كثيراً ما اعترضني خبرُ قولِ إحدى "الدجالات" المحليات إن تونس ستصير مثل دبي، يتداوله رواد موقع التواصل الاجتماعي من باب السخرية.
لكن يبدو أن ضبابية الرؤية جعلت تلك الفهلوية تخطئ التشبيه فقط، فواقع الحال أن تونس صارت مثل لاس فيغاس الأمريكية. أينما وليت وجهك تجد محلات القمار أو ما يُكتَب عليها زوراً "Paris sportifs"، ونعرّبها بـ"الرهان الرياضي" تلطيفاً، متجنبين كلمة "القمار" أو "الميسر"، بغرض تيسير التطبيع مع هذه الآفة المحرمة دينياً، والمحاطة بضوابط قانونية صارمة في الدول التي تبيحها.
أما عندنا فبفوضانا الخلاقة تعدينا تلك الضوابط قانوناً وديناً، كأنما الهدف إلهاء الشباب وتغييبه لعجز الدولة والساسة عن الاستجابة لتطلعاته، وإن كان الثمن تخريب مجتمع يعاني أمراضاً عدة، فزادوه آخر.
إذا كانت الولايات المتحدة تقتصر على مدنٍ بعينها للقمار، مثل "لاس فيغاس" أو "أتلانتيك سيتي"، فإن هذه المحلات منتشرة في كل ربوع تونس، في أي منطقة كانت. إذ في ظرف أقل من عامين تفشت حتى صار يكاد يستحيل ألا يعترضك أحدها عند تجولك. تجدها في كل مكان، قبالة المدارس والمعاهد والكليات وحتى المساجد، فلا ضابط ولا وازع يحول في دولة الفوضى واللامبالاة.
يحدث أن تجد تلك المحلات متقاربة في الأحياء والمناطق ذات الكثافة السكانية، وفي أحيان عديدة لا يفصل بينها حتى 100 متر، أي دون المسافة القانونية الفاصلة بين المقاهي. هذا إلى جانب المحلات التي تبيع بطاقات شحن أرصدة مواقع القمار التونسية المتعددة. فأين أمريكا والعالم منا وقد صارت تونس بأسرها دولة قمار دون أن تقصره على مدينة واحدة في "منوال تنموي" تتفرد به لا يميز بين الجهات.. أجل، إن كانت أمريكا صيرت لاس فيغاس مدينة الخطيئة والرذيلة، فإن ساستنا صنعوا دولة خطايا ورذائل.
قلتُ إن تلك المحلات يُكتبُ عليها زوراً "Paris sportifs" لأنها تتجاوز القمار الرياضي إلى شتى أنواع القمار، أكثرها شعبية "الروليت"، حيث تجد صورة هذه اللعبة ملصقة على بلور ولافتات تلك المحلات، التي تدعي الاقتصار على الرهان الرياضي.
وقد رُوي لي أن صبي بناء دخل عشياً إلى محل وبحوزته 30 ديناراً هي يوميته، أهدر 25 منها في بضع دقائق على الروليت، وغادر مبقياً الخمسة دنانير لشراء السجائر. وغير "الروليت" هناك ألعاب قمار أخرى عديدة ومختلفة، بدأت تعرف شعبية هي الأخرى، ويمكن تبيّنها على مواقع الإنترنت لهذه المحلات، هدفها تنويع وسائل سلب المال من مقامرين محبطين من انسداد الآفاق، تجلبهم إثارة المراهنة والمخاطرة، ويغيّبهم حلم الثروة بلا عناء والكسب السريع عن واقعهم البائس.
من الزور الملصق على بعض واجهاتها علامة المنع لمن هم دون سن الـ18، لكن قد رأيت بعض المراهقين يترددون على هذه المحلات، فالتحايل على ضوابط التسجيل سهل، بحيث يمكن أن يقامر الزبون القاصر عبر حساب لصاحب المحل مثلاً.
وقد كان الصبية في السابق من زبائن محلات الـ"بلانيت وين" والـ"برومسبور" على مرأى من الجميع، دون أن يحرك أحدٌ ساكناً، ومن هؤلاء حسب روايات من يكذب ويسرق من أهله ليقامر.
كنتُ قد قامرتُ في "البروموسبور" مراهقاً تراودني أضغاث الأحلام، وكان صاحب المحل يخدمني ويناقشني في "التعميرة" (خيارات الرهان)، عارفاً بأني أنا اللاعب أو بالأحرى المقامر، والنية إن حصل "الربح" أن يُوضَع اسم راشدٍ على الورقة ليتولى سحب المال.
يقول المثل التونسي "ألف خمار ولا قمار"، حيث "ناس بكري" القدماء رغم وعيهم بمساوئ أم الخبائث، يرون القمار أخطر وأجلب للخراب، ويقولون أيضاً "القمار يخرب الديار". لكن أناس هذا العصر طبعوا مع القمار بعد عقودٍ من الـ"بروموسبور"، بتسميته الأكثر ترقيقاً للمعصية "التنمية الرياضية"، المؤسسة التي أحدثتها الدولة منذ سنة 1982، وفي العقد الأخير زاد الطين بلة مع تفشي الـ"بلانيت وين" غير القانونية، التي تُمارَس يومياً، وفي كل لحظة، لا أسبوعياً، على مرأى من الدولة، وقد ارتادها حتى الأمنيون، قبل أن تُحدَث مؤخراً مواقع قمار تونسية ومحلات لها في كل مكان، عبر تلبيس قانوني لم أفهمه ولستُ هنا للحديث عنه.
في هذا الصدد، يقول عادل زرمديني، رئيس مدير عام شركة النهوض بالرياضة "البروموسبور" في تصريحات صحفية، إنه "من خاصيات سوق الرهانات أنه لا توجد أرقام دقيقة، حيث تتراوح بين الإقبال والتراجع من قبل المتراهنين ومن حيث رقم المعاملات".
وحسب بعض التقارير غير الرسمية، يوجد نحو 500 ألف تونسي يمارسون الرهان الرياضي الإلكتروني، فيما لم يتم تحديد عدد المحلات التي تنظم هذه الألعاب، نظراً لكونها مخالفة للقانون، وتعد من المصادر التي تستنزف العملة الصعبة.
هذا التطبيع طويل الأمد جعل التونسي الذي خرج واحتج واعتصم لمنع افتتاح مخزن خمور أو خمارة، وهو ينظر بدونية وبغض لتلك الحرفة، لا يهتم لوجود وتكاثر محلات القمار، رغم اقتران ذكر الخمر بالميسر في القرآن الكريم في أكثر من موضع، سواء تحريماً أو تحذيراً من الموبقتين (يَا أَيُهَا الَذِينَ آمَنُوا إِنَمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَكُمْ تُفْلِحُون) [المائدة:90]، بل إن هناك من افتتح محله بالقرآن وذبح ضأن "تجرية الدم"، جلباً للبركة.
وقد بقيت هذه المحلات مفتوحة في وضح نهار شهر رمضان الفائت، دون أي رد فعل من المجتمع أو الدولة، رغم أن هذه الأخيرة تمنع المقاهي والمطاعم غير السياحية من فتح أبوابها في نهار شهر رمضان، من باب القانون المانع للمجاهرة بالإفطار، لكنها لم تُلقِ بالاً لمحلات القمار، وكانت في هذا الشهر تعج بمن يحسبون أنفسهم "صائمين"، أو ربما هم كذلك في "الإسلام التونسي"، في مشهد محزن جداً.
رغم تفشّي هذه الظاهرة الخطيرة، بما يجعلها لا تغيب عن قاصٍ ولا دانٍ، ورغم أن مخاطرها معلومة في أمثلة وحتى دراسات من الخارج المُتبَّع المقتدى به، منها تقويض الشعور بالمسؤولية وقيمة العمل والكسب، والدفع إلى أشكال متعدة من الإدمان وتبديد المال، وأثرها المدمر على العائلات والأطفال، وغيرها… رغم ذلك لا أذكر أني رأيت أو قرأتُ عن تحرك أو تنديد ممّن يسمون نشطاء المجتمع المدني. كما لم أرَ الساسة على اختلاف مشاربهم يتطرقون لها، سواء من منطلق اجتماعي أو اقتصادي أو أخلاقي أو ديني، بل إن الدولة زادت في اتجارها بانحرافات المجتمع ومرضه باستنباط قانون منذ سنوات يجعلها تقتطع لصالحها نسبة من "أرباح" المقامرين في "البروموسبور"، ليمتد هذا الاقتطاع إلى المواقع الجديدة.
إن كان الهدف إلهاء الشباب وتغييبه لعجز الدولة والساسة عن الاستجابة لتطلعاته وحقوقه، أو حتى استغلال هذه الظاهرة كموردِ مال إضافي لدولة تتخبط في أزمات اقتصادية، أو خلق فرص "عمل"، فالثمن تخريب مجتمع يعاني أمراضاً عدة، زادوه آخر، وفاقموه عوض الحد منه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.