين، الحنين لموطني ولأهلي، الحنين لأي بلد عربي كنت أتمنى وأحلم قضاء رمضان أوالعيد فيه.
لم أكن لأكتشف يوماً أن كونك تعيش أيام العيد في بلد عربي أو مسلم هو في حد ذاته نعمة تستحق الشكر.
فمنذ ٢٠١٤ وضيف الغربة المؤلم قرر أن يطرق أبواب أسرتنا ويفرض واقعاً علينا لسنا مرحبين به.
ستة أعوام عشت فيها متنقلة بين بلدان خليجية متنوعة، ظناً مني أن هذه هي أقسى أيام الغربة، لكن في الواقع لقد ذقت مرارة الغربة وأدركت معناها الخام حين وطئت قدماي أراضي الولايات المتحدة الأمريكية عام ٢٠٢٠.
حرفياً ومن دون مبالغة يمر اليوم علينا هنا بثقل الأعوام الستة التي عشتها في غربة الخليج، غربة بمعنى الكلمة، غربة عن عاداتنا ولغتنا، عن أعيادنا، وعن هويتنا.
طوال العام نحاول جاهدين دفع الأيام كي تمر، وتسكين مشاعر الحنين والافتقاد، لكنها دائماً ما تغلبنا في رمضان والعيدين.
ما كنت أظن يوماً أني سأستشعر نعمة صوت الأذان، نعمة الأصوات المتداخلة لمساجد متنوعة حول بيتي، وهم يؤذّنون بنبرات وأصداء صوت مختلفة.
أصواتهم المتداخلة التي كنت أعتبرها في الماضي إزعاجاً وعدم نظام، أدركت الآن أن عشوائيتهم هذه كانت مفعمة بإحساس الحياة والسكينة والرحمة، ومشاعر أخرى يصعب وصفها.
الزينة غير المرتبة في الشوارع، والفوانيس المعلقة على أبواب كل مبنى، الأضواء الصفراء التي لم تكن العين لتتحملها.
قبل أيام ذهبت بابني إلى محل مخصص لشراء اللحوم الحلال ومستلزمات العرب غير المتوفرة في الأماكن الأخرى، فوجدت مالك المحل المصري كان يستعد لرمضان وللعيد بتزيين محله بالزينة الشعبية المتعارف عليها في شوارع مصر.
لم أستطع حتى الآن تجاوز كمّ السعادة والانبهار اللذين أصابا ابني حين شاهد زينة رمضان المعلقة، لهفته ورغبته المستمرة بأن أحمله لأعلى حتى يتمكن من لمسها أصابت قلبي بحزن شديد، وأشفقت عليه لأنه لم يعِش ذكريات رمضان والعيد كما عشناها نحن يوماً ما.
الأمر للأسف ليس مقتصر فقط على صوت الأذان والزينة المعلقة، بل متشعب في تفاصيل يومية كثيرة.
عدد ساعات العمل الذي لا يتغير في رمضان والأعياد، على خلاف أغلب الدول العربية، التي تقلل ساعات يومك، فبالتالي لا يؤثر الصيام على إنتاجية يومك في العبادات والصلاة.
غير كل هذا توجد معاناة أسبوعية أخرى تكرر كل يوم جمعة، فيوم الجمعة مرتبط عندي بذكريات لمة أسرتنا على طاولة إفطار واحدة، هو يوم الإجازة الأسبوعية، الذي يجمعنا ويبدأ باستيقاظنا على صوت سورة الكهف للشيخ المنشاوي، ثم نبدأ بتحضير وجبة الإفطار على الطريقة المصرية الشهيرة، طبق الفول الشهي المعد من يد أمي، والبطاطس المقلية التي ينتهي مصيرها باختطافها سريعاً قبل وضعها على الطاولة، طبق الجرجير الذي كنا لا نرغب في الاقتراب منه.
تسارُع أبي وإخوتي في آخر وقت للإفطار على دورة المياه للوضوء والاستعداد لصلاة الجمعة.
كل هذه التفاصيل المرتبطة عندي بيوم الجمعة المليء بدفء الأسرة لم أتوقع يوماً بأن تتلاشى وتندثر، وأن يصعب عليّ معايشتها مرة أخرى أو معايشتها لأبنائي، لأن يوم الجمعة تحوّل من يوم الإجازة الأسبوعية المنتظر إلى يوم دوام عمل أو دراسة لا راحة فيه، بل قد تضطر لصلاة الجمعة ظُهراً كأي فرض عادي؛ لأنك في بلد غير عربي، يصعب فيه توافر مسجد على بعد خطوات من مكان عملك.
تفاصيل كثيرة لم أكن أتوقع أن أعيشها يوماً، يكفي إحساس الغربة الذي يطارنا يومياً خمس مرات بسبب افتقادنا لصوت الأذان، الذي لا يعوضه أيٌّ من تطبيقات الهاتف التي تؤذّن.
اشبعوا من صوت الأذان الذي يملأ المكان، فهناك أناس على بقعة أخرى من الأرض محرومون منه.
لعل الله يجمع بين كل مغترب وأهله وبلده، على طاولة إفطار واحدة في رمضان القادم والأعياد المقبلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.