ذُهِلَ الغرب على مدار الشهرين الماضيين بمشاهد السكان الأوكرانيين ذوي التسليح الخفيف وهم يقاومون جبروت جارتهم العدوانية ذات القوة الساحقة، روسيا. وأصبحت مقاومة الشعب الأوكراني ضد هجوم فلاديمير بوتين العسكري جزءاً من كتب التاريخ الأوروبية بالفعل. حيث وُصِفَت المقاومة بالبطولية، ومنحت علة وجود جديدة لحلف الناتو.
في مكان آخر على سطح الأرض، هناك موجة مقاومةٍ شعبية أخرى تتصاعد على جانبٍ آخر من الكوكب، ولكنها لا تحظى بنفس المعاملة.
إذ لن يسارع فريق من مراسلي شبكات CNN الأمريكية وBBC البريطانية لتغطية أخبار هذه الزمرة من المقاومين أو التعاطف معهم وهم يجهزون زجاجات المولوتوف الحارقة ويتعلمون كيفية إطلاق النيران. ولن يطير رئيس وزراء بريطانيا إلى هناك سراً للقاء زعيمهم. كما لن تصل أي ناقلات عسكرية محملة بصناديق من أسلحة الجيل الجديد المضادة للدبابات، وصواريخ ستينغر، والمسيرات لتمنح المحاصرين فرصةً في النجاة أمام الدبابات والطائرات المسيرة الخاصة بالمعتدين. ولن ينتقل كذلك فريقٌ سري من القوة الجوية الخاصة البريطانية لتدريبهم على الأرض.
فضلاً عن أن الشبكات الاجتماعية لن تنقل دعوات مقاومتهم إلى الجمهور العالمي. حيث قامت منصة فيسبوك بدلاً من ذلك بإيقاف صفحةٍ مخصصة لتغطية أخبارهم خشية إغضاب المعتدين. وستجري إعادة تقديم مقاومتهم بواسطة المحتل في صورة إرهاب، بينما سيقف العالم مكتوف الأيدي كما يحدث في كل مرة.
ولكنها ورغم كل ذلك، تظل مقاومةً بكل تأكيد.
لهيب الظلم
يشتعل لهيب الظلم ويتأجج وسط أبناء مخيم "جنين"، وفي المسجد الأقصى الذي تجتاحه الشرطة المسلحة الإسرائيلية الآن مع مطلع كل فجر -تماماً كما حدث في ماريوبول وبوتشا وتشيرنيهيف.
ويُمكن القول إن اللهيب مشتعلٌ ومتأججٌ بحق في جميع أنحاء فلسطين الآن.
إذ تعرض المسجد الأقصى للتدنيس ثلاث مرات بواسطة قوات الاحتلال الخاصة، التي اعتدت بالضرب على المصلين في شهر رمضان المعظم مستخدمةً الهراوات. ويجري تصوير هذه المداهمات المسلحة -التي أسفرت عن جرح واعتقال المئات- باعتبارها "اشتباكات".
وذلك رغم عدم وجود أي دليل على أن المصلين ارتكبوا أي استفزازات أدت لهذه الهجمات، باستثناء وجودهم القانوني في المكان.
ويرجع سبب تلك الاجتياحات إلى الرغبة في إخلاء باحة المسجد الأقصى من أجل وصول الصهاينة المتطرفين، الذين أصبحوا أكثر جرأة في كسر الحظر المفروض من ديانتهم على الصلاة عند المسجد الأقصى، والذي يطلق عليه اليهود اسم "جبل الهيكل".
ولن تكون هذه الهجمات هي الأخيرة؛ إذ أعلن نشطاء يمينيون متشددون وجماعات مستوطنين عن خططٍ لاجتياح الأقصى في الأسبوع الجاري بأعدادٍ كبيرة بدايةً من يوم الأحد 17 أبريل/نيسان، وذلك احتفالاً بعيد الفصح.
وتصور معي فقط لو حدثت نفس هذه الهجمات، مع إطلاق الشرطة للرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع، وتحطيم النوافذ الزجاجية المزخرفة، وضرب واعتقال المصلين داخل كاتدرائية القديس بولس في لندن أو القديس بطرس في روما خلال عيد الفصح.
ومع تضاعف الهجمات على المسجد الأقصى، بدأ الصهاينة اليمينيون في تحويل النزاع على الأرض إلى حربٍ دينية. لكن الإسلام ليس الدين الوحيد الذي تُعاديه إسرائيل. إذ حاصرت قوات الاحتلال كنيسة المهد لخمسة أسابيع في عام 2002، لكن العالم لم يبالي حينها كما هو الحال الآن.
كما تجلّت نفس الأصولية في اختيار موقع اجتماع وزراء خارجية مصر، والبحرين، والمغرب، والإمارات -وجميعها من الدول التي تُجاهر بدعمها للدولة الفلسطينية. إذ جرى جمعهم وإظهارهم داخل مستوطنةٍ يهودية مبنية على أطلال قريةٍ فلسطينية مدمرة دفن فيها دافيد بن غوريون.
وتقع تلك المستوطنة في النقب، حيث أُثيرت حفيظة البدو الفلسطينيين لشهور بالإعلانات المنتظمة عن مستوطنات صهيونية جديدة. كما جرى تشكيل ميليشيا مسلحة يهودية "لاسترداد سلامة المواطن الشخصية". فضلاً عن أن البدو لا يعتبرون من المواطنين في قواميس السياسة الإسرائيلية، رغم قدرتهم أن يخدموا في الجيش، لأن لفظ المواطن يُطلق على اليهود الإسرائيليين فقط.
السلام مع العرب
حققت قمة النقب ما كان يحلم به كل رئيس وزراء إسرائيلي منذ شمعون بيريز: السلام مع العرب رغم أنوف الفلسطينيين. وقد كان موكب نصرٍ مخزٍ دون شك.
وجاء الرد فورياً مع اقتراب رمضان، حيث تضاعفت الهجمات المسلحة داخل الأراضي المحتلة، مما أسفر عن مقتل 14 إسرائيلياً -وهو رقمٌ أكبر من إجمالي قتلى هجمات غزة الصاروخية العام الماضي.
ولهذا شعر رئيس الوزراء نفتالي بينيت بضرورة الرد، خاصةً بعد أن خسر أغلبيته على خلفية استقالة رئيسة الكنيست إيديت سيلمان نتيجة حكمٍ من المحكمة العليا سمح بدخول الخبز المخمر إلى المستشفى في عيد الفصح. وقالت إيديت: "لن أشارك في الإضرار بالهوية القومية لإسرائيل".
أما بينيت، المستوطن اليميني الذي يتعرض حالياً لهجوم اليمين الوطني المتدين، فقد دعا الإسرائيليين إلى تسليح أنفسهم ومنح قوات الأمن الضوء الأخضر لممارسة القمع. لدرجة أن عوزي ديان، القائد العسكري المخضرم والسياسي، هدّد الفلسطينيين صراحةً بنكبةٍ جديدة في حال استمرار الهجمات؛ حيث قال: "أريد أن أقول للمجتمع العربي أن يتوخى الحذر، حتى من لم يشاركوا في الهجمات. إذا وصلنا إلى وضعية الحرب الأهلية، فستنتهي الأمور إلى موقفٍ من كلمةٍ واحدة تعرفونها جيداً: النكبة. هذا ما سيحدث في النهاية".
جنين تقاتل الاحتلال
ركزت الحملة الأمنية لعدة أيام على جنين وعائلة رعد حازم، أحد منفذي هجمات تل أبيب الأخيرة؛ إذ حاولت قوات الاحتلال اعتقال عائلة حازم مرتين، خاصةً والده فتحي، وهدم منزلهم. لكن مساعيهم باءت بالفشل بعد ساعتين من تبادل إطلاق النار.
بينما طالب ضباط استخبارات الاحتلال فتحي بتسليم نفسه ومن تبقى من أبنائه. لكن فتحي طلب منهم "أن يأتوا ويأخذوه من داخل المخيم"، كما فعل الأوكرانيون أثناء دفاعهم عن جزيرة الثعبان.
وفي اليوم التالي، هاجمت قوات الاحتلال جنين مرةً أخرى. واستشهد أحمد سعدي خلال تبادل إطلاق النار الناجم. لكن والده رثاه قائلاً: "نحن أحفاد فرحان السعدي، على درب الشهادة ماشيين كلنا، وفداءً للأقصى وللوطن كله".
وقد ألقى فتحي حازم خطاباً حماسياً دعا خلاله الشباب إلى الدفاع عن فلسطين ومواصلة الاحتشاد حوله وحول المقاومة الفلسطينية في المخيم؛ إذ قال وهو يداعب لحيته البيضاء: "لقد كبرنا وضعفنا، والآن نسلم الراية إليكم". وقد تحول فتحي حازم، العقيد المتقاعد في قوات أمن السلطة الفلسطينية، إلى بطلٍ قومي الآن. لكن دعوته لحمل السلاح تستمد أهميتها من كونه عضواً في حركة فتح، الحركة الوطنية التي تخلت عن المقاومة حين اعترفت بوجود إسرائيل.
لكن التاريخ انقلب رأساً على عقب، وكأن أيام التفاوض وتبادل الأراضي قد ولّت.
إذ كان فرحان السعدي واحداً من القادة الأصليين للمقاومة الفلسطينية قبل 90 عاماً، حين كان البريطانيون يحكمون البلاد. بينما نظم عز الدين القسام، الداعية الإسلامي والمصلح الاجتماعي، أول مقاومةٍ فلسطينية مسلحة ضد البريطانيين في جنين عام 1935.
وقد استشهد كلاهما في تبادلٍ لإطلاق النار مع شرطة الاستعمار البريطاني. لكن الثورة استمرت حتى عام 1939، حين وعد البريطانيون بتهدئة الهجرة اليهودية وبعد أن تعرض غالبية قادة الانتفاضة للاغتيال أو الاعتقال.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت جنين مركزاً للنضال ضد الاحتلال؛ حيث دارت هناك معارك ضارية في عام 1948 حين دافع عنها الجيش العراقي والمتطوعون الفلسطينيون، وفي عام 1987 حين اندلعت الاحتجاجات في الضفة الغربية وقطاع غزة وصمدت جنين وقتها لـ60 يوماً، وفي عام 2002 بالتزامن مع الانتفاضة الثانية تعرضت للحصار وسوّت الجرافات أجزاءً منها بالأرض، قبل أن يحفر ستة من أبنائها مؤخراً نفقاً بالملاعق للهروب من أحد السجون الإسرائيلية شديدة الحراسة.
وقد بُذِلَت جهود دولية متعددة لشراء التمرد بالمال؛ إذ أمل مبعوث الشرق الأوسط آنذاك توني بلير ورئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض في تحويل جنين إلى "مثلٍ يحتذى به في السلام الاقتصادي بين بلدات الضفة الغربية الأخرى"، وذلك عن طريق إقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك برفع حواجز الطرق ووقف هدم المنازل.
بينما أشار محضر اجتماعٍ عُقِدَ عام 2008، وتسرب إلى وثائق المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، إلى أن "سلام فياض وتوني بلير ناقشا كيف تمضي أمور جنين على خير ما يرام، كما تحدث باراك عن الأمر نفسه مع كونداليزا رايس بدون أي تعقيبات؛ مما جعل سلام فياض متفائلاً بأن مثال جنين يمكن أن يحتذى به في مناطق أخرى. بينما يؤمن توني بلير بحدوث تغييرٍ في العقلية الإسرائيلية بعد جنين، حتى وإن لم يدرك الناس التغيير بعد. وقد أكد سلام فياض على حاجة إسرائيل لتغيير سلوكياتها، معرباً عن أمله بأن يساعد مثال جنين في تحقيق ذلك".
لم يتغير الكثير
لم تتحقق الكثير من الأمور الموعودة، مثل إنشاء منطقةٍ صناعية جديدة. وقد عادت جنين اليوم إلى نقطة الصفر التي كانت تقف فيها حين فاز القسام بقلوب الناس، بعد أن فقدوا الأمل في ما وصفها المؤرخ رشيد خالدي بـ"تسوية النخب" مع البريطانيين.
إذ قال فتحي حازم في مقابلةٍ بعد استشهاد ابنه: "لم تتغير جنين، ولم يتغير أهلها، لأن الاحتلال لم يرحل. وحين يرحل الاحتلال، سيتغير الناس والظروف والمزاج العام. وحينها فقط سيبدأ الناس في عيش حياةٍ طبيعية كما تفعل الشعوب الأخرى. نحن شعبٌ يعيش تحت نير احتلالٍ قاسٍ ومؤلم، يحرمنا من أرضنا وحريتنا، ويقتل أطفالنا، ويصادر ممتلكاتنا، ويكيل لنا عقاباً لا يحتمل بصفةٍ يومية. ونعيش في ظل نظام فصلٍ عنصري قائم على مصادرة الأراضي وتوسع المستوطنات دون توقف".
وجنين هي المدينة التي ترفض الاستسلام، ولكنها ليست بمفردها؛ إذ تجلّت نفس روح الإباء والتضامن في جميع أنحاء الضفة الغربية. ولا يوجد فلسطينيٌ يقف مكتوف الأيدي.
وهم يفعلون ذلك لأنه ليس لديهم خيارٌ آخر، وليس لديهم مستقبلٌ آخر، وليست لديهم حقوقٌ وطنية أو سياسية. لدرجة أن الصراع لم يكن من قضايا المناقشة في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة. بينما يجري اعتقال أبنائهم في المداهمات المسائية. وهم الآن أمام خيارين: إما أن يستسلموا ويسلموا لهيمنة الاحتلال ومستوطنيه، أو يقاوموا. ويُواجه جيلٌ فلسطينيٌ تلو الآخر نفس الخيارات، لكنهم يستقرون دائماً على القرار نفسه.
وقد كشفت لنا أوكرانيا ما يمكن للغرب أن يفعله إذا ألحق أقواله بأفعال؛ إذ حول الأطفال إلى أبطال لمجرد أنهم يرفعون البنادق اللعبة في وجه الروس. لكن نفس التصرف سيُعتبر همجياً إذا صدر عن طفلٍ فلسطيني.
وستظل إسرائيل أرضاً محرمةً على القيم الغربية، والمكان الذي أُلغِيَت داخله حقوق الأراضي، والحق في الحياة الكريمة، والعدالة قبل أكثر من 70 عاماً.
وكل مستوطنةٍ جديدة، وكل اجتياحٍ للمسجد الأقصى هو فعل حربٍ من الحركة الصهيونية التي ليس لها رادع، والتي ستقود جميع الإسرائيليين إلى حافة الهاوية.
وقد كان زعماء العرب الحاضرون في قمة "النقب" محقين حين كانوا يبتسمون إلى عدسات الكاميرات بتوتر، لأنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أن ما يحدث لن يدوم. ويعلمون أن السد يوماً ما سينهار، لينجرف كل شيءٍ في طريق التيار.
– هذا الموضوع مُترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.