بدت الاقتحامات الإسرائيلية الأخيرة للمسجد الأقصى مختلفة نسبياً ليس فقط لكثافتها وتواصلها لعدة أيام وإنما للخلفيات والأسباب التي أدت إليها، كما لتداعياتها الفلسطينية – الإسرائيلية وتأثيراتها في فلسطين والمنطقة بشكل عام.
فيما يخص الأسباب المعلنة يمكن الحديث عن حماية جيش الاحتلال اقتحامات المستوطنين للأقصى في عيد الفصح، مع سعي واضح وخبيث هنا لتكريس الاقتحامات وجعلها حقيقة واقعة وأمراً مسلّماً به، وتجريم وشيطنة مساعي التصدي لها سياسياً وإعلامياً وميدانياً على طريق تحقيق الهدف أو للدقة الأهداف الاستراتيجية للدولة العبرية المتمثلة بالتقسيم الزماني والمكاني للأقصى والحرم القدسي الشريف- كما جرى في الحرم الإبراهيمي بالخليل- ومن ثَم هدم المسجد وإقامة الهيكل المزعوم مكانه.
في السياق نفسه يسعى الاحتلال دوماً لفرض سياساته ورؤاه وكسر إرادة الفلسطينيين وعزيمتهم عبر فرض الإحباط عليهم في القدس تحديداً باعتبار ذلك علامة على حسم الصراع أو على الأقل تحييد وإنهاء واحدة من أهم قواعده وركائزه المشتعلة والمتقدة في فلسطين والمنطقة العربية والإسلامية.
اقتحامات المستوطنين للأقصى
هنا لا بد من الإشارة إلى أن قصة اقتحامات المستوطنين للحرم القدسي بدأت في العام 2003 إثر تدنيس رئيس الوزراء الأسبق أرئيل شارون للحرم- والذي ردّ عليه الشعب الفلسطيني بانتفاضته الثانية التي بدأت في أيلول/سبتمبر 2000- وتواصلت بعد ذلك بشكل خجول وأعداد محدودة يومياً أقل من أصابع اليد، ثم زادت وتضاعفت لتتناسب طردياً مع هيمنة اليمين المتطرف على السلطة خلال العقد الأخير لتصبح عشرات ثم مئات يومياً، كما رأينا الجمعة الماضية بحيث بلغت الآلاف، حسب الإحصائيات الرسمية الصادرة عن دائرة الأوقاف الإسلامية بالقدس.
الاقتحامات تزايدت كمّاً ونوعاً أيضاً مع محاولات المستوطنين المستمرة للصلاة في الحرم القدسي والتي تصدى لها ولا يزال المرابطون وحرس الأوقاف الصامدين، ثم وصل الأمر أخيراً إلى حد التفكير في ذبح القرابين بمناسبة عيد الفصح اليهودي.
قصة القرابين تبدو لافتة بحد ذاتها وتعبر عن تصاعد التطرف والهوس، ناهيك عن أنها لا تستند لأي دلائل تاريخية أو أثرية صلبة وموثوقة، ويفترض أن يتم تقديمها حسب الأساطير الوهمية بعد إقامة الهيكل المزعوم والتفكير في تقديمها الآن يعني التصرف وكأن الهيكل قد أقيم فعلاً، وبالتبعية حسم فكرة هدم المسجد الأقصى والسيطرة بالتالي على كامل الحرم القدسي بمساحته الكلية البالغة 144 دونماً.
هنا أيضاً لا بد من لفت الانتباه إلى أن جماعات الهيكل المتطرفة تقف على نفس الأرضية الدينية والسياسية مع رئيس الوزراء نفتالي بينيت ومعظم أركان حكومته، كما أن صعودها تنظيمياً وسياسياً وإعلامياً ارتبط أيضاً بصعودهم وانتقالهم من هامش الحياة السياسية والحزبية إلى متنها.
التغطية الرسمية من قبل الحكومة والمؤسسة الأمنية العسكرية للاقتحامات تهدف كذلك إلى حصد فوائد سياسية لحكومة بينيت ليبد – غانتس اليمينية، كما قال بينيت نفسه والتي باتت بطة عرجاء بعد فقدان غالبيتها البرلمانية، علماً أنها محاصرة أصلاً من اليمين الأكثر تطرفاً بقيادة رئيس الوزراء السابق وزعيم المعارضة الحالي بنيامين نتنياهو، الذي يقدم بدوره التغطية السياسية والإعلامية لممارسات حلفائه ومستوطنيه في الحرم والقدس والضفة الغربية بشكل عام، على أمل إضعاف وإسقاط الحكومة والعودة إلى السلطة مرة أخرى مواصلة السعي نحو التخلص من كابوس محاكمته واحتمال نهاية حياته السياسية برمتها.
في السياق الإسرائيلي الفلسطيني لا شك أننا أمام محاولة موصوفة لإشغال الفلسطينيين واستنزافهم وتشتيت جهودهم على عدة جبهات من الأسرى ومعاناتهم إلى مخيم جنين وعزله، وعقاب المحافظة بأكملها وغزة وحصارها وإلهائها بنفسها وشؤونها الحياتية اليومية، وعلى جميع الجبهات تستخدم إسرائيل نفس سياسة أو تكتيك "حافة الهاوية"، حيث التصعيد والضغط لخلق وقائع جديدة وجسّ النبض واختبار ردّ الفعل الفلسطيني ومن ثم طلب تدخل الوسطاء وإعطاء انطباع بتقديم تنازلات سواء تجاه الأسرى وجنين وبؤر المقاومة الشعبية المشتعلة بالضفة الغربية أو غزة، وتحسين مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية فيها.
وعملياً تعود الأمور دائماً إلى نقطة البداية أيضاً في الجبهات كلها، حيث الاحتلال والاقتحامات والتهويد والاستيطان، وعدم الإفراج عن الأسرى ونيلهم حقهم الطبيعي في الحرية وبالتأكيد دون الحديث عن أي أفق سياسي للقضية الفلسطينية بركائزها وثوابتها المعروفة لا مع سلطة رام الله المتعاونة أو مع الوسطاء العرب والدوليين.
موت السلطة الفلسطينية
فلسطينياً؛ أكد التصدي البطولي للاقتحامات من المقدسيين والفلسطينيين بشكل عام على انفصام السلطة وضعفها وعجزها عن حماية شعبها، بحيث لم يعد أحد يعطي لها وزناً أو قيمة بعدما لم تمتلك الإرادة ولا القدرة حتى على عقد اجتماع لمناقشة التطورات الأخيرة، وإبداء موقف واضح منها. ومن هنا لم يكن مفاجئاً أن تتجاوزها وتتجاهلها وساطات التهدئة العربية والدولية، كما رأينا في الوساطة المصرية غير المباشرة بين الاحتلال وقادة حماس في غزة والخارج.
وفيما يخص الوساطة فقد بدت القاهرة للأسف منحازة وأقرب إلى وجهة النظر الإسرائيلية بعدما تعاطت مع ممارسات الاحتلال واقتحامات المستوطنين للأقصى والحرم والقدس بشكل عام كحقيقة قائمة لا جدال أو شك فيها رغم أنها أصل وجذر المشكلة، حتى أنها ضغطت وابتزت حماس بمشاريع إعادة الإعمار وإدخال بضائع ومستلزمات حيوية مصرية إلى غزة لمنعها من الردّ أو حتى دعم الصمود والرباط في الأقصى. ورغم نجاح الوساطة في الإفراج عن المعتقلين إلا أنها لم تمنع إبعادهم عن المسجد الأقصى أو توقف الاقتحامات بحد ذاتها، وهي معطيات لم تنل ما تستحقه من اهتمام سياسي وإعلامي.
وفي ملف ذي صلة لا شك أن الموقف الأردني جاء أصلب وأقوى بكثير من الموقف المصري بعدما تضمن إدانة واضحة وقوية للممارسات الإسرائيلية، وتحذير من تبعاتها السلبية على الواقع في فلسطين والمنطقة ما أثار غضب تل أبيب ودفعها لشن حملة ابتزاز موصوفة ضد عمان لتبني النموذج المصري والوقوف على الحياد أو حتى تجريم وشيطنة ردّ الفعل والدفاع الفلسطيني الطبيعي عن الحرم والقدس والمقدسات بشكل عام.
في كل الأحوال أكد مشهد التصدي للاقتحامات وإفشال ذبح القرابين، وإقفال الحرم أو تقسيمه زمنياً ومكانياً أن جذوة الصمود والعناد لا تزال مشتعلة في الشارع الفلسطيني مع تكريس حقيقة المقاومة الشعبية كخيار ناجع في مواجهة الاحتلال، وكما العادة أكدت التطورات مجتمعة الحاجة إلى ضرورة إنهاء الانقسام السياسي والجغرافي وتشكيل قيادة فلسطينية وطنية موحدة تضع الاستراتيجيات المناسبة من أجل إدارة مصممة وناجعة وعنيدة للمعركة في القدس وعموم فلسطين، مع اليقين التام بقدرة الشعب المجاهد الصامد والعنيد على فرض إرادته وإفشال المخططات المرحلية وحتى الاستراتيجية للاحتلال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.