المكان مائدة عيد الفصح في أويپن بشرق بلجيكا أثناء غداء عائلي احتفالي، وكنت أحب اجتماع العائلة وزيارة الجد والجدة كثيراً لكثرة ما نتناوله من أحاديث وذكريات تجعلك لا تعيش خبراتك وحدك، بل ترى من ألمانيا والبينيلوكس (BE, NL & LUX) ما لم تستطع اللحاق به زمنياً وما لم تقرأه في حوليات الحرب أو مسرحيات ميترلينك Maurice Maeterlinck -نوبل في الأدب 1911- المفعمة بالجوانب الإنسانية والاجتماعية.
كان عميد العائلة السيد ڤالتر إنساناً لطيفاً جداً يخشى زوجته شديدة الشكيمة وباهرة الجمال بالرغم من أعوامها السبعين، ورغم أنه كان محارباً شجاعاً في شبابه- لم يأسره السوڤييت في الحرب إلا بعد إصابته، وأخذ جريحاً- فإنه كان لين العريكة سهلاً مع زوجته وكانت هذه إحدى نقاط إعجابي الكثيرة به.
أظنها حكمة الحرب هي التي أكسبته القدرة على صناعة السلام أو لعلها حكمة الأجيال القديمة التي قاست كثيراً في صباها وشبابها فكانوا أفضل خلقاً وأنضج عقلاً، وكلما ذهبت للرجل كان هذا الهايلايت من عطلاتي التي دأبت أن أقضي نصفها في بلجيكا لأكثر من عقد، سواء في عيدي الفصح والميلاد وما بينهما نتبادل الأراجيز والأخبار والأحاديث عن الله والدنيا كما يقول الألمان über Gott und die Welt وفِي الخلفية تنساب موسيقى جيله التي أستلطفها على إذاعة WDR4 "ڤيرونيكا دير لِنتس إست دا… ترا لالا (لحن شهير من العشرينيات يتغنى بالربيع لمحبوبته ڤيرونيك).
وكنا حول المائدة وحان الغداء وقدمت لهم طبقاً من لحم الضأن أنضجته بالفرن بطريقة شهية، ولكن الرجل لم يقربه واندهشت لأنه كان سيفعل ولو على سبيل التجربة، خاصة وأني أحضرته معي خصيصاً، وإذ به يخبرني أن لديه عقدة من لحم الضأن فهي تذكره بأيام حبسه في معتقل المغول- عفواً معتقل السوڤييت- عند الروس في صحراء قره قوروم Karakorum بجمهورية كازاخستان السوڤيتية آنذاك في الفترة من 1945- 1950، حيث كانت هناك ندرة في كل شيءٍ وخاصة بالمعتقل سواء في الطعام أو في ما يستر البدن.
فكانوا يتسابقون في دفن زملائهم من العساكر الألمان ممن لم يتحمل البرد وقسوة الحياة من رفاق السلاح وبعضهم كان جاره من الشارع الذي يليه ليظفر إما بچاكيت أو بنطال يخلعونه عن الجثة عند وضعها بالحفرة التي صنعوها بأيديهم، فما حاجة صديقهم للبزة العسكرية لحظتئذٍ وهو تحت التراب؟! فهو لم يعد يشعر ببرد الصحراء ولا حرها الحرور ولا ذُل الأسر -ورأيت في عينيه أسى وكأنه عاد لتوه من هذه الدفنة رغم مرور خمسين عاماً على الحادثة المروية- وأخذ هو ساعتها چاكيت زميله وجاره "ماتيو" مغنماً ليلتحف به مع أسماله البالية الأخرى وجندي أسير آخر البنطال وثالث الحذاء هكذا تم اقتسام تركة الجندي مجند رقم 0815.
ولأن ما يقدم لهم من القوت مرة واحدة في اليوم كان طبقاً من الحساء (غالباً بورش) مع قطعة من الخبز الأسود الجاف قد تصغر يوماً أو تكبر المهم ألا تغيب كي تقيم أودهم، بينما المطبخ البلجيكي ثري بأنواع الحساءات الدسمة وأطايب الخبز والجبن والجعة والأنبذة فتخيلت نفسية من يقتطع من مائدة أبيه وأمه العامرة ليرمى به في أوار حربٍ ضروس لم يطلبها ليدافع عن أكاذيب محضة وباطل ملفق وامتثالاً لأوامر الفوهرر العظيم، المهم أنه جيء بِه للجبهة وإذا به ينتهي أمره في محبس في بلاد بعيدة في قارة أخرى بوسط آسيا ينتظر بين الحين والآخر لحظة أن يتقاسم زملاؤه ملابسه البالية وحذاءه بعد رميه جثماناً بارداً في حفرة مماثلة لعلها بجانب تلك لصديقه ماتيو.
لذا حرص صاحبنا جداً على حفظ نفسه، صحته ولياقته قدر الإمكان وألا يهدر طاقته، حتى كانوا ذات مرة بين الغرود الرملية فوجدوا جثة شاة صغيرة وقد بدأت في التحلل، تركها أحد الرعاة وراءه بعدما نفقت فاستبشر الجند فرحاً وأسرعوا لاستنقاذها من الهوام والسباع وقاموا بتقطيعها وأكلها بعد حرقها سريعاً كمحاولة للاستنضاج والتطهير للحم مَيتة مضى عليه يوم أو اثنان وقد بدأت تخرج منه ريح منتن، لكنك يا بني لا تعرف شعور الجوع والغربة والبرد والأسر عند الروس- وكأنه يبرر لي فعلته موجهاً كلامه- فكان ما ناله منها في هذا اليوم الاستثنائي قطعة لحم قال لي في وصفها: كانت سيئة الطعم، بشعة بدرجة تخيلت أنني لو قضمت نعل حذائي لكان أقل سوءاً منها!
ورغم مرور نصف قرن على حادثة الشاة الميتة فإنه لم يطعم الضأن منذ ذلك اليوم أبداً حتى ولو كان من مائدة السماء!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.