استيقظتُ صبيحة الخامس والعشرين من أبريل/نيسان عام 2014، على أنغام أغنيةٍ اعتدت على سماعها (كشأن بقية المصريين) في هذا الموعد من كل عام، تشدو بها الرائعة شادية، من ألحان "جمال سلامة" وكلمات "عبد الوهاب محمد" بعنوان "مصر اليوم في عيد".
لأجد نفسي ممسكة بقلمي، وأخط على ورقي مقالة بعنوان: (سيناء رجعت كاملة لينا من دون أم الرشراش) في محاولة بائسة مني لتنشيط العقل الجمعي للمصريين، وتذكيرهم بالأرض التي سقاها أجدادنا بدمائهم، ففرط فيها بكل سهولة، قادة الجيش، الجاثمون على صدورنا وعلى الحكم، منذ انقلابهم الميمون في يوليو/تموز 52، بل لم يمنعهم الخجل، أو الحياء الجميل، من الاعتراف صراحة بالتفريط المُشين، كما فعل قائد قوات حرس الحدود المصرية اللواء "أحمد إبراهيم"، في تصريح له صادم، أثناء حوار أجرته معه الإعلامية "رولا خرسا" على قناة "صدى البلد" في ذكرى الاحتفال بنصر أكتوبر/تشرين الأول عام 2013، وذلك رداً على سؤال طرحته المذيعة بتردد شديد، على اعتباره أقوالاً مغلوطة أو شائعات منتشرة، قائلة له: نسمع كثيراً عن وجود مدينة مصرية لم نحصل عليها أثناء معاهدات السلام مع إسرائيل، فما صحة هذا الكلام؟!
ليجيبها اللواء بكل بساطة: (نعم، أم الرشراش، دي مدينة مصرية ومتسجلة في الخرائط).
فتقاطعه المذيعة: إذاً لم يقولون لنا إننا لم نستردها؟!
فيهز رأسه ويقول: "ما هي دي إيلات، ونحن لو طالبنا بها سنحاصر إسرائيل ولن يصبح لها منفذ على خليج العقبة والبحر الأحمر".
الرد العفوي لسيادة اللواء بصوته المطمئن، ولهجته الواثقة، تدفع فكك السُفلي- لا إرادياً- كي يتدلى ساقطاً، مع قطرات تبلل ذقنك، من ريقك الممنوع من الازدراد، بعد أن سدت بلعومك، كلمات قبيحة، فرضها عليك الموقف العجيب، فور توقف عقلك عن العمل، حين حاول جاهداً، استيعاب اللامعقول!
قائد قوات حرس الحدود، المتولي مهمة واحدة ووحيدة هي حماية الحدود، يحدثنا بنصف ابتسامة عن مدينة مصرية، تركها الجيش المصري عن طيب خاطر وبسماحة نفس، للعدو الإسرائيلي، إشفاقاً منه عليه، لئلا يظل حبيساً، دون منفذ بحري!
لم أستغرق كثيراً في التعجب من طيبة قلب الجيش المصري، لأصحو بعد عامين كاملين، وفي أبريل/نيان ذاته، لأجد (سيناء- مجدداً- رجعت كاملة لينا إلا أم الرشراش، وتيران وصنافير).
حين تذكر الرئيس المصري "عبد الفتاح السيسي"، وصية والدته له، حين كان صغيراً: (ماتطمعش بما في أيدي الناس، حتى لو كان أبوك)، فيهرول مسرعاً، إلى هاتف قصره، طالباً القيادة السعودية، عارضاً عليهم التنازل طواعية عن جزيرتي تيران وصنافير، فيقوم الملك "سلمان"، بزيارة سريعة إلى القاهرة، يجلس بجانب السيسي في قصر عابدين، ومن خلفهم سجادة أثرية، يظهر بها بوضوح جزيرتا تيران 80 كم²، وصنافير 33 كم²، كجزء أصيل من حدودنا التاريخية، التي كانت منذ عهد ليس ببعيد، أضعاف المساحة التي نحن عليها اليوم، ليوقعا اتفاقية ترسيم حدود مصر البحرية (الدولة الأقدم في التاريخ، التي- من عجب- أنها ما زالت تتعرف على حدودها، كجزيرة تم اكتشافها حديثاً)، ويتنازل الجانب المصري (أو بشكل أدق العسكري المصري) عن سيادة بلاده على جزيرتي "تيران وصنافير"، ليتحول بعدها مضيق تيران المنفذ الاستراتيجي الهام، وبوابة الملاحة في البحر الأحمر وخليج العقبة، لمضيق دولي، بعد أن كان مضيقاً مصرياً خالصاً، يقع بين سيناء المصرية (التي رجعت كاملة لنا من دون أم الرشراش) وجزيرة تيران المصرية (التي رجعت كاملة للسعودية) في مقابل حفنة دولارات، لم يكد يُرى أثرها على الاقتصاد المصري كحال عشرات من المليارات الأخرى، ما بين قروض وتبرعات وهبات، ذابت جميعها في بحر مشاريع (ليس لها دراسة جدوى) ولا يعلم أحد أسبابها، إلا الله ، ثم السيسي، الحاكم الهُمام.
ضاعت الجزيرتان، فضاعت سيادتنا على المضيق لصالح العدو الإسرائيلي، الذي شَنّ حرباً ضروساً عام 1967، كان من أهم أسبابها، لجوء مصر لإغلاق المضيق أمام الملاحة الإسرائيلية، في 22 مايو/أيار من نفس العام.
(تيران رجعت كاملة للسعودية، وإسرائيل اليوم في عيد) أتوقع أن تكون مطلع أغنية بالعبرية، تتردد أصداؤها في سماء الاحتلال.
لم تتوقف سيول البر الشديد من الرئيس السيسي تجاه إسرائيل عند مضيق تيران، فقد أصدر منذ أيام، وتحديداً في 25 مارس/آذار من هذا العام، قراراً ينص على استثناء خليج العقبة ودهب وشرم الشيخ من حظر "التملك أو حق الانتفاع" في المناطق ذات الأهمية العسكرية أو المتاخمة للحدود في سيناء، وإتاحة الاستحواذ للأجانب على 5% من أسهم الشركات الموجودة بتلك المناطق.
لم تبقَ إذاً أهمية عسكرية لشيء، بعد أن أصبح كل شيء- في سيناء- يُباع بالأموال!
ولأننا في تلك الأيام، مع أبريل/نيسان الموعود، ها هي تظهر نغمات جديدة، تتحدث أيضاً عن سيناء، ويتم بثها عبر شاشات الإعلام الإسرائيلي في إطار الدعاية التي تنظمها شركتان إسرائيليتان لإقامة حفلات موسيقية في مدينة طابا المصرية، داخل فنادق توليب التابعة للقوات المسلحة، وتدعو متابعيها من اليهود وسواهم، من كافة أنحاء العالم للحضور تحت شعار (سيناء تنتظرنا) دون ذكر كلمة واحدة تشير لتبعية سيناء للأراضي المصرية، وذلك للاحتفال بعيد الفصح اليهودي.
ومن قبل، احتفلت السفارة الإسرائيلية في القاهرة بإقلاع أول رحلة طيران من تل أبيب إلى شرم الشيخ مباشرة، مع ترحيبها وسعادتها لعبور الآلاف من الإسرائيليين، من أراضي فلسطين المحتلة، باتجاه جنوب سيناء عبر معبر طابا، لقضاء الإجازات.
ويتزامن هذا كله، مع اعتداءات إسرائيلية شرسة على رحاب مسجدنا الأقصى، أولى القبلتين، ومسرى رسولنا الكريم، خلفت مئات الجرحى والمعتقلين، من إخوة النسب والدين، من أهل فلسطين.
وها نحن اليوم قبل بضعة أيام من احتفالنا المزعوم بذكرى تحرير سيناء، الموعد السنوي لأغنية شادية الشهيرة، يجدر بنا أن نتذكر أن الأغنية ذائعة الصيت لم تكن بالأساس من أجل سيناء، حيث تم السطو على أغنية قديمة للمونولوجيست "عمر الجيزاوي"، غناها قبل هذا الموعد بعشرات السنوات، احتفالاً بالصمود الشعبي لأهل بورسعيد في 1956، وكان أصل الأغنية: "ياللي من البحيرة وياللى من آخر الصعيد، النهارده نصرة كل يوم بتزيد، واللي زاد حماسنا واللي علَّا راسنا، الجيش وبورسعيد"، من كلمات "مصطفى الطائر" وتلحين وغناء "عمر الجيزاوي"، وغناها في حفل عيد النصر ديسمبر/كانون الأول 57.
ثم فوجئ بتغييرها وتحويلها لأغنية خاصة بتحرير سيناء، غنتها الفنانة شادية على مسرح الجلاء، عام 1982، مساء 25 أبريل/نيسان، أبريل ذاته، المعروف عالمياً، بشهر الأكاذيب- يا سبحان الله.
فاتهم "الجيزاوي" الموسيقار "جمال سلامة" بأنه نسب لحن الأغنية لنفسه، وتقدم بشكوى إلى جمعية المؤلفين والملحنين التى كان يرأسها الموسيقار "محمد عبد الوهاب"، وتم الفصل فيها بأن يتم توزيع حق الأداء العلني مناصفة بين سلامة والجيزاوي، اعترافاً منهم بحق الأخير.
الأغنية إذاً، لم تكن خاصة بسيناء بل كانت في الأصل من أجل بورسعيد!
وحديثها عن تحرير سيناء، لم يصدُق لحظة واحدة، لا في وقت عرضها قديماً، ولا بالطبع الآن.
ويبدو أن الأقرب للمنطق والأكثر تماشياً مع الواقع التعيس، أن يتم غناؤها على نحو: (سيناء رجعت كاملة للصهاينة، وإسرائيل في عيد).
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.