لم يعد يفصلنا عن بداية شهر رمضان المبارك سوى ساعاتٍ قليلةٍ فقط، بحسب تاريخ اطلاعك على الموضوع، عزيزي القارئ، وربما ستقرأه وأنت في عزِّ الشهر الفضيل، ومن المؤكد، إن كنت من سكان المغرب العربي، فقد لاحظت، في البيئة التي تعيش فيها، غياب الشخصية التي يتناولها موضوعنا هذا، ونعني بها "المسحراتي"… وفي حال وجودها فاعتبر نفسك إنساناً محظوظاً يعيش في زمن ممزوج بين الماضي والحاضر.
المسحراتي هو الشخص الذي يقوم بمهمة إيقاظ المسلمين في ليالي شهر رمضان لتناول وجبة السحور، حاملاً للطبل أو المزمار ودقها أو العزف عليها ومتجولاً بين الشوارع والأزقة ومجتهداً في إسماع صوته و"آلته الموسيقية" للنائمين والمستيقظين لتذكيرهم بموعد تناول السحور قبل أذان صلاة الفجر وبداية يوم جديد من الصيام.
الصحابي بلال بن رباح أول مسحراتي في التاريخ!
وفي غياب مراجع تاريخية موثقة وموثوقة، فإنّه يُجهل تاريخ بداية "مهنة" المسحراتي في بلاد المسلمين، ولكن الذاكرة الجماعية تزعم أنّ الصحابي الجليل بلال بن رباح مؤذن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، هو أول من قام بتلك المهمة ولكن بدون آلات بل فقط بصوته الشجي والعذب، بحيث كان يؤذّن لإيقاظ الناس لتناول السحور، ثم يقوم الصحابي الجليل والمؤذن الآخر "عبد الله بن أم مكتوم" بأذان الفجر.
ويوجد حديث شريف متفق عليه قد يشير إلى هذه المعلومة، دون تأكيدها، فعن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بلالًا يُؤذِّن بليل، فكُلُوا واشرَبوا حتى يناديَ ابنُ أمِّ مكتوم).
أما أول مسحراتي بالمعنى المتعارف عليه، أي باستعمال الطبلة فقد ظهر بحسب المؤرخين، بمصر وبالضبط، في العام 228 هجرية، وهو "عتبة بن إسحاق" حيث كان يذهب ماشياً من مدينة "العسكر" في" الفسطاط" إلى جامع "عمرو بن العاص"، وينادي الناس بالسحور.
شخصية المسحراتي انتقلت إلى المغرب العربي في عهد الفاطميين
وتكون عادة المسحراتي قد انتقلت إلى بلدان المغرب العربي الكبير بشمال إفريقيا في عهد الدولة الفاطمية، التي تأسست في العام 300 هجرية الموافق لسنتي 912-913 ميلادية، بمدينة المهدية (تتواجد بتونس الحالية) والتي اتخذها المؤسسون عاصمة لهم، قبل أن ينقلوا مركزية الحكم إلى مدينة المنصوريَّة، بالقرب من مدينة القيروان التونسية، ولمّا فتح الفاطميون مصر في العام 969 ميلادي، أسسوا مدينة القاهرة، شمال الفسطاط، وجعلوها عاصمتهم السياسية والروحية والثقافية الجديدة، وبقيت كذلك حتّى انهيارها في سنة 1171 ميلادية.
المهم انهارت الدولة الفاطمية، ولكن شخصية المسحراتي استمرت في التواجد بالمغرب العربي، محتفظة تقريباً بنفس الوسائل والكلمات لإيقاظ الناس لتناول السحور، مع تغيير اسم "البطل" من منطقة لأخرى.
وواصل المسحراتي أداء مهمته حتى في عهد نير الاستعمار الأوروبي لمنطقة شمال إفريقيا، وذلك إلى أن بدأت هذه الشخصية المميزة في الانسحاب من المشهد الرمضاني شيئاً فشيئاً لتقترب من الزوال والاندثار في السنوات القليلة الماضية بسبب تغير نمط حياة المسلمين حتى في الشهر المبارك؛ حيث غزت التكنولوجيا معظم العقول قبل أن تغزو الدول والمدن والبيوت.
"بوطبيلة" بالجزائر وتونس
ففي الجزائر مثلاً، يمكن القول إنّ المسحراتي لم يعد موجوداً في المدن الكبيرة وبات نشاطه مقتصراً على القرى الصغيرة، وخاصة بالمناطق الصحراوية بجنوب البلاد، على غرار "وادي سوف" و"أدرار"، حيث يُسمى "بوطبيلة"؛ أي "صاحب الطبل" أو "الدندون"، نسبة لآلة "الدندون" وهي دف كبير وعصا يضرب بها ضرباً خفيفاً يخرج منه صوت غير مزعج.
ويبدأ "بوطبيلة" أو "الدندون" عمله بحوالي ساعتين قبل موعد صلاة الفجر، مرتدياً لباساً تقليدياً، بحيث يجوب الأزقة الضيقة والقصور الطينية العتيقة، مستعملاً "الدف" ومنادياً الناس للاستيقاظ بعبارات مثل "اصحى يا نايم وحد الدايم" أو "السحور يا مؤمنين السحور".
ويقول "مسحراتي الجزائر" في جولته الليلة خلال الأيام الأولى من شهر رمضان: "اللهم صلّ على النبي".
وفي وسط الشهر الفضيل يقول: "اللهم صلّ وسلم على سيدنا محمد"، في حين يقول في الأيام الأخيرة: "الوداع الوداع يا شهر رمضان قال ليكم سيدي رمضان تبقاو على خير".
وبعد قدوم العيد يطرق على أبواب البيوت حيث يقوم السكان بتكريمه بما تيسر منهم من مال.
ويُسمى المسحراتي بتونس بنفس الاسم الذي يُطلق عليه بمعظم جهات الجزائر، أي " بوطبيلة"، ويقتصر حضوره هو أيضاً ببعض القرى والمدن الصغيرة، ومن أشهر ما ينادي به هو: "يا صايمين قوموا تسحروا".
ويتميز "بوطبيلة" بتونس بأنه وبداية من ليلة القدر، أي في ليلة الـ27 من شهر رمضان، يقوم بإضافة جولة أخرى بين بيوت الحي، وذلك قبل موعد أذان المغرب، حيث يمنحه السكان بعض النقود أو حلويات العيد.
"النفار" بالمغرب يقوم بجولتين في الليلة الواحدة
أما بالمغرب فيطلق على المسحراتي تسميات مختلفة، على غرار "الطبال" ووهو الذي يقرع الطبل لإيقاظ النائمين و"النفار" الذي يستعمل في مهمته مزماراً طويلاً يتجاوز طوله متراً، و"الغياط"، الذي يستعمل مزماراً من الحجم الصغير.
وباستثناء المدن الكبيرة والحديثة، فإنّ المسحراتي يتواجد بعدد لا بأس به بالمدن المغربية العتيقة كـ"سلا " مثلاً، القريبة من العاصمة السياسية للبلاد الرباط.
وأشهر تسميات المسحراتي في المغرب "النفار"، ويقوم بجولته في الحي مرتين في الليلة الواحدة، بينهما ساعة واحدة على الأقل، حيث يكون مروره لإيقاظ النساء لإعداد وجبة السحور، بينما المرور الثاني لإيقاظ النائمين لتناول الوجبة.
ويقوم المغاربة بتكريم المسحراتي من خلال منحه بعض النقود أو إطعامه قبيل السحور.
"النوبادجي" في ليبيا يضيف جولة صباحية يوم العيد
وفي ليبيا، يُسمى الشخص المنادي لتناول السحور "المسحراتي" وفي بعض المناطق وخاصة الجنوبية الغربية "النوبادجي"؛ حيث يتجول بين أزقة الحي، قبل ساعتين من أذان الفجر، مستعملاً طبلاً كبيراً يضرب عليه بعصاتين اثنتين.
وممّا يقوله المسحراتي في ليبيا: "اصحى يا نايم .. وحِّد الدايم " و "ساهر الليل يا ساهر الليل.. نوضو تسحروا يا صائمين".
ويقوم "مسحراتي ليبيا" بجولة صباحية بعد صلاة العيد يتلقى خلالها تكريمات مختلفة من العائلات.
وتبقى هذه الشخصية التقليدية والتراثية قليلة العدد بليبيا مقارنة بما كانت عليه قبل دخول التكنولوجيا إلى بيوت سكان البلد وكل بلدان شمال إفريقيا.
فمعظم العائلات المسلمة بالمغرب العربي أصبحت تسهر ليالي طويلة في شهر رمضان، سواء خارج البيت أو داخله مع القنوات التلفزيونية، جماعات أو فرادى، كما يمتد السهر إلى ساعة قريبة من أذان الفجر، ما يجعلها تتناول السحور قبل الخلود إلى النوم، بل يوجد حتى من يقوم بالتسحر ثم النوم مباشرة دون الاستيقاظ لصلاة الفجر في موعدها.
وحتى الذي ينام مبكراً بعد صلاة التراويح فإنّه يستعين بالمنبه الصوتي على هاتفه النقال للاستيقاظ في موعد السحور، أي دون الحاجة للمسحراتي التقليدي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.