استحضار ذاكرة التاريخ جد مهم فى إلهام الباحث خيوط المعرفة، والأجدر استدعاء أدق مفرداته ومناخاته التي تولدت وانصهرت في بوتقته، معيناً لفهم وتدقيق حدث الحاضر، مع التحييد الفكري للمصطلحات تارة، وأخرى نسف معناها الحرفي السياسي والأكاديمي، والتحرر الذي يكْمُن في وعيه احتلال العقول وطغيان التسطيح المجتمعي، وأن الهدم قائم والمهاد والمساف قائمان له قبل بزوغ وعي الأمة، وما الصعوبات التي تلفنا في العَشِي والإبكار سوى حُجُب، للحؤول دون معالجة ذلك التراكم المركب من الصعوبات، لِنُسَلِّم مفاتيح القضية ناتجاً معنويّاً لعجزنا المُصنع محليّاً ودوليّاً للمؤسسات الرسمية، وهذا هو الحجر الصلد الذي ينحتون عليه أزماتنا التاريخية.
مقدمات تاريخية واجب التنويه عنها
ليس دائماً الرجوع خطوة للوراء تراجعاً، قد يكون مقدمةً للتقدم للأمام، أو وَثبة نحو الصعود، هذا ما نرمي إليه، والخطوة المعنية هي الحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948، أو حرب الجولتين التي تخللتهما هدنة الأربعة أسابيع، إثر تدخل مجلس الأمن ليتسنّى للكيان الوليد، تدفق أدوات الحرب العسكرية والبشرية ليتفوق بذلك على الجيوش العربية مجتمعةً، لكسب المعركة، وقد كان، بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من سحقه (عسكريّاً)، أعقبت الهزيمة العسكرية هزائم سياسية مؤثرة على كافة المستويات، فكانت اتفاقية "رودس" 24 فبراير/شباط التي تمت بالتفاوض غير المباشر عن طريق وسيط الأمم المتحدة ألكونت برنادوت والتي كانت تكريساً صريحاً للهزيمة العربية.
ولإنعاش الذاكرة التاريخية العربية، فإن اتفاقية الهدنة الأولى بين مصر وإسرائيل 1948 يونيو/حزيران، أعقبتها اتفاقيات مماثلة مع لبنان وسوريا وبالطبع الأردن فى "رودس"، والملحوظة التاريخية تبدو هنا بقوة أن جميعهم، أي الأقطار العربية، المُعَاهِدة دول الطوق، أو بحسب تعبير الكاتب العراقي البارع محمد الجزائري "أنظمة الطوق والكيان المطوِّق"، ومن المخرجات الكاسرة للهزيمة العربية الأولى، اعتراف الأمم المتحدة بالكيان الإسرائيلي دولةً في مايو/أيار 1949.
"رودس" وسلسلة الهزائم
ومن "رودس" انفرط العقد، ليتجاوز المعنى المجازي والضمني والحرفي، وكل صيغ المبالغة في لغة العرب، أدق لغات الدنيا، لكلمة "عار"، لنرى عجز الأنظمة عبر الخيط الرفيع المتآكل من 1948 النكبة إلى 1956 العدوان الثلاثي إلى "نكسة 67" وإلى "عبور 73″، ودفرسوار الثغرة التي أوصلت السادات إلى زيارة "تل الربيع" لتبدأ النكسة الحضارية الكبرى والتي ما زال يلفح جحيمها مضجع الأمة وكبرياءها منذ ذلك الحين، تَبِعها ما تَبِعها من "أوسلو" ثم "وادي عربة"، كلها "رودس" رغم اختلاف الأسماء وتعاقب الأنظمة.
دلالات التتابع التأريخي الرصين، تُظهر لنا بجلاء أن تطبيع الأنظمة، وُلد منذ "رودس" رغم التفاوض الخجول غير المباشر، الذي يخشى ردود فعل الشارع العربي والإسلامي، ولذلك مارس فنون القمع برمجةً استباقية لثائري المستقبل، لما سيكون في قابل الأيام من تعاون أو تنازلات مستقبلية مع الكيان على حساب القضيَّة المركزية للأمة، منذ سقوط الخلافه الإسلامية.
ومعاهدة السادات (إن جازت لنا التسمية) عام 1979، مع مناحم بيجين، جاءت نتيجة التطبيع المستتر، وأن التوصيف الدقيق لمراحل التطبيع اللاحقة، للمعاهدة سالفة الذكر هو، الوثبة العنيفة، غير الرشيقة، من حالة الخجل إلى عين الفجور، كالذي تمارسه بعض الدول الخليجية ومن تلحَّف بغطائهم.
المعاهدات وفتح باب تجنيد العقول
أعقب الدوران مع طاحونة المعاهدات فتحاً لباب تجنيد العقول والكفاءات التي تعاني العوز الاقتصادي، أمام عين الأنظمة، ولم يَكُن تجنيد الطلبة استثناءً، كما فُتِح الباب رويداً رويداً للمعاهد والمراكز الإسرائيلية والصهيو-أمريكية، التي كان من أخطرها على الإطلاق مؤسسة "راند" للدراسات الإسلامية والمركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة، الذي أُنشئ عقب عام 1982.
التنسيق الأمني أحد معوقات حركة الداخل الفلسطيني
يشعر المرء بقبح المرادفات عندما يعجز عن طرح مُسمّى ما، بعد بحثٍ مُضنٍ أو مصادفةٍ في الاستراتيجيات، أو دلالات منطقية تقابل فعلاً سياسياً محدداً، في ظرف مكانٍ وزمانٍ محددين، وأجدني من فوري أتساءل، لماذا التنسيق الأمني؟ ولماذا السعي له عند كل مناسبة؟ وأنَّى لمُمَثل المسْتَعَّمَر الفلسطيني أن يُنسِق أمنياً مع المُستعَمِر الإسرائيلي؟ وأَنَّى له أن يعتاش منها ويقتات بها في خطابه الإعلامي تبجُحاً وتملُّقاً؟ وكيف له حبس وخنق حركات المواجهة في الداخل الفلسطيني؟ أرى إجابة الهِررة التي لديهم القدرة على رؤية أشياء تتجاوز حدودنا البشرية، لكنها عاجزة عن إيجاد نموذج منطقي لتأويلها!
اتفاقية مخيم داوود واستنتاج غير مُعلن
إذا ما دققنا النظر وأمعنا التفكير بُعَيد اتفاقية السلام عام 1979 في حركة الكيان الإسرائيلي على الأرض، عسكرياً وسياسياً، فَسنَخلُص إلى استنتاج غير مُعلَن بالاتفاقية سالفة الذكر، أن المدني الإسرائيلي له الحق في أن يتحول عسكرياً في مواجهة المدني الفلسطيني، وأن لإسرائيل حرية العدوان بُغية التوسع في المنطقة دون قيدٍ أو شرطٍ من دول الطوق، تتقدمهم الدولة المُعاهِدة "مصر" ونادي الخمسة الكبار، ودول المركز، فقط بالنظر إلى الخريطة الديموغرافية ومرات العدوان على أهل فلسطين ومقدسات الأمة ستتحقق الرؤية.
إسرائيل ونسيج النظام العالمي
الكيان الإسرائيلي جاء ضمن سياقات وترتيبات نشأة النظام العالمي الذي برز عقب الحرب العالمية الثانية، وضمن نسيجه، كما أن دول الطوق المطوقة لإسرائيل تحكمها نُظم صُنِعَت أيضاً ضمن هذا النسيج، مصر بنظامها العسكري، سوريا بنظامها الطائفي، لبنان ذات الخليط غير المتجانس.
هل تساهم إسرائيل في إحياء القضية الفلسطينية؟
وبالرغم من كل ما سبق سرده تساهم إسرائيل من حين لآخر في إحياء القضية الفلسطينية وإحياء التعاطف الشعبي معها محلياً وإقليمياً وتوقدها من جديد كلما خبئت، بعدوانها على مقدسات المسلمين في فلسطين بوعي أو دون وعي، وتخسر سياسياً رغم الدمار البنيوي الذي تحققه من آن لآخر، كما تبرز القضية للأجيال الجديدة التي تسعى إسرائيل لشطب ذاكرتها وغسل أدمغتها، وأن الصراعات العسكرية الحديثة أثبتت أن التفوق التقني العسكري الذي يفتقر للإيمان، يفقد أسباب النصر، وأن هناك ميكانيزمات عسكرية لا تعتمد على الآلة العسكرية بقدر إيمانها بعدالة قضيتها ولو اجتمعت عليها كل الأمم، والأمثلة دامغة صارخة في هذا الصدد، مثالًا لا حصراً المقاومة في فلسطين، الحرب على أفغانستان، المقاومة العراقية التي تشكلت إبان الغزو الأمريكي على العراق، حرب فيتنام، إلا أن النفاق السياسي الغربي، وبعض دول الجوار، حال دون تحقيق ذلك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.