أثرت الأزمات والنزاعات الداخلية بين الأحزاب السياسية داخل تركيا، والأزمة الاقتصادية العالمية الحالية على الاقتصاد التركي بشكل كبير، وقد لاحظنا مؤخراً تراجع قيمة الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي؛ حيث فقدت ما يقارب 45% من قيمتها خلال فترة وجيزة.
قبل ذلك الانخفاض، لاحت بوادر الأزمة الاقتصادية في تركيا مع حلول عام 2013، عندما أعلن البنك المركزي الفيدرالي رفع سعر الفائدة في الوقت الذي كان فيه حزب العدالة والتنمية يرى أن "الفائدة هي أساس كل شر"، كما جاء على لسان رئيسه رجب طيب أردوغان، وأعلن الحزب الحاكم توجهه بتخفيض سعر الفائدة مهما كلف الأمر.
وقد ظهر ذلك بشكل واضح في الخلافات التي وقعت بين الرئيس أردوغان ورؤساء البنك المركزي؛ مما اضطره إلى إقالتهم واحداً تلو الآخر.الاقتصاد التركي مثله مثل باقي اقتصادات العالم يتأثر بالاضطرابات الداخلية؛ لذا كان لمحاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016 تأثير واضح على أداء الاقتصاد التركي، وكذلك، لكن بدرجة أقل، الانتخابات الرئاسية المبكرة عام 2018، كما كان لدخول تركيا في الصراع السوري بالغ الأثر على تدهور سعر صرف الليرة، فدخول أي بلد في حالة حرب يحمله فاتورة كبيرة مما ينعكس على موازنة الدولة.
خفض سعر الفائدة
يصر الرئيس التركي أردوغان على تخفيض سعر الفائدة، طامحاً بذلك إلى زيادة نسبة الصادرات التركية؛ مما سيساهم في خفض نسبة البطالة وزيادة الاحتياطي الأجنبي في خزينة البنك المركزي أكبر قدر ممكن، والتي تعتبر أحد أهم المحددات الرئيسة لدى الشعب التركي لتقييم أداء الرئيس، قبل حلول الانتخابات الرئاسية التي من المفترض إجراؤها العام المقبل، وبحسب هيئة الإحصاء التركي، فقد انخفضت نسبة البطالة إلى 11.4% بعدما كانت 12% في العام الماضي.
وصل سعر الفائدة إلى 14% بعد تخفيضها على مدار الأشهر الأربعة الماضية بواقع نقطة مئوية شهرياً، وبحسب بيان أصدره البنك المركزي التركي فإن نسبة التضخم وصلت إلى 54% مع توقعات بانخفاض ملموس الفترة المقبلة، وفي هذا السياق صرح وزير الخزانة والمالية التركي نور الدين نباتي قائلاً: "لدينا مشكلة مع التضخم، سنتغلب عليها ونزيد الثقة في الليرة التركية".
في نفس الإطار، اتهم الرئيس التركي أردوغان جهات خارجية بمحاولة التلاعب بالليرة التركية، وقد أصدر قراراً بفتح تحقيق في تلاعب محتمل بالعملة التركية. والحقيقة أن التدخلات والمضاربات الخارجية قد أثرت على سعر صرف الليرة التركية وهؤلاء هم من وصفهم الرئيس التركي بـ"الأشرار"، وطالب أردوغان شعبه بالصبر وتحمل المسؤولية واعداً إياهم بالخروج من حرب "الاستقلال الاقتصادي" بأقل الأضرار- على حد وصفه.
البيت التركي الاقتصادي
على صعيد ترتيب البيت الاقتصادي ووضع السياسات المالية والخطط الاقتصادية فقد ترك الرئيس التركي أردوغان المحللين الاقتصاديين في حيرة من أمرهم جراء انتهاجه نموذجاً جديداً في عالم الاقتصاد.
ففي حين تتجه معظم دول العالم حالياً لرفع سعر الفائدة في حال هبوط سعر صرف العملة المحلية أمام الدولار، يفعل أردوغان العكس عن طريق إصراره على تخفيض سعر الفائدة ورفضه بشكل تام لهذا النهج الاقتصادي قائلًا إن "رفع سعر الفائدة هو السبب، والتضخم هو النتيجة وليس العكس".
ويبدو أن السياسة الاقتصادية الجديدة التي يتبعها أردوغان، وإن كانت لها سلبيات كهبوط سعر الليرة أمام الدولار وارتفاع معدل التضخم على المدى القريب، لكن في المقابل حققت هذه السياسة بعضاً من الإنجازات الملموسة التي قد تحقق تطوراً لافتاً على المدى المتوسط والبعيد.
وبحسب هيئة الإحصاء التركية، ارتفع معدل الصادرات خلال شهر مارس/آذار من العام الحالي بنسبة 6.5%، كما يتوقع المحللون أن يشهد صيف 2022 ارتفاعاً غير مسبوق في أعداد السياح، مما من شأنه أن ينعش الاقتصاد التركي مجدداً، على الرغم من توقعات انخفاض في نسبة السياح الروس والأوكرانيين بسبب الحرب الروسية الأوكرانية التي بدأت في شهر فبراير/شباط 2022.
وتستعد تركيا لاستقبال السياح في أول موسم سياحي بعد وباء كورونا الذي بدأ عام 2019، والذي كان قد أثر على قطاع السياحة بشكل لافت. ويرجع المحللون الإقبال المتوقع لانخفاض سعر الليرة التركية أمام الدولار وانخفاض أسعار المنتجات والفنادق السياحية بالنسبة للسياح؛ مما سيؤثر أيضاً بشكل إيجابي على انخفاض نسبة البطالة.
وقد كان الرئيس التركي قد تحدث في منشور له على "تويتر" عن النموذج الاقتصادي الجديد الذي يتبعه قائلاً: "لقد أظهر النموذج الاقتصادي تأثيره على البلاد، الفائدة لن تكون فقط لمن لديهم أموال في البنوك أو من يصدرون إلى خارج البلاد، ولكن الفائدة ستصل لـ84 مليون مواطن، لذلك ندعو الجميع للاستثمار والتوظيف والإنتاج والتصدير، ونؤكد عزمنا على تنمية بلادنا بفائض في الحساب الجاري".
تتمثّل الإستراتيجية التركية في تبنّي مجموعة متناسقة من السياسات العامة الرامية إلى تحسين قدرة البلاد الإنتاجية ورفع صادراتها، كما نلحظ ذلك في التطور الصناعي في المجال العسكري، فبحسب دراسة نشرها مركز "ستراتفور" للأبحاث، فإن تركيا تنتج محلياً ما يقارب 70% من احتياجاتها العسكرية، بغية الحفاظ على استقرار الأسعار وضبط العجز في الحساب الجاري بعدما كانت تنتج ما نسبته 30% فقط في عام 2003، أي في العام الذي استلم به حزب العدالة والتنمية الحكم.
ومن الجدير بالذكر أن تركيا بدأت في التخطيط لاستخدام تقنية "البلوكتشين" في مجال التعليم والصحة، وقد يزيد هذا من نفقات الدولة حالياً، لكنه سيؤثر إيجاباً على الاقتصاد التركي على المدى المتوسط.
لا شك أن السياق السياسي يؤثّر في أي سياسة اقتصادية؛ لذا لا بد من التركيز على المقومات التالية: تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي، وبناء بيئة مؤسسية مواتية على المستويَين السياسي والاقتصادي، وصياغة سياسة تصنيع وإنتاج يُعتد بها، كما يجب على الحكومة التركية كبح جماح التضخم عن طريق الحفاظ على مستويات سعر الفائدة في الوقت الحالي، والعمل على إعادة صياغة السياسات النقدية وقياسها وتطويرها بما يتناسب مع المرحلة الحالية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.