رمضان كريم، كل عام وأنتم بخير.. يأتي شهر رمضان المعظم في كل عام حاملاً معه الكثير من الذكريات في جعبته. ومع تقدم الوقت فإننا ندرك أن الذكرى هي جزء حقيقي من هويتنا ومن وجودنا. للشهر الكريم طقوس لا يمكن أن تفارقه كأضواء الشوارع التي تُعلق وتظل مشتعلة حتى ما بعد أذان الفجر، الزينة التي يداعبها الهواء التي تملأ كل الأزقة والحارات، الفانوس العملاق الذي يتم جمع ثمنه من سُكان كل شارع ثم يتم تعليقه تماماً في منتصف الطريق، الألعاب النارية التي يتم إطلاقها بكثافة بالتزامن مع أذان المغرب وإطلاق المدفع، وغيرها من الظواهر التي تأتي كضيوف شرف لمدة 30 يوماً في العام ثم تختفي كأنها لم تكن. ولكن مع مرور الزمن نلاحظ أن بعض العادات تكاد تُمحى، يكاد مرور السنين عليها يخفي أثرها، أو يخفي دهشتها بالنسبة لمن يشاهدون نفس الأشياء مع التقدم في العمر. وهنا أستعرض بعضاً من تلك الأشياء.
أين ذهب المسحراتي؟
أسأل أمي عن الفارق بين رمضان حينما كانت طفلة وبين رمضان في الوقت الحالي فتسترسل في الحديث، تقول لي الدنيا كانت غير هذه الدنيا، كنا ندفع النقود للمسحراتي ليقول أسماءنا كل ليلة من الشارع وكأنها دعوة شخصية لنا نحن فقط كي نتسحر. لم أرَ في حياتي مسحراتي، أعرف أنه كان يأتي قبل أذان الفجر بساعتين ليوقظ الناس من نومهم حتى يتناولوا وجبتهم الأخيرة قبل صيام اليوم الجديد. يُقال إن سيدنا بلال بن رباح كان يطوف على البيوت ومعه شخص آخر لإيقاظ الناس. وفي مصر بدأ طواف المسحراتي على يد الوالي العباسي "إسحاق بن عقبة" عام 853 ميلادية وفي عصر الدولة الفاطمية تولى الجنود أداء هذه المهمة بعدما أمر "الحاكم بأمر الله" الناس أن يناموا بعد صلاة التراويح ومن ثم يمر عليهم الجنود لإيقاظهم. شهدت مهنة المسحراتي فترات تاريخية عديدة بين الانتعاش والركود، ففي العصر المملوكي قرر "الظاهر بيبرس" إعادة إنعاش هذه المهنة باعتبارها تراثاً إسلامياً فقام بتعيين صغار العلماء في الدين ليتولوا أمر إيقاظ الناس، بعدها في عصر "الناصر محمد بن قلاوون" أي بعد مرور أكثر من نصف قرن أنشأ "أبو بكر محمد بن عبد الغني" نقابة المسحراتية، ومنذ هذا الوقت تم استخدام الطبلة كوسيلة يتم الدق عليها باليد وليس بالعصا، وكانت تُدعى "بازة". لم يقتصر دور المسحراتي على إيقاظ الناس عن طريق الطبلة فقط، بل إنه توجب عليه حفظ بعض الأناشيد الإسلامية في مدح الرسول وقصص من ملاحم التاريخ الإسلامي.
في المغرب يُدعى المسحراتي بـ "النفار". تختلف طريقة أداء المسحراتي في كل دولة عن الأخرى، مصر كانت أول دولة يتم استخدام الطبلة فيها، والبعض الآخر يستخدم المزمار، وفي بلاد الشام كانوا يعزفون على الطنابير والعيدان، وفي بلاد المغرب واليمن كان المسحراتية يقرعون البيبان بالنبابيت. تقول أمي إن المسحراتي كان يختفي بعد أول أيام العيد حيث يأتي بعد الصلاة ليجمع العيدية وبعض الكعك إذا توفر. تعود عادة السحور في الأصل استناداً إلى حديث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: "تسحروا فإن في السحور بركة".
أغنيات كلاسيكية
الشوارع التي لا تخلو من المارة طوال شهر رمضان تخرج من كل مكبرات الصوت الأغنيات التي تُرحب بعودة الشهر الفضيل. كجزء من الموروث الشعبي لا يمكن أن لا يستمع الجميع لأغنية "سيد مكاوي" التي كتبها الشاعر المصري "فؤاد حداد" التي حملت عنوان "المسحراتي".
"اصحى يا نايم وحّد الدايم
قول نويت بكرة إن حييت
الشهر صايم والفجر قايم
اصحى يا نايم وحد الرزاق
رمضان كريم"
من أغنية المسحراتي
أما عن الأغاني الأكثر رسوخاً في الوعي الجمعي العام، فإن أغنيات مثل "رمضان جانا" التي غناها "محمد عبد المطلب" في عام 1956 من كلمات "حسين طنطاوي" ومن ألحان "محمود الشريف" و"مرحب شهر الصوم" التي قدمها "عبد العزيز محمود" من ألحانه وغنائه ومن كلمات "محمد علي أحمد" عام 1966، و"وحوي يا وحوي" التي غناها "أحمد عبد القادر" من كلمات "حسين حلمي المانسترلي" عام 1934 هي الأغاني الأشهر والأقدم.
ولكل أغنية منها قصة مختلفة. فبالرغم من مكانة أغنية "وحوي يا وحوي" التي تقول في مطلعها:
"وحوي يا وحوي
إياحاه
وكمان وحوي
إياحاه
رُحت يا شعبان
إياحاه
جيت يا رمضان"
فإن كلمات الأغنية تُعد لغزاً، فلا أحد يعرف صدق الروايات التي تُقال عن حقيقة معنى كلمتيّ "وحوي" و"إياحاه". البعض يقول إن أصل كلمة إياحاه هو "إياح حتب" أين زوجة الملك "تاعا الثاني" حاكم مصر في أواخر القرن الثامن عشر قبل الميلاد التي كانت تحث زوجها للتصدي للهكسوس، وحينما مات طلبت من أكبر أبنائها فعل نفس الشيء وحينما توفي طلبت من ابنها الثاني أحمس الذي نجح فعلاً في صد الغزو عن بلاده. تعني كلمة إياح في اللغة الفرعونية "قمر" وتعني كلمة حتب "الزمان" وكلمة وحوي في نفس اللغة تعني مرحباً، ويشير هذا التفسير لخروج أهل مصر تهليلاً وترحيباً للملكة قائلين: أهلاً قمر الزمان. والبعض الآخر يشير إلى قبطية الكلمات التي تُشير في اللغة القبطية إلى "اقتربوا لرؤية الهلال". أما عن أغنية محمد عبد المطلب فإنه غناها في الأساس لأن الأجر المتفق عليه وقتها كان 6 جنيهات وهو رقم كان يحتاج إليه بناء على شهادة "وجدي حكيم".
"رمضان جانا
وفرحنا به
بعد غيابه، وبقاله زمن
بتغيب علينا، وتهجرنا
وقلوبنا معاك
وفي السنة مرة تزورنا
وبنستناك".
أما أغنية "مرحب شهر الصوم" فهي تُعد أحدث نسبياً من الأغنيات السالف ذكرها، ويبدو أنها جاءت لرغبة كاتبها في تخليد اسمه وذكراه وارتباطهما بقدوم الشهر الكريم في كل عام. فحينما انتهى "محمد علي أحمد" من كتابة الأغنية ذهب بها إلى الإذاعة حيث إن وقتها كانت الإذاعة هي من تقوم بترشيح المغنين وإبداء الموافقة على الأغاني ومغنيها، وحينما تم عرض الأغنية على الموسيقار "محمد حسن الشجاعي" مراقب عام الموسيقى في الإذاعة نالت استحسانه ومن بعدها تم عرضها على اللجنة التي وافقت عليها وبعدها بدأت رحلة البحث عن صوت مميز يصدح بأغنية تعيش حتى بعد مرور أكثر من 50 سنة واستقرت اللجنة على "عبد العزيز محمود".
"مرحب شهر الصوم مرحب
لياليك عادت في أمان
بعد انتظارنا وشوقنا إليك
جيت يا رمضان
مرحب بقدومك
يا رمضان
ونعيش ونصومك
يا رمضان".
الفانوس: من عصر الفاطميين وحتى عصر الصيني
ترتبط فكرة فانوس رمضان وكل حكاياته مع بداية عصر الدولة الفاطمية في مصر، فالبعض يقول إن الحاكم أمر كل الناس بترك فانوس أمام كل بيت لإضاءة الشارع، وقصة أخرى تقول إن الحاكم كان يستطلع هلال رمضان في الليل فيخرج حوله الأطفال بفوانيس إضاءة في أجواء مبهجة، وحكاية أخرى تقول إن المرأة لم يكن مسموحاً لها أن تخرج في العصر الفاطمي إلا في رمضان فكان يسير أمامها غلام بفانوس ليعلن عن وجود امرأة في الطريق ليتنحى الرجال جانباً. لا توجد حكاية واحدة موثوق بها، ولكن كل ما هو جزء من التراث الشعبي ما زال قابلاً للإحياء والاحتفال به. ومنذ عصر الفاطميين لم يتخلف المصريون عن عادة وجود الفوانيس داخل كل بيت أو خارجه في رمضان رغم عدم الحاجة إليه في عصر الكهرباء، فتحول الفانوس من وسيلة إنارة أساسية للعبة وتسلية للأطفال، وتحول الوقت الذي يسبق قدوم الشهر بالنسبة للتُجار إلى "موسم بيع الفوانيس". وفي ظل اجتياح الصين للسوق العالمي، فإن الفانوس المصري الأول في التاريخ كاد يختفي في ظل انتشار أشكال وألوان عديدة من الفانوس الصيني الذي لا يحمل أي رمزية أو إشارة للقصة التراثية الموروثة عن الفانوس لولا محاولات إحياء التراث ومحاولة الحفاظ على صناعة الفوانيس التي تشبه النسخ التراثية الأولى من قبل كل من ورثوا وتعلموا أصول المهنة.
يأتي رمضان كل عام ونحن نُحيي شيئاً ونغفل الآخر، أو نتجاهله لأننا لا نعرفه، أو أننا لم نسمع عنه، أو نسمع عنه ولا نراه كما حدث في أسطورة المسحراتي التي لا أعرف عنها شيئاً إلا من حكايات أمي. في ظل التطور الذي نعيش فيه باتت الأشياء التراثية تفقد دهشتها أو قيمتها بالنسبة للجاهلين بها. من الواجب أن نحكي ونحكي مئات القصص وآلاف الأساطير التي ترتبط بكل ما يمر علينا حتى يعرف القادمون أن هناك أناساً عاشوا في دنيا غير دنياهم كان الفانوس فيها وسيلة إنارة أساسية، والمسحراتي وظيفة لا يمكن أداؤها إلا بعد استيفاء كل الشروط، وأن صوت عبد العزيز محمود وعبد المطلب هو الصوت الرسمي لإعلان عودة رمضان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.