الاختفاء شبه التام للمعارضة التقليدية في موريتانيا، لم يكن مفاجئاً ولا مستبعداً، بل على العكس من ذلك كان متوقعاً، والسبب الرئيسي في اختفاء هذه المعارضة يعود في الأساس إلى قادتها، وذلك عبر سلسلة من الأخطاء، ارتكبوها خلال مسيرتهم السياسية الممتدة على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، فتحولت بموجبها هذه الأحزاب من مشاريع تغيير تتعلق بها الجماهير، إلى مشاريع تبرير تنفر منها الأجيال.
لقد عمل هؤلاء، كل من موقعه، على شخصنة حزبه، واختزاله في ذاته، وانفرد كل واحد منهم باتخاذ القرار في مؤسسات الحزب، وشكل عقبة كأداء أمام أي تداول على رئاسته، فتحولوا من دعاة للديمقراطية، إلى مثال حي للديكتاتورية، مشكلين بذلك نموذجاً مصغراً للجامعة العربية، مجرد نادٍ للديكتاتوريات العاجزة عن مواجهة الخصم، وأحيانا مُمالئة له، وبعضها يكيد للبعض الآخر من أجل إضعافه والتكسب على حسابه.
تبدت معالم عجز المعارضة وأنانية معظم قادتها منذ السنوات الأولى لتشكلها، فانبرى كل منهم يبحث عما يضر به صاحبه، ولو كلفه ذلك التعامل مع الأنظمة العسكرية التي توحدوا أصلاً من أجل مواجهتها.
كانت البداية مع رئيس حزب اتحاد قوى التقدم، محمد ولد مولود، عندما دشن عهد الشقاق في التسعينيات، وذلك بالانشقاق عن حزب اتحاد القوى الديمقراطية، والصراع مع رئيسه أحمد ولد داداه على تسمية الحزب، وذلك قبل أن يتبنى ولد مولود الحوار مع الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع في أوج بطشه بالمعارضة، ويعطيه بذاك الحوار حجة عند الممولين الدوليين، وفرصة للتنكيل ببقية المعارضين.
ثم جاء الدور على رئيس حزب التحالف الشعبي التقدمي، مسعود ولد بلخير، الذي قرر في الشوط الثاني من انتخابات 2007 الرئاسية، دعم مرشح العسكر، ضد رفيقه أحمد ولد داداه، قاطعاً الطريق بذلك على التغيير الذي كان على الأبواب.
رئيس حزب تكتل القوى الديمقراطية، أحمد ولد داداه، لم يفوت هو الآخر الفرصة ليقتص من رفيقيْه، الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، ومسعود ولد بلخير، فاعترف بانقلاب الجنرالين محمد ولد عبد العزيز، ومحمد ولد الغزواني سنة 2008، ووصفه بالحركة التصحيحية، ليجهض بذلك الجهود الرامية إلى إبعاد العسكر عن السلطة بعد خلافهم مع صنيعتهم، وقد اتخذ رئيس حزب الاتحاد والتغيير الموريتاني "حاتم" صالح ولد حننا موقفاً مشابهاً؛ حيث قام بدعم الجنرالين في انقلابهما.
في العام 2013، كان رئيس حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل"، محمد جميل منصور على موعد مع سقطة سياسية كبرى؛ حيث قام بنقض العهد الذي وقعه مع قادة منسقية المعارضة، وهو العهد الذي يتضمن عدم المشاركة في أي انتخابات غير توافقية، فشرّع للعسكر انتخاباتهم بمشاركته فيها، وأضفى على برلمانهم جواً ديمقراطياً كانوا في أمس الحاجة إليه.
ولكي لا أغمط هؤلاء القادة حقهم، لا بد لي من ذكر بعض المواقف التي تسجل لهم، فهؤلاء لم ينبتوا في بيئة ديمقراطية، بل مارسوا السياسة تحت ضغط سلطات عسكرية استبدادية لم تترك لهم مجالاً للمناورة، وجندت إمكانيات الدولة ومقوماتها لشراء الذمم وتزوير الانتخابات، كما حصل مع أحمد ولد داداه، الذي سجل له التاريخ صبره على الظلم، وتضحياته بالمناصب من أجل السكينة. تجلَّى ذلك في دعوته للشارع الملتف حوله إلى الهدوء وعدم التظاهر، وذلك إثر انتزاع الفوز منه في انتخابات 1992 الرئاسية، كما أنه اعترف ضمناً بالنتائج التي فاز بها غريمه سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، رغم ما شابها من تدخل سافر لعضو المجلس العسكري العقيد محمد ولد عبد العزيز، الذي خاض يومها حملة قوية بالترغيب والترهيب لصالح مرشحه ولد الشيخ عبد الله.
يحسب أيضاً لولد داداه، ومسعود ولد بلخير، وجميل منصور، وصالح ولد حننا، صبرهم على السجون والقمع والمنافي أيام ولد الطايع، كما أنه يحسب لاتحاد قوى التقدم وتواصل وحاتم دعمهم للمرشح الرئاسي عن التكتل أحمد ولد داداه، وذلك في الشوط الثاني من انتخابات 2007، ضد مرشح العسكر.
صالح ولد حننا هو الآخر تحفظ له الذاكرة الوطنية شجاعته وتخطيطه البطولي من خارج الجيش للإطاحة بنظام ولد الطايع، وقد اتفق الجميع على أن محاولة ولد حننا لقلب النظام، كانت الدافع الأساسي لقيام المقربين من ولد الطايع بالانقلاب عليه.
بدوره، قام حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل" بسنّ سُنة حسنة، لم يسبقه إليها أي من الأحزاب الأخرى، وذلك بسنّه قانوناً يحد مأموريات رئيسه باثنتين فقط، وقد التزم فعلاً بذلك وانتخب رئيساً جديداً، والفضل يعود لرئيسه حينها محمد جميل منصور، الذي تنازل في أوج عطائه عن رئاسة الحزب، وإن كان البعض يقلل من أهمية ما حصل، ويرى أن الأحزاب الإسلامية تحكم عن طريق المرجعيات العليا، على غرار الحزب الحاكم، الذي يخضع رئيسه لسلطة رئيس الدولة، ويتلقى التعليمات منه.
وبالمجمل، فإن لهؤلاء القادة سلبيات وإيجابيات، إلا أن سلبياتهم طغت على إيجابياتهم، فكانت أخطاؤهم الكارثية في اللحظات المصيرية، كفيلة بالقضاء عليهم، وكفت النظام مشقة القيام بذلك.
لا تحسبوا-أيها الموريتانيون- اختفاء تلك المعارضة شراً لكم، بل هو خير لكم، فاختفاؤها ضروري لظهور تيار جديد لا ينتمي لمسلكيات تلك المعارضة، ولم يسبق له أن تلوث بأدران الأنظمة العسكرية المتعاقبة، وإرهاصات تشكل ذلك التيار باتت ماثلة للعيان، ذلك أن الطبيعة تأبى الفراغ، والانسداد الذي شكله زعماء المعارضة في الأعوام الماضية، انزاح بعد تماهيهم مع النظام وتقاعُد معظمهم بحكم التقدم في السن، فأصبحت الأرضية صالحة لتقدُّمِ نخب جديدة قادرة على مواجهة النظام العسكري المترهل، فالساحة السياسية تشهد تمايزاً سيسفرعن تحالف شبابي عريض، يشكل خطاً ثالثاً، يؤمن أصحابه بمدنية الدولة وحتمية النهوض بها، يكفرون بنمط الأحزاب التقليدية، ويرفضون الرضوخ لشيوخ القبائل، وهيمنة العسكر على الحياة السياسية.
سيكون الخط الثالث خطاً جامعاً، ولن يجد كبير عناء في إزاحة العسكر الحائرين، ذلك أن العسكر جربوا مختلف الصيغ للتشبث بالسلطة، جربوا الانتخابات الصورية والتمديد الذي أدى في النهاية إلى الإطاحة بولد الطايع، كما أن الحكم من وراء رئيس مدني ضعيف أثبت هو الآخر فشله مع ولد الشيخ عبد الله، ثم جاء الوعي السياسي لدى المواطنين ليمنع المأمورية الثالثة، ويُلجئ ولد عبد العزيز بعد ذلك إلى الخطة "ب" المتمثلة في ترشيح صديقه وشريكه، لكن هذه الصيغة فشلت هي الأخرى، ولم يتمكن عزيز من مواصلة الحكم من وراء غزواني.
الخيارات إذن تبدو محدودة جداً أمام العسكر مع تنامي الوعي السياسي، وتعثر التجارب الانقلابية في الجوار وما صاحبها من كلفة في الأمن والاقتصاد؛ لذلك يتوجب عليكم -أيها الغيورون على وطنكم- اغتنام الفرصة، والتواصل في ما بينكم من أجل تشكيل كيان سياسي جامع يقود المعارضة في هذه المرحلة، ويعمل على التحضير المحكم لانتخابات 2023 البرلمانية والمحلية، لتكون رافعة لكم في انتخابات 2024 الرئاسية، فهل أنتم فاعلون؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.