قبل رمضان بأيام، وجدتني أذهب إلى موقع ساوند كلاود، لأستمع إلى ذلك المقطع المجمع من مسلسل الخواجة عبد القادر، خفق قلبي حين استحضرت تلك المشاعر التي اجتاحتني وأنا أتابع المسلسل الملهم، الخواجة عبد القادر، في العام 2012، أي قبل 10 سنوات تقريباً، المقطع الذي تبلغ مدته 23 دقيقة تقريباً، يضم تسجيلاً صوتياً لأبرز مشاهد المسلسل، ما زال الناس يستعيدونها، لم أكن وحدي التي بحثت، سبقني 120 ألف شخص تقريباً لنفس المقطع، وكذلك مئات الآلاف فعلوا مع المقاطع الصوتية المختلفة للمسلسل الجميل.
عاد الناس، وعدت مثلهم، إلى "الكلمات"؛ وذلك لأن "الكتابة" كانت جميلة إلى تلك الدرجة، كتابة المؤلف والسيناريست عبد الرحيم كمال، وبالرغم من كتابته عدداً غير قليل من الأعمال اللاحقة، مثل "أهو ده اللي صار، ونجيب زاهي زركش، والقاهرة كابول"، وغيرها، فإن أياً منها لم يجذبني بالقوة ذاتها، مثل "جزيرة غمام" التي أعاد فيها عبد الرحيم كمال تألقه- في رأيي- بنفس قوة "الخواجة عبد القادر"، استطاع مرة أخرى خلق "حالة"تتملك المشاهد، فتسمو به حلقة بعد أخرى، وتجعله بشكل أو بآخر أقرب إلى الله، هكذا أجدني أذكر الله في سري وأنا أشاهد، أدوّن بعض الأوراد التي يذكرها عرفات، أفكر في الإسقاطات، وأقول: "هذا عمل يدفعني للتفكر والشعور ويتركني في حالة مختلفة.. هذا عمل جميل".
حدوتة جميلة
جزيرة غمام عبارة عن حدوتة، تدور في جزيرة بصعيد مصر، الزمن قبل ثورة يوليو/تموز؛ حيث البعض لا يزال يرتدي الطربوش، جزيرة لها كبير عادل، هو الشيخ عجمي، ومسؤول عن الأمن ظالم، وشيخ كبير يموت ليرث مكانه ثلاثة، تقع في الجزيرة جريمة قتل، ويفد مجموعة من الغجر على أهلها، وتبدأ الأحداث في التصاعد.
حدوتة بها كثير من الخيال، في هذا المسلسل، يتحدث الناس إلى البحر، وتخرج الحكمة من أفواه الأطفال، ويتجول الشرير في أرجاء القرية دون أن يتحرك، خير وشر وأحداث عديدة، حدوتة حقيقية، عامرة بالإسقاطات التاريخية والدينية والاجتماعية والسياسية.
فكبير الجزيرة الذي يهابه الجميع، يشعر بالخوف من أن يعلن زواجه وحبه، والرجل الصالح في المسلسل يذكرني بكثيرين، سيدنا عيسى عليه السلام، وسيدنا زكريا، في الأجواء، الشرير خلدون القادم من عالم فاوست من وراء البحر، وكبير الجزيرة يعيد لذهنك كبار أعمال نجيب محفوظ، هؤلاء الطيبون الذين لا يملكون ضراً ولا نفعاً.
يبدو أن إعجابي لا يقتصر عليّ، فالإعلامي عمرو أديب هو الآخر قام بالتغريد في حب "جزيرة غمام"؛ حيث وصف العمل بـ"العبرة ومنهج للحياة"، لكنها عبرة ليست مملة ولا خطابية مضجرة، وهذا هو الأمر الأغرب والأكثر إمتاعاً بشأن "جزيرة غمام".
صورة من الخيال
"يد واحدة لن تصفق"، وكتابة جيدة وحدها لن تنجو، تحمست في البداية حين علمت أن عبد الرحيم كمال هو المؤلف، ولكنني لم أبدأ في المتابعة إلا حين لاحظت أن أصدقائي يتعمدون التقاط الصور "سكرين شوت" من العمل حلقة بعد أخرى، مع ثناء خاص على الصورة، تحمست للمشاهدة، وبدأت بالفعل في المتابعة لأصاب بحالة من الذهول، ما كل هذا الجمال؟
من بين كل الصور الصاخبة العامرة بالتفاصيل المبالغ بها في المسلسلات، الصور المظلمة والتفاصيل التي بلا قيمة، تجد العين براحاً في ذلك العمل، الذي تولى إدارة التصوير فيه إسلام عبد السميع، وأخرجه حسين المنباوي، يتحول كل مشهد إلى لوحة، يمكن اجتزاؤها وحدها، للاستمتاع بها، تصير لوحة، صارت خلفية هاتفي واحداً من مشاهد المسلسل، حيث وجدتني أقوم بإيقاف المسلسل مرة بعد أخرى لأتأمل التفاصيل، وألتقط أنا أيضاً صوراً، الله جميل يحب الجمال، وهذه المشاهد جميلة جداً، تشبع عيني وتمنحني شيئاً لم يكن موجوداً قبل المشاهدة، هكذا أخرجني صناع العمل من عالمي وصرت داخل عالمهم، أشم الروائح القادمة من هناك، وأشعر أن جزءاً من كل تلك التفاصيل، التي أصدق حقاً أنها تدور هناك في عالم موازٍ.
عالم عرفات!
حسناً، عرفات، هو الرجل الصالح في الجزيرة، اليتيم الذي مات أبواه، واستولى جيرانه على حقه، شخصية ملغزة، يؤديها أحمد أمين باقتدار، بدا غريباً للكثيرين، فالممثل الكوميدي الذي اعتاد رسم الابتسامة على وجوه المشاهدين بأعماله السابقة مثل برنامج البلاتوه ومسلسل الوصية، صار فجأة رجلاً جاداً جداً، تقطر الحكمة من فمه، حتى صارت جمل عرفات في المسلسل أقوالاً مأثورة، وصار أداؤه مضرباً للأمثال في التميز، رجل صالح تصير المعجزات معه سهلة، تطرح بين يديه الأرض البور، وتأتي إلى مائدته الفاكهة بغير موسمها، ويصير الرزق الشحيح في وجوده كثيراً.
يدخل قلبك بنقائه الشديد البادي على وجهه وحركات جسده، ويغيظ عقلك بتفريطه الغريب في حقوقه، هكذا يترك إرثه مرتين، ولا يتقاضى مالاً عن عمله، ويتنازل عن جميلة الجزيرة وابنة كبيرها، ولا يرى نفسه أهلاً لها، يتنبأ بعظائم الأمور ولا ينتبه إلى شيء سوى عالمه الخاص الذي ينجح باقتدار في اجتذابك إلى داخله. في انتظار الزوبعة، يكثر شياطين الإنس والجن ويشح البحر، وتتبدد البركة، وتموت سندس ويبقى الجميع في حالة حراك عنيفة ومميزة، ويبقى عرفات نقطة نور وسط الغمام.
هنا الغيلان
حسناً إذا أردت أن تدخل إلى أرض الغيلان، فالفرصة سانحة في جزيرة غمام، كل فرد في موقعه غول على طريقته، ربما الأكثر بروزاً هو ذلك الدور الاستثنائي الذي يلعبه طارق لطفي، بمنتهى الاحتراف والقوة، يقدم دور "الشرير"، حتى إنه قد تم تشبيهه لفرط تمكنه بـ "محمود المليجي وعادل أدهم"، نبرة صوت، ملامح وجه، حركة جسد، شر بلا مجهود.
في المقابل، يجسد أحمد أمين "عرفات" الخير المطلق، ذلك الرجل الذي يفقه الدين لكنه لا يكره الجمال، يحب كل شيء جميل، ويساعد الأطفال قبل الكبار لرؤية الجمال من حولهم، شخصية تستبشر بالخير ولا تتكالب على الدنيا، وجدتني في مشهد له أدون الجملة التالية في دفتري: "العين تشوف على قدها، لكن القلب يشوف قد البحر"، تلك الشخصية التي تحمد الله في الضراء قبل السراء وتردد بلا انقطاع "الحمد لله على الحمد لله".
لعل لفظة "غول" وجدت لتعبر عن أداء الفنان رياض الخولي والذي يقوم بدور كبير الجزيرة، الحاج عجمي، لا يظن المشاهد لحظة إلا أن هذا الرجل هو كبير الجزيرة فعلاً، تقمص للشخصية وانفعالات محسوبة بدقة، حتى صار من الصعب أن يختار أدواراً جديدة ربما لن تكافئ قوة وجودة هذا الدور مرة أخرى.
من بين الغيلان جاءت تلك المفاجأة، الممثلة عايدة فهمي، في دور المليحة السيدة التي تموت حفيدتها، فتصفح عن قاتلها، السيدة التي لم يرها المشاهدون على الشاشة منذ زمن عادت بدور صغير، لكنه مؤثر جداً، بلكنة صعيدية متقنة وملامح من قلب مصر، تنادي على سندس حفيدتها المقتولة فتنفطر القلوب، تفوقت السيدة على نفسها وعاشت الشخصية بكل جوانبها حتى لو صارت تمتع رغم كآبة الدور وحزنه.
ربما كان الأمر الأغرب من بين كل الممثلين هو ما فعلته مي عز الدين، والتي قررت بطريقة غريبة أن تتخلى عن البطولة السنوية لها، وتنضم كممثلة عادية وليست بطلة في العمل الذي يبدو الجميع فيه أبطالاً، بدور العايقة، لم تحظ- لأول مرة- بسخرية من أي نوع على طريقة كلامها أو أدائها أو أي تفصيلة أخرى، انتصرت مي لكونها ممثلة فصارت بطلة دون مجهود في شخصية قدمتها بجدارة، شخصية "العايقة".
مع كل مشهد لفتحي عبد الوهاب، أو وفاء عامر، أو محمود البزاوي، ومحمد جمعة وهاجر الشرنوبي أستمتع، بالطبع تألق ممثلي المفضل عبد العزيز مخيون في دور يتلخص في مشاهد معدودة، لكنه يؤسس للكثير في المسلسل الذي وصفه البعض بأنه أسطوري والأفضل في العقدين الأخيرين.
عمل للجميع
هذا العمل ليس موجهاً لفئة بعينها، فشخصية "عرفات" تمثل الجميع، يرى فيه المسلمون رمزاً لأولياء الله الصالحين؛ حيث الكرامات والبصيرة والمناجاة الصادقة لله، ويرى فيه المسيحيون عيسى ابن مريم، فهو نجار أيضاً، متسامح ويكثر "الخبز " في وجوده، وهو أيضاً للبعض رمز للإنسان كما يجب أن يكون على أرض اليوتوبيا، حيث الرضا بما حدث وما لم يحدث، والعفوية الشديدة والطمأنينة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.