منذ الصغر وأنا أستمع إلى إذاعة القرآن الكريم في كل مكان حولي. كانت جدتي رحمها الله تحب الإذاعة وتحب النوم وصوت القرآن يملأ غرفتها. في الصباح الباكر يمكنك أن تجد الإذاعة كصوتٍ في خلفية كل المشاهد اليومية، في الحافلة، وفي المحال التجارية وفي كل مكان تقريباً يبدأ أغلب المصريون يومهم بالإذاعة التي تُرسل آيات الطمأنينة لقلوب الناس. منذ الصغر وأنا أسمع القرآن الكريم بأصوات الرجال، أعلام وأسماء كبيرة يتم ذكرها كعلامات في التلاوة والإنشاد الديني، ولكني لم أسمع ولم أرَ في أي يوم امرأة ترتل القرآن ولا شيخة تظهر على شاشات التلفاز أو في الإذاعة لقراءة ما تيسَّر من كتاب الله، وعند البحث وجدت أن النساء تم إقصاؤهن عن المشهد بشكل متعمَّد، ليس لأي سبب آخر إلا لأن ما لا يعجب الرجال يمكن أن يجدوا له تفسيراً ونصاً دينياً ليحرِّموه.
منيرة عبده.. من الإذاعة إلى الدرب الأحمر!
بالبحث عن أشهر المقرئات في تاريخ الإذاعة يأتي اسم "منيرة عبده" كأول قارئة في تاريخ الإذاعة التي تم افتتاحها في 31 مايو عام 1934. وُلدت منيرة في مطلع القرن العشرين فاقدة للبصر ،ورغم ذلك فإنها حفظت القرآن وتلته علی أذان سُكان قريتها والقُری المجاورة، كانت تقوم بالتلاوة في المآتم في الأماكن المخصصة للسيدات. تُعتبر منيرة أول امرأة تحمَّلت أضرار فتاوی صوت المرأة عورة التي صدرت من عدة شيوخ في عام 1939 والتي تسببت في منع بث القرآن الكريم بصوت المقرئات.
صوت منيرة الذي صال وجال في كل ربوع مصر، ووصل صداه لإذاعات لندن وباريس عن طريق أسطوانات الصوت التي حملت تسجيلات القرآن بصوتها، هذا الصوت قرر بعض الأشخاص الذين لا يذكرهم التاريخ منعه من الشدو رغم مكانته بسبب فتوی غير معقولة.
كانت تتقاضى منيرة عبده خمسة جنيهات في الوقت الذي كان يتقاضی فيه شيخ المقرئين محمد رفعت عشرة جنيهات، وفي الوقت الذي تم استبعادها فيه عن الإذاعة قررت التزام البيت والتوقف عن فعل أي شيء حتى وفاتها.
ولكن ما علاقة منيرة عبده بحي الدرب الأحمر؟
علی جوجل إذا بحثت عن مقرئات الإذاعة فإنك ستجد اسم منيرة، وستجد خريطة لإيصالك لحارة "منيرة عبده" بحي الدرب الأحمر في القاهرة. يبدو أنه بعد سنوات عديدة قرر شخص ما تخليد ذكرى هذه المرأة خوفاً من الذهاب طي النسيان، ولكن هل يعرف سكان حي الدرب الأحمر من هي منيرة عبده؟
كريمة العدلية.. من الغناء إلى التلاوة
يمكن أن يتم ذكر اسم كريمة العدلية كزوجة الشيخ "علي محمود" أستاذ الموسيقى في معهد الموسيقى العربية، ولكنها أيضاً كانت واحدة من أشهر مقرئات القرآن الكريم في الإذاعة وفي المناسبات الهامة. ولكن قصة حبها مع الشيخ علي محمود والتي كانت تشبه الحب الأفلاطوني هي واحدة من أجمل الحكايات. كانت كريمة تحرص على صلاة الفجر في مسجد الحسين بالقاهرة لسماع صوت الأذان من أستاذها في المعهد الشيخ "علي محمود"، وبالرغم من تتلمذِ العديد من الأصوات العظيمة على مر تاريخ الإذاعة المصرية أمثال أم كلثوم، زكريا أحمد، ومحمد عبد الوهاب وغيرهم إلا أن صوت كريمة كان أطيب إليه من العديد من القراء والأسماء اللامعة. كانت كريمة قارئة في الإذاعة وكان قد ذاع صيتها بسبب تمكنها من استخدام أسلوب خاص بها وإجادتها للتلاوة وقدرتها على استخدام صوتها بسبب دراستها للمقامات في معهد الموسيقى. كانت المقرئة ضيفة دائماً في كل مناسبات قادة ثورة يوليو/تموز الذين كانوا يقدرونها، وبالرغم من ذلك لم يلقَ قرار المنع أي رداع أو معارض وشملها كما شمل كل النساء. بالإضافة لذلك فإن كريمة كانت تُغني وكان يُذاع لها في الإذاعة المصرية أغانٍ بصوتها، وأكثر ما ذُكر عن هذا الأمر أنها حينما قرأت مقالاً ينتقد سماع القراء إليها في الصباح كمقرئة وفي الليل كمطربة قررت التوقف عن الغناء والتفرغ لتلاوة القرآن فقط.
أم السعد محمد علي نجم
واحدة من أعلام المُحفِّظين للقرآن علی مستوی العالم العربي بما ساهمت به لتعليم ومنح آلاف الإجازات بالقراءاتِ العشر للقرآن. وُلدت "أم السعد" في 11 يوليو/تموز عام 1925 في قرية البندارية مركز تلا بمحافظة المنوفية، لم تشهد هذه السيدة عصر تلاوة السيدات للقرآن في الإذاعة المصرية، ولكنها ساهمت في تعليم الكثيرين من كل الدول ومنحهم إجازة التلاوة. فقدت أم السعد بصرها في عامها الأول نتيجة الوصفات الطبية الخاطئة، ولم تتعلم إلا تلاوة القرآن على يد "نفيسة أبو العلا" المرأة التي لم تتزوج طوال سنوات عمرها الثمانين لأنها نذرت حياتها للقرآن!
في عمر الخامسة عشرة أتمت أم السعد حفظ القرآن في مدرسة "حسن صبح" بالإسكندرية وحينما ذهبت إلى نفيسة أبو العلا لتمنحها الإجازة اشترطت عليها أن تعدّها بأن لا تتزوج لأنها لا تقوم بتعليم النساء لأنهن ينشغلن عن القرآن بالزواج، وحينما وافقت أم السعد علی هذا الطلب بدأت في تعلم التلاوة بالقراءات العشر التي أتمَّتها في سن الثالثة والعشرين، ولكنها لم تتمكن من الوفاء بوعدها للشيخة نفسية، لأنها وقعت في حب أول مَن منحت له الإجازة الشيخ "محمد فريد نُعمان" أحد أشهر قراء إذاعة الإسكندرية. كان الشيخ محمد فريد ضريراً هو الآخر وتم تعليمه على يد أم السعد خلال خمس سنوات، وبعدما منحت له الإجازة طلب يديها ووافقت واستمر زواجهما 40 سنة بلا أطفال حتى وفاتها في 9 أكتوبر/تشرين الأول في 2006. تلقت أم السعد تعليمها عن نفيسة التي تُعد الراوي رقم 27 في سلسلة تنتهي بها وتبدأ بنبي الله الذي نزل عليه الوحي. ذاع صيت أم السعد ووصل إلی كل من يرغبون في التعلم والإجادة وتوافد على منزلها آلاف الطلاب من كل الجنسيات، وقد منحها أحدهم منحة إقامة لسنة كاملة في الرياض منحت خلالها الإجازة للعديد ممن يحفظون القرآن.
لماذا لا نسمع القرآن بصوت النساء؟
في 2009 قدَّم الراحل "أبو العينين شعيشع" طلب قبول قارئات للقرآن الكريم في الإذاعة المصرية بعد قبولهن للعضوية في نقابة قراء القرآن الكريم في مصر التي كان يترأسها في ذلك الوقت، إلا أن الطلب تمت مقابلته برفض صارم وقاطع استناداً لأن صوت المرأة عورة! وكان على رأس الرافضين لعودة قارئات القرآن إلى الإذاعة المصرية د. هاجر سعد الدين رئيسة شبكة إذاعة القرآن الكريم ورئيسة لجنة اختيار القراء في الإذاعة آنذاك. رفض هاجر لم يتغير على مدار سنوات ظلت تردد فيها أن قراءة القرآن يجب أن تكون على أسس وروابط حتی لا يخضع الذي في قلبه مرض، ولماذا نلجأ للنساء إذا كان هناك رجال يقومون بنفس الأمر!
بغض النظر عن أن ما قالته هاجر سعد الدين قد يمكن اعتباره تمييزاً على أساس الجنس بلا أي اعتبار لكونها امرأة عملت في الإذاعة لسنوات وقدمت العديد من البرامج، أتساءل هل من الواجب احترام كل مَن في قلوبهم مرض قبل تقديم أي فعل طبيعي، منطقي، أو ديني كتلاوة القرآن؟ هل من الواجب احترام مَن في قلوبهم مرض ومنع وعدم السماح للنساء بتلاوة القرآن لهذا السبب فقط، ولماذا لم تأخذ هاجر سعد الدين بهذا المنطق حينما كانت تقدم البرامج الدينية لسنوات طويلة، والأهم، هل فعلاً صوت المرأة عورة؟
يقول الشيخ محمد وسام مدير إدارة الفتوى المكتوبة وأمين لجنة بدار الإفتاء إن صوت المرأة ليس بعورة في حد ذاته، مؤكداً أنه لا توجد آية قرآنية أو أي حديث ثابت عن رسولنا الكريم يؤكد أن صوت المرأة عورة. بينما قال الدكتور "فتحي عثمان الفقي" عضو هيئة كبار العلماء في بث مباشر على صفحة الأزهر منذ عدة شهور إن صوت المرأة ليس عورة وإنه يجوز للمرأة قراءة القرآن بصوتٍ حسن.
لا يذكر التاريخ صاحب خرافة صوت المرأة عورة، ولا يوجد نص إلهي أو حديث شريف يخبرنا بأن صوت المرأة عورة، ولكن من يرغبون دوماً في إقصاء المرأة عن أي دور مجتمعي أو مجال يمكنهم اختلاق حجة ونشر شائعة، يمكنهم تقديس ما يقولونه وبثه في نفوس التابعين ليتحول في عقولهم وعلی مر السنين إلی حقيقة مُقدَّسة. في أحيانٍ كثيرة يتم تقديس الفتوى البشرية أكثر من النص الديني الإلهي نفسه، ويتم تقديس التفسير أكثر من قول النبي نفسه؛ فقط لخدمة مصالح شخصية أو إرضاءً للهوى وللذات الذكورية المتضخمة التي اعتادت على التعامل علی أنه نصف إله في مجتمع شرقي ما زال غارقاً في ظلام التأويل بدلاً من محاولة الخروج للنور عن طريق فهم قول الله ورسوله من خلال إعمال العقل بصورة فردية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.