في “مقبرة” لا أعرف ليلي من نهاري.. هكذا قضيت العيد في سجن طرة المصري

نعم لا يُمكن استخدام لفظة "عيد" داخل السجون والمعتقلات. العيد في السجن لا يعني سوى مرارة بقاء سُجناء حالمين ومُتشدقين بحريتهم خلف أسوار عالية، وجُدران أسمنتية، وأبواب مُغلقة، واَمال مُعلقة. لا يمكن وصف ما سيأتينا بعد أيام بالعيد، وكيف يوصف "عيد" وإدارات السجون تمنع التريض طوال فترة العيد، فيجلس جميع السجناء داخل زنازينهم محرومين من التريض ورؤية الشمس إن وُجدت.

ليس عيداً والسجين غير قادر على رؤية ذويه وأحبابه وحتى مجرد تبادل الكلمات معهم.

فترة العيد داخل السجن تختلف من سجن إلى آخر، قلة من الإدارات تسمح للسجناء بالتريُض وقت العيد ولكن ذلك يكون في الخفاء ومن خلال تفاهُمات ومصالح مُشتركة بين بعض الإدارات وبعض السُجناء. وفى أغلب السجون يتم إغلاق التريُض، وحتى القليل من السجون تلجأ إلى منع الزيارة بتاتاً حتى وإن كانت الزيارة الاستثنائية المُقدمة للسجناء بمُناسبة العيد والتي تتم فى أول يوم العيد ولا تتعدى العشرين دقيقة. وفي كثير من الأحيان لا تستمر أكثر من دقيقتين!

كل سجن يحتوي على جامع، ولكن يحظر على المعتقلين التواجد به أو الصلاة داخله. في صلاة العيد تقوم الإدارة باختيار سجين جنائي من كُل زنزانة كي يحضر صلاة العيد مع القيادات من إدارة السجن وبعض قيادات مُديرية الأمن التابع لها السجن.
لتغطية الصلاة، تتواجد كاميرات التصوير التابعة لقطاع مصلحة السجون وبعض القنوات؛ كي تقوم ببث وقائع صلاة العيد وتصوير السجناء السعداء بجانب القيادات الأمنية لتصدير صورة التعامل الحسن والإنساني في السجون المصرية ومُراعاة حقوق الإنسان والترفيه عن السجناء والسماح لهم بمُمارسة شعائرهم.

ولا يخلو الأمر من انتقاء بعض السجناء للتحدث أمام الكاميرات لوصف شعورهم العميق المُمتن للمعاملة الآدمية من قِبل الإدارة، وتوفير كُل سبل الراحل للسجين وتقديم الطعام الجيد للسجناء.

هذا السجين المجبر على أمره يقول ذلك كُرهاً وخوفاً من العقاب والبطش الشديد، وطواعيةً من خلال الأمل فى الخروج وإطلاق السراح.

العيد في سجن استقبال طرة

 تواجدت مع مجموعة من السجناء وكانت السمة الطاغية بيننا الحدود المُريحة لجميع الأفراد داخل الزنزانة. انتهى شهر رمضان، وبدء بعضهم بنفخ وتعليق بعض البلالين والزينة، ووجدتهم قد وضعوا بالونة أعلى فرشتي وقد كُتب عليها "الشيخ زين الشيوعي".

كُنا في زنزانة كبيرة بما يسمح بالحفاظ على مساحة شخصية مقبولة. داخل الزنزانة نهنئ بعضنا بالعيد، وكنا نقوم باللعب والضحك. وكان الجميع يُحاول إخفاء مرارة البقاء داخل السجن ويتحايل على الوضع القائم بأن يقوم بعض الأفراد بإظهار ملابس (ملكية: أي ملابس مدنية غير ملابس السجن) نتحصل عليها عن طريق تهريب قميص أو بنطال من الخارج أثناء الزيارة لإضفاء شعور مبحوح بالحرية. 

كان سجن استقبال طرة أفضل حالاً عن غيره من السجون، وإن كان ذلك لا ينفي وقوع الهجمات القاسية والعدوانية تجاه السجناء من قِبل مصلحة السجون وأمن الدولة وحملات التجريد المُمنهجة والتغريب على غرار ما يحدث في سجن العقرب. ولكن كان السجن في مُجمله مُختلفاً عما قاسيته في سجون أخرى. 

ويبدأ السجناء من النوافذ الضيقة بتقديم التهاني بمناسبة العيد، وتقديم تحية المساجين لبعضهم البعض، فيقولون كلاماً من قبيل: "أحلى مسا ع الناس الكويسة" و"يا زنزانة 18 مسّيلي على الجدعان اللي فيكي".

وفي المساء حين اطمأننا على إغلاق باب العنبر وتوقف الحركة الخارجية، قُمنا بإظهار الهواتف التي تم تخزينها وإخفاؤها في المخازن  المخزن مكان يقوم بإنشائه السجين كي يضع فيه الهواتف والأموال بعيداً عن أعين تفتيش المباحث وأمن الدولة). قام كُل منا بالتواصل مع أهله وتقديم المُعايدات والاطمئنان عليهم، بينما في نفس الوقت تقوم نبطشية المُراقبة بمراقبة الأجواء الخارجية تحسباً لتفتيش مفاجئ فيُحذر المراقب البقية كي يُسرعوا بإخفاء الهواتف في المخزن قبل الهجوم، وإن كان الدارج في بعض الأحيان عدم قيام الإدارة بالتفتيش في هذه الأيام.

بعد صلاة الفجر، بدأ البعض في الذهاب إلى دورة المياه لأخذ دش منعش وارتداء الملابس الملكية المُهربة من الزيارة، أو ارتداء سُترة جديدة. وبدأت تكبيرات العيد داخل الزنزانة ومن نوافذ الزنازين فكان العنبر يصدح بالتكبيرات. وعند انتهاء صلاة العيد، استمرت التكبيرات حتى خلد الجميع للنوم.

هناك حقيقة يشترك فيها السُجناء ألا وهي أن أيام العيد أيام ثقال، حيث تُمر الدقائق والساعات ببُطء شديد عن باقي الأيام.

حين قُمنا من النوم أول يوم العيد، بدأت أنا وزملائي  بإعداد القهوة وتدخين بعض السجائر وعمل بعض الساندويتشات للفطور والجلوس معاً وإطلاق الإفيهات والنكات، وخرج البعض إلى الزيارة، وعادوا سريعاً مُحملين بأنواع مختلفة من الأطعمة، والتي قامت الخدمة اليومية بتجهيزها لنا عند صلاة المغرب.

وفي المساء قام البعض بتقسيم جزء من أرضية الغرفة وإحضار كرة تنس طاولة ومضربين، واللعب، متظاهرين بأن الأرض طاولة تنس. ثم يأتي وقت المراقبة وإظهار الهواتف حتى يحين وقت النوم وإعادة التخزين وهكذا دواليك حتى تمر هذه الأيام. كان هذا الروتين اليومي لنا ولأغلب السجناء في هذا السجن طوال أيام العيد.

وضع لا يُحتمل

كنت في زنزانة التأديب رقم أربعة، وكان يتوافق العيد مع فترة تواجدي بالتأديب كعقوبة مُستمرة. وكان العنبر عبارة عن 20 زنزانة تأديب ومُقسمة إلى رُبعين أي نصفين بواقع عشر زنازين فى كل رُبع.

كُنا جميعاً في حالة يُرثى لها في زنزانة هي في الحقيقة قفص خرساني مُصمت، بالكاد يتحمل سجيناً واحداً في ظروف غير اَدمية قاتلة حيث تنعدم الرؤية تماماً فكنت في ظلام دامس ليلاً ونهاراً، ودون ارتداء ملابس غير سروال داخلي تعطن نتيجة البقاء لشهور دون ارتداء غيره.

كانت أرض هذه المقبرة بها نتوءات تمنعني من القدرة على النوم، مع عدم قابلية الجلوس وفرد رِجْليّ، ومع عدم تواجد مياه إلا من زجاجة بلاستيكية صغيرة من المَاء الآسِن.

كان يتم تقديم نصف رغيف خبز به مسحة من الجُبن الأبيض كوجبة يومية للسجين في التأديب، وكنت أرفض تسلّمه في أغلب الأحيان، ولم يكن هناك وسيلة لقضاء الحاجة إلا من خلال جردل صغير قذر تعاقب على استخدامه المئات وكان يحول رائحة المقبرة إلى رائحة قاتلة اختلط بها قضاء الحاجة مع عرق الجلد مع درجة الحرارة الشديدة.

كان وضعاً استئنائياً لا يُحتمل. لم أكن أعرف الأيام ولا النهار من الليل، كنت في عُزلة تامة حين وجدت أحد السجناء في مقبرةِ مُجاورة يُنادي:

"يا زين، يا زين.. كل سنة وانت طيب يا زين، النهارده العيد، مفيش عندك إزازة بيرة مشبرة".
ضحكت وبادلته المُعايدة وتمنيات الخروج من المقبرة، حيث كان أقصى أحلامنا مجرد الخروج من هذا الجحيم وليس الخروج للحرية.
بدأ جميعُ السجناء في تقديم المُعايدات، وقام "شُبرا" (اسم مستعار) وهو سجين جنائي خفيف الظل بإطلاق بعض النكات، وبدأ الجميع بالضحك حين قام بتقليد شخص من مصلحة السجون أتى للاطمئنان على السجناء فى التأديب، حيث كان ينصح كُل سجين بالأكل وشُرب الماء والحفاظ على الصحة الجسدية والنفسية كأننا بشر موجودون في مكان مُلائم وليس مكاناً كالمقبرة لا تستطيع الوحوش البرية البقاء به.