قد يستغرب البعض من العنوان أعلاه، فيقول إن هذا الموضوع من الأمور الثانوية، وهل عالجنا كل القضايا حتى لم يبقَ سوى الحديث عن الهاتف المحمول في المساجد؟! والحقيقة أن أمور الدين لا تنقسم إلى ثانوي وأساسي، بل يجب علينا كمسلمين أن نتحدث عن كل القضايا التي تهمنا، وخاصة الأمور المُستحدَثة من التقدم التكنولوجي، ومنها الهاتف المحمول. والذي دعاني لكتابة هذا المقال أن كثيراً من بني جلدتي لا يُحسنون التعامل مع التقنية، وتطويعها في الاستخدام الأمثل في النفع الديني والدنيوي، كما أساءوا استخدام الهاتف المحمول، واستعملوه استعمالاً خاطئاً، حتى وصل الأمر إلى أن نغمات الأغاني دخلت كل مساجدنا، بل لم يَسْلَم منها حتى الحرم المكي والحرم المدني، وهي أطهر بقاع الأرض. ولعل هذا الواقع الجديد الذي أحدثه التوسع في استخدام الجوال هو ما دفع بعض أئمة المساجد إلى إحداث صيغ جديدة بعد إقامة الصلاة عند رص الصفوف، كقول أحدهم (استووا، استقيموا، أغلقوا هواتفكم رحمكم الله!)، فقد دعته الحاجة إلى تذكير الغافلين من المصلين قبل الشروع في الصلاة إلى ضرورة إغلاق الجوالات، رغبة في إقامة صلاة خاشعة بلا منغصات.
إن الهواتف المحمولة ليست شراً محضاً، ولا خيراً محضاً، وهي على حسب مستعملها ومتعاطيها، تُستخدم للخير أو الشر، حالها كحال كثير من الأجهزة الأخرى، فاستخداماتها تابعة لنيات المستخدم. والهاتف المحمول قد يكون مصدراً لشر عظيم، لمن أصر على سوء استخدامه. ولعل أكثر ما يُحْزنني من كثير ممّن يحملون هذا المحمول هو انبعاث أصوات الأغاني والرنات أثناء الصلاة في المسجد، حتى وصل الأمر إلى أن أئمة المساجد أصبحوا ينبهون، قبل كل صلاة، على إغلاق المحمول، وألصقت الملصقات الصغيرة والكبيرة لهذا الغرض، ولكن لا حياة لمن تنادي. فتجد الواحد يقف في الصلاة ثم يرن هاتفه المحمول بصوت عالٍ بنغمات راقصة وأغانٍ صاخبة أو أناشيد مختلفة، بل إن هناك من المصلين من لا يجد حَرَجا في الردّ على المكالمات الهاتفية في الوقت الفاصل بين الأذان والإقامة، ولو داخل المسجد، ولا يقدم على إغلاق المحمول إلا إذا شرع المؤذن في الإقامة. وأحياناً كثيرة يتعمّد بعض المصلين أن يتركوا هواتفهم الجوالة مفتوحة أثناء الصلاة، فإذا رنت أخرجوا هواتفهم من ملابسهم وأطالوا النظر في رقم المتصل، وقد يردون على المكالمة وهم يتجاوزون الصفوف والمسجد مزدحم بالمصلين. فإذا حصل هذا الإزعاج وجئت تعتب عليه بعد الصلاة يقول لك إنني نسيت، وهذا عذر أقبح من ذنب، كيف ينسى وقد عُلقت لوحات إرشادية في المساجد تنبيهاً لإغلاق الهواتف، وكثير من الأئمة ينبهون المصلين على إغلاق هواتفهم قبل كل صلاة.
إن القلب ليتقطع حسرةً وندامةً، وإن النفس لتموت كمداً للحالة التي وصلت إليها مساجد المسلمين، التي أصبحت مليئة بأصوات الرنات والموسيقى الصاخبة، فلا تدخل في صلاة إلا وتسمع الموسيقى والأغاني وأصوات المنشدين تنبعث من الجوالات من هنا وهناك، في كل صلاة وركوع وسجود، فلا يكاد يُسكتُ هذا جوَّاله إلا وانفجر جوال آخر بنغمة موسيقية أخرى. ويا لها من مصيبة عندما تَستشعر بقلبك أن الله يراك ويسمعك، وقد خرجتَ من الخشوع في الصلاة، وأخرجتَ غيرَك من خشوعه، بل صَرَفْت وجهك عن مولاك والتفتّ عنه إلى جهازك المحمول، وهو سبحانه الذي يقول في الحديث القدسي: (قَسَمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين)، ثم أين أنت من قوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقَوى القُلُوبِ) [الحج:32]. فإن كنت ممّن لا يغلقون المحمول قبل الصلاة، أو كنت ممن ينبعثُ من جهازهم أصوات الأغاني والرنات والموسيقى والأناشيد وغيرها في الصلاة فاتّهم نفسَك بعدم التقوى، بل أخشى عليك أن تقع تحت ذمِّ المولى عز وجل لِمن لا يُعظم أمر الصلاة، فقد قال تعالى: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) [المائدة:58]، وقوله تعالى: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [نوح:13]، وهذا استفهام قصده التوبيخ من عدم التعظيم والإجلال لله.
فالنبي صلى الله عليه وسلم اعْتَكَفَ في المسجد، فسمع الصحابة يجهرون بالقراءة، فكشف الستر، وقال: (ألا إنَّ كلكم مناجٍ ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة، أو قال: في الصلاة). نلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى الناس أن يشغل بعضهم عن الصلاة بالصلاة، أو بقراءة القرآن، فلم يرضَ أن تكون صلاةُ أحدٍ أو قراءته مؤثرةً في صلاةِ أحدٍ، فما بالك بما يُحدثه المحمول في صلاة الناس، إذا علمنا أن المصلي لا بد له من أن يكون خاشعاً في صلاته، امتثالاً لقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون:1- 2].
ومن الخشوع دَفْعُ المَوانع والشّواغل التي تصرف لقاء الله عز وجل، ومنها وجود هاتف في جيب المصلي يَرْتَج أو يُصدر صوتاً، يشغل ذهنه وفضوله، وربما قلقه حول صاحب الاتصال وضرورته. وليت شعري ماذا سيكتب في صَحائف هؤلاء الذين تعزف هواتفهم المحمولة الموسيقى في بيوت الله، فيشوشون على أنفسهم وعلى غيرهم، ألا يتقي هؤلاء ربَّهم ويتوبون إليه، ويُقلعون عمّا هم فيه ويُغيرون هذا المنكر!.
وللتغلب على هذه المخالفة، على المصلي غَلْقُ هاتفه النقال بمجرد الدخول للمسجد، والتحقق من ذلك، وليكن شعاره (سأغلق المحمول وأتصل برب العالمين)، لأن احتمال أن يتصل به أحد قائم، وفي الرنين الصادر من الهاتف إزعاج وتشويش على المصلين.
أما إذا كُنْتَ من رجال الأعمال الذين يَخْشَون ضَياع أعمالهم وهم في الصلاة، أو ممّن ينتظرون مكالمة مهمة، فاجعل هاتفك في وضعية الصامت أو الهزّاز، وهي أخف ضرراً، وهذه الخاصيات متوفرة في الهواتف المحمولة. فإذا حدث ونسيت إغلاق هاتفك المحمول، ثم رَنَّ وأنت تصلي فَأَخْرجه وأَغْلقه تماماً، فكثير من المصلين ممّن يَحدث لهم هذا الفعل يتركون الجهاز يرن دون إغلاقه، ظَنّا منهم أن ذلك مُبطل للصلاة، والأمر ليس كذلك، بل الصواب إخراجه وإغلاقه بسرعة، حتى لا يزيد في شغل المصلين عن خشوعهم، لأنه يجوز الحركة اليسيرة في الصلاة، وقد ثَبَتَ في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم (أمَّ الناس في المسجد فكان إذا قام حمل أمامة بنت زينب وإذا سجد وضعها)، كما يجوز قتل الحية والعقرب في الصلاة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. فَيُؤْخَذُ من هذين الحديثين أن الحركة في الصلاة إن كانت لحاجة فهي جائزة، لا تُبطل الصلاة.
الأئمة والخطباء في مختلف المساجد يواجهون تشويش الهواتف المحمولة بالوعظ والإرشاد وتعليق الملصقات داخل المساجد، لتذكير الوافدين على بيوت الله بإغلاق هواتفهم وقطع الصلة بكل ما هو دنيوي خلال فترة الصلاة.
ورغم هذه الإجراءات لا يزال الهاتف المحمول يزعج المصلين. وقد اختلفت تجارب دول العالم الإسلامي في التصدي للظاهرة، حيث أصبح الجميع يتفق أن المسألة تجاوزت كل الحدود، وتستدعي رد فعل حفاظاً على مكانة المسجد. وفي بعض دول الخليج مثل قطر، تتم محاربة الظاهرة بتوزيع مطويات أمام المساجد على المصلين، لترشدهم إلى النتائج السلبية لترك الهواتف مفتوحة داخل المسجد، وما يمكن لرنينها وموسيقاها أن يُسبباه من تشويش على أجواء الخشوع. أما في مصر، فقررت إدارة أحد المساجد توقيع غرامات مالية على المصلين، في حال صدور رنات من هواتفهم المحمولة أثناء الصلاة. وقامت إدارة المسجد بوضع عدة لافتات على الحيطان، تفيد بأنه سوف يتم تغريم صاحب الرنة لصالح خدمات المسجد بقصد وبدون قصد، وتختلف الغرامة من شخص لآخر، حسب حالة صاحب الرنة والهاتف الصادرة منه، لإجبار المصلين على غلق هواتفهم أثناء الصلاة.
ونظراً للفشل الذريع الذي لقيته كل المبادرات، ودروس الوعظ والإرشاد، وتعليق الملصقات وحتى توقيع الغرامات في محاصرة ظاهرة التشويش بالهواتف المحمولة على المصلين، فقد لجأت بعض الدول مثل الكويت والجزائر وتركيا وكينيا إلى تركيب أجهزة تشويش بالمساجد على المحمول، في حالة رنين أحد هواتف المصلين، بعد أن يئست إدارات المساجد من إلزام المصلين بإغلاقه، من أجل مزيد من الخشوع في الصلاة. وأجهزة التشويش على المحمول بالمساجد هي عبارة عن نظام لمنع البثّ الموجي الملتقط من تلك الأجهزة، وتعطيل أجهزة الجوال من الاستقبال والإرسال، ومنع وصول الذبذبات إلى أي جهاز داخل المسجد، كما يمكن تثبيتها بكل سهولة بأي جهة من جهات المسجد، بحيث تستطيع تعطيل إشارات الإرسال والاستقبال في مساحات تتراوح بين 500 و 600 متر مربع، وهو ما يعني قُدرتها على إبطال عمل الهواتف في جميع أنحاء المسجد. وعادة ما يتم تركيب أجهزة التشويش بمبادرة ذاتية من إدارة المسجد أو بتبرعات المصلين، بعد أن اشتكى العديد من المصلين في مساجد دول عديدة من كثرة رنين أجهزة الهاتف الجوال أثناء الصلاة. وقد لقيت المبادرة استحساناً كبيراً من المصلين في هذه الدول، وطالبوا بتعميمها في جميع المساجد.
وبالمغرب، كلنا نصادف يومياً بكل مساجدنا، وفي كل أوقات الصلوات، رنات هاتف نقال تَعْلو مع تكبيرة إمام، أو رنين هاتف جوال يَشْدو بأغنية حب وهُيام بقلب المسجد وفي عز الصلاة، وحتى في يوم الجمعة، بل أكثر من ذلك في صلاة التراويح برمضان، ليجد المصلون أنفسَهم مُرغمين على سماع أصوات مغنيات مثل: "إليسا" و"هيفاء" و"نانسي" وغيرهن، بدلاً من الإنصات إلى أنفسهم أو إلى الإمام. ورغم تذكير الأئمة بضرورة غَلْق الهاتف النقال، فإن العادة تتكرر يومياً، حتى صار عادياً أن تعترض صلاتك بعض السيمفونيات الموسيقية والوصلات الغنائية، تأخذك من موقفك بين يدي الله إلى إحدى القنوات الغنائية الفضائحية. وما إن يتوقف محمول حتى ينطلق رنين هاتف آخر. ورغم أن العديد من الأئمة خَصّصُوا خُطباً ودروساً في هذا الشأن، وذكّروا المصلين بحُرمة هذا التصرف، وأنه يشغلهم عن عبادة الله، إلا أن سهو الداخلين إلى المسجد يوقع المصلين في المحظور، ويجعل صلاتهم متأرجحة بين القَبول والبُطلان.
وبغض النظر عمّا إذا كان الأمر متعمداً أو سهواً، فإن المُتسبب في التشويش على المصلين يأثم. ولا يخفى على الناظر حجم الحرج الذي يلقاه أئمة المساجد من رنين الجوالات أثناء الصلاة، إضافة إلى الحرج المتكرر الذي يصيبهم من مواجهة الناس بالعتاب واللوم بعد انقضاء الصلاة، وهو ما يخرج الناس من خشوعهم وروحانياتهم، ويشغلهم بالجدال عن أذكار ما بعد الصلاة.
فقديماً كان العلماء يختلفون على الزخرف في السجاد أو الجدران، مَخافة أن تلهي المصلي وتسلبه خشوعه الذي هو ركن أساسي، وكرهوا أيضاً قراءة القرآن في حضرة المصلين، فما بالك برنات الهواتف المحمولة التي تجذب السامع إليها وتُخرجه عَنوةً من صلاته. فمتى ستُعمِّم وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب خدمة التشويش على الهواتف المحمولة في مساجد البلاد، تَقَيُّداً بالاحترام الواجب لبيوت الله؟.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.