رمضان شهر نفحات إيمانية تعطر حياة المسلمين في كل بقاع الأرض بمشاعر روحانية تطغى علي الجميع- المتدينين وغير المتدينين- ويخلص فيه الكل في العبادة وفعل الخيرات من الصدقة وزيارة الأرحام ومودتهم والدعاء وإطعام الصائمين وغيرها.
شعوري بهذا الشهر الفضيل لم يتغير قط منذ طفولتي ونحن نحمل صواني الإفطار والفرشات في رؤوسنا في أزقة مصنع سكر عسلاية بولاية النيل الأبيض في السودان حيث كان والدي يعمل كمهندس في المصنع.
حينها كنا نتجمع في الساحات ونفترش الأرض لنفطر جماعات نستهدف العابرين وغير المتزوجين والفقراء. أجمل لحظات اليوم كانت آخر العصر عندما يقترب موعد الأذان ونساعد في ترتيب صينية الافطار لنحملها للساحة، حيث يجتمع الجيران كل يحمل معه ما لذ وطاب من الطعام والمشروبات التي أشهرها شراب الآبري (أو الحلومر منه الأبيض والأحمر) وهو شراب سوداني أصيل خاص بهذا الشهر الفضيل له مذاق رائع.
أجمل لحظات التواصل كانت أن يتوزع الحضور على صواني الإفطار ليضمنوا أن كل الطعام قد تم أكله فلا يعود فرد بصينية الطعام وبها صحون ما زالت ممتلئة بالطعام. فإرجاع الصحون وهي ممتلئة قد كان من علامات التشاؤم عند النساء فقد بذلن جهداً كبيراً في إعداد الطعام ويحزنهن أن لا يتناوله أهل الحي وعابرو السبيل
ومن أعظم خصال شعبنا البسيط أن يحرص الغني على الجلوس في صينية الفقير حتى يعم الجميع إحساس التكافل والمساواة في هذا الشهر الفضيل. أيضاً تعلمنا الحرص على السعي لإكرام المارة فلا نسمح لهم بالعبور قبل الجلوس وتحليل الصيام بالشرب والأكل في الموائد المرصوصة في الطرقات وهذا لعجبي ثقافة سودانية أصيلة تتميز بها قرى السودان لم أرها في العشرات من المدن التي صمت فيها حول العالم. أيضاً لا أنسى إفطارات المنازل مع الجيران في أحياء أم درمان العتيقة وفي تجمعات المساجد داخل الأحياء وصلوات التراويح والقيام التي يليها السحور مع الجماعة.
عشت أول رمضان في أول أيام الغربة بعيداً عن الوطن في مدينة كوالالمبور في ماليزيا وقد وصلتها في اليوم الخامس والعشرين من شهر رمضان في سنة ألف وتسع مئة وستة وتسعين.
أدهشني روعة ألوان المشروبات وطعام الطرقات الذي يفضله الشعب الماليزي ويحرص علي شرائه قبل عودتهم إلى المنازل وشعور الفخر عند إثنية المالي أهل البلاد في شهر رمضان والمبالغة في الحفاوة به ليميزهم عن الإثنيات الأخرى من الصينيين والهنود غير المسلمين.
أحببت امتلاء المساجد في صلوات العشاء والتراويح وبملابس ملونة زاهية، والخشوع في التلاوة لساعات ولم أعتقد أن كثيراً منهم يفقه هذه السور الطويلة والآيات ولكن كانوا جميعاً قمة الخشوع في صلاتهم وكنت أستصغر نفسي أمامهم أحياناً وأحمد الله على نعمته وفضله عليهم وعلينا بنعمة الإسلام.
كنا الطلبة الأجانب قلة حينها، لذا كانوا حريصين على إكرامنا في هذا الشهر الفضيل.
أما أيامي في الرياض السعودية في رمضان فقد كانت آية من الروعة حيث تمتلئ المساجد ويتحرك الناس في الشوارع إلى الفجر كأن أول الليل.
كل أنواع الأطعمة التي نشتهيها من كل الدول نجدها في الرياض وفي جدة وبالطبع متعة عمرة رمضان في مكة وزيارة المدينة المنورة؛ حيث يمتلئ المسجد الحرام وكل الطرقات والساحات في صلاة التراويح إلى كيلومترات من مركز الحرم والمصلون يذرفون الدموع وهم يستمعون الذكر ودعاء شيوخ الحرمين الكبار. هذه نعمة ورحمة لا يعرفها إلا من يتذوقها ويفطر بتمرات وشراب اللبن في الحرم ويحتسي القهوة في انتظار إقامة صلاة المغرب وأنت تستمع إلى دعاء المصلين وتقول خلفهم آمين راجياً فضل قبول دعاء الجماعة.
أيضاً لا أنسى عادة الإفطار المختلفة عن أهلنا في السعودية عن عاداتنا في السودان وما عشته في ماليزيا حيث يحتسون فقط الشوربة ويأكلون القليل من السلطة والفطائر عند تحليل الصيام. ثم يذهبون إلى المسجد ليصلوا المغرب وبعدها يعودون لتناول طعام الإفطار كوجبة كاملة.
في أمريكا وفي العديد من الولايات التي عشت فيها وفي المدن الصغيرة الجامعية والكبيرة كان لرمضان نكهة جميلة أيضاً ومميزة خصوصاً في الإفطارات الجماعية للأسر المسلمة التي ندعو لها الأصدقاء والأسر الأمريكية.
كنت في مدينة أوبورن في ولاية ألاباما وهي مدينة صغيرة نسبياً أثناء دراستي لدرجة الدكتوراه وكانت في الفترة التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الإرهابية المؤسفة في عام ألفين وواحد من الميلاد، حيث كان الهجوم على المسلمين في وسائل الإعلام في أكبر صوره حينها، وقد أتيحت للجالية المسلمة فرصة شهر رمضان لعكس حقيقة المجتمعات المسلمة وكانت الإفطارات الرمضانية أفضل وسيلة للتعريف عن الإسلام والمسلمين وكانت يومياً في المسجد الصغير ومفتوحة للطلاب وغير المتزوجين والجميع.
كانت كل جالية تتولى يوماً في إجازة الأسبوع لتبدع بطعامها المميز لكل المجتمع المسلم وضيوفنا من أهل المدينة الذين كنا نلح على دعوتهم إلى هذه التجمعات الروحانية ليسمعوا منا مباشرة عن الإسلام والمسلمين.
ولقد لعبت هذه الفعاليات دوراً إيجابياً كبيراً في التواصل مع المجتمع الأمريكي وعكس الصورة الحقيقة للأسر المسلمة والطلاب المسلمين ودورهم الإيجابي في مجتمعاتهم فيجدوا الشرطي والطبيب والأستاذ الجامعي والمحامي في هذه الفعاليات.
أيضاً قضينا أياماً رائعة في شهر رمضان في نيوجيرسي وأوهايو وكانت أمتع اللحظات في أن أقود السيارة مع والدتي رحمها الله وأبنائي للذهاب إلى صلاة التراويح في المسجد وكان يبعد مسافة بعيدة من المنزل وكانت تستغرق ساعات ولكنها كانت مفعمة بجو روحاني لا ينسى.
الآن أتمتع برمضان في دوحة الخير وهي مدينة تجعل من شهر رمضان احتفالية كبرى في كل مساجدها الجميلة والمميزة برعاية خاصة من الدولة والتي تختلف عن كثير من المساجد في العالم الإسلامي.
معظم شوارع قطر وبيوت أهلها ومساجدها تستضيف خيماً رمضانية لإفطار الصائمين من العمال وغير المتزوجين والأسر محدودة الدخل ولم تتوقف هذه التجمعات إلا في سنوات الكورونا بينما يحرصون أفراداً ومنظمات علي توصيل الطعام إلى العمال والعاملين في مواقعهم أثناء وقت الإفطار وتجدهم في الشوارع وقت الإفطار حريصين على إفطار الصائمين في الطريق وقت الأذان، أيضاً تمتلئ المساجد بالمصلين وتتزين البلاد كلها في الشهر الفضيل.
لرمضان طعم ورائحة ولون وعمق روحاني يميزه بغض النظر عن المكان والزمان وكنت محظوظاً أن عشت في بقاع مختلفة وعشت تجارب شعوب مختلفة وجميعها تعتبر الشهر الفضيل لحظة روحانية تميز الإسلام والمسلمين وتعكس كل الخير الذي يمثله ديننا الحنيف.
سائلاً الله أن يتقبل الله صيامكم وقيامكم وصالح أعمالكم أينما كنتم.. والسلام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.