قبل سقوطه في تفجير استهدف سيارته "الرونو 16" الزرقاء في شارع سان برنارد دو فوسي، بباريس، صباح 28 يونيو/حزيران 1973 لم يكن أحد يعرف التاريخ الشخصي لهذه الجثة. حمل صاحبها كُنيات عدة، بينها الرجل ذو المئة وجه، والشبح، والرجل ذو اللحية الزرقاء، والصداع الجزائري، وغيرها من التسميات التي أطلقها عليه الموساد الإسرائيلي. أما اسمه بين الخلايا الفدائية التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومنظمة أيلول الأسود، التي تولى فيها وظيفة محورية هي "العقل المنسق" لعملياتها العسكرية بأوروبا، فكان "أبو ضياء".
أما اسمه الحقيقي فهو محمد بودية، التحق صغيراً بالكشافة الإسلامية، ثم أُغرم وهو ابن السابعة عشرة بالكتابة والشعر والحكايات الشعبية والديكور والسينوغرافيا وأدوات العمل المسرحي، لكن ما من أحد توقّع أن هذا الذي حلم بحياة فنية خالصة فوق الركح سيجد نفسه كما "جيمس بوند" حقيقي ممثلاً أسطورياً في واقع الأحداث، مترحلاً بين الثورتين الجزائرية والفلسطينية، ورقماً صعباً في قتال الأشباح الدائرة رحاه، مطلع السبعينيات، بين الفصائل الثورة الفلسطينية وجهاز الموساد وأجهزة الاستخبارات الإيطالية والفرنسية والألمانية والأمريكية.
فمن يكون هذا الرجل يا ترى؟
1/ الشاعر يفجر مخازن الوقود الفرنسية بمارسيليا خلال الثورة\
ولد محمد بودية العام 1932 بحي باب جديد بالعاصمة، وقد أولع منذ الصغر بالكتابة والأشكال المسرحية المتنوعة، فأظهر فيها ميولاً غير خافية، تجلت في إتقانه التعبير بالكتابة، لذا فهو سيلتحق بالعام 1954، وهو ابن الاثنين والعشرين ربيعاً بمعهد جهوي للفنون الدرامية بالجزائر، وطبيعي أن يُبتلى الفتى بالثورة الجزائرية التي اندلعت في تلك السنة، مرتكزاً على ميول وطنية.
واستقلالية تلمسها في مراهقته أيام الحركة الكشفية الجزائرية، ولئن أجبرته ظروف اجتماعية ومهنية على مطاردة أحلامه الخاصة بالهجرة إلى فرنسا، فإنه لم ينسَ حلم الاستقلال الجماعي للأمة، فانخرط سريعاً بفيدرالية جبهة التحرير هناك، وشارك فعلياً في عدة عمليات، أُصيب في إحداها، قبل أن يقود عملية تفجير مخازن الوقود الفرنسي بماربيان بمارسيليا سنة 1958، فكلفته الإدانة بعشرين سنة نافذة. عكف خلال فترة حبسه على تأليف أشعار ونصوص مسرحية مثل "ميلاد" و "شجرة الزيتون"، كما حوّل نصوصاً فرنسية بينها أعمال لموليير للغة المحكية الجزائرية، وعمل على نقل أفكاره الوطنية حول الحرية لممثلين لقنهم المسرح في عنابر السجن وزنازينه.
ثم إنه أفلح العام 1961 في الفرار من الحبس بمساعدة شبكة جونسون، تلك المجموعة المشكلة من فرنسيين وسويسريين وأوروبيين خلص، مناوئين للاستعمار فكرياً، موالين للثورة الجزائرية عملياً، والمعروفين لدى أرشيفات البوليس السرية باسم "حملة الحقائب".
اختبأ لفترة ببلجيكا، قبل أن يظهر بطريقة غريبة في تونس، حيث انضم للفرقة المسرحية الجزائرية المسماة فرقة جبهة التحرير، مع مصطفى كاتب وثلة من رواد الغناء والسينما والتمثيل.
2/ حاور الكومندان تشي غيفارا، وعارض انقلاب العقيد بومدين ضد الرئيس بن بلة.
بعيد الاستقلال عيّنه الرئيس أحمد بن بلة، المرتبط معه بعلاقة حميمة على رأس المسرح الوطني الجزائري، فكان مديره الأول سنة 1963، لكنه لم يهمل عشقه للكتابة والصحافة، فأسس جريدتين هما "نوفمبر" و"الجزائر هذا المساء"، الجريدتان اللتان كشفتا عبر صفحاتهما ميله للفكر الثوري التحرري ذي النزعة اليسارية الراديكالية، التي ترى في العنف الثوري وسيلةً للتطهير والمساواة وفق نظريات فرانز فانون، ذلك الطبيب المارتينيكي، الذي صار مناضلاً في الثورة الجزائرية، لن يتأخر محمد بودية للحظة في النسج على منوال فانون، غداة إجرائه حواراً مطولاً مع أرنستو تشي غيفارا، ذلك الثوري الأرجنتيني الذي كرَّس حياته للثورات والحرية في كافة اصقاع العالم.
وضيف الجزائر الكبير، صاحب البزة الخضراء وسيجار كوهيبا الكوبي سيغير مجرى حياة محمد الصحفي، رأساً على عقب، عندما طرح أفكاره الأممية، ولعل "الكوموندانتي تشي غيفارا" كان سلب روح الرجل بعباراته الإنسانية الرهيبة، العابرة للأوطان والقلوب مثل "لا أعرف حدوداً، فالعالم بأسره وطني" و"أحلامي لا تعرف حدوداً، فكل بلاد العالم وطني، وكل قلوب الناس جنسيتي، إنّ حبي الحقيقي الذي يرويني هي الشعلة التي تحترق داخل الملايين من بائسي العالم المحرومين، شعلة البحث عن الحرية والحق والعدالة".
لن يخذل محمد شعلة الحرية يوم 19 يونيو/حزيران 1965، في أول ليلة بعد انقلاب العقيد هواري بومدين على الرئيس بن بلة، فتعاطف مع الرئيس المدني وانتقد الكولونيل العسكري، لا بل عارضه معارضة شديدة، معتبراً أن الانقلابات شكل بائد وبائس من أشكال انتهاك الشرعية وتقويض مبدأ الحرية، وفرض الأشياء بمنطق القوة بدل قوة المنطق، فأسس رفقة رفاق له بينهم مناضلون في الثورة الجزائرية، منظمة صمود الشعب المناوئة للحركة التصحيحية، وخشية توقيفه بعد تسارُع الاعتقالات فرّ نحو شرق البلاد، قبل أن يتسلل خارجها عبر الحدود التونسية، للرحيل مجدداً إلى فرنسا.
في العام 1967 شغل منصب عامل إداري بمسرح الغرب بباريس، ثم أسس لاحقاً فضاء للمسرح المغاربي، ورغم معارضته لبومدين فقد رفض مساعي معارضين مغامرين بالدخول في نزاع مسلح معه، مردداً عبارته "أبداً لن أرفع السلاح في وجه بلدي"، أو " إني مشغول بأشياء أكثر أهمية".
الكثيرون لم يكونوا يعلمون أنه كان مشغولاً بالقضية الفلسطينية، فقد صار له عالمه السري والموازي الذي لا يعرفه غير القليل، إذ شوهد ملازماً للوزير السابق بشير بومعزة، الذي فر بدوره من نظام بومدين، فكانت تدور بينهما جلسات وأحاديث طويلة "لا يعرف كنهها أحد" في مقاهي باريس المغلقة وحاناتها الرمادية.
3/ ذو اللحية الزرقاء ينضم لحركة وديع حداد ويجنّد "الثعلب" كارلوس
ثم جاء اليوم الذي وجدا نفسيهما في كوبا وجهاً لوجه مع الرجل الأول للحركة الشعبية لتحرير فلسطين، الدكتور ذائع الصيت "وديع حداد"، الملقب "أبو هاني". جرى اللقاء بوساطة من بشير بومعزة، الذي ربطته صداقة قديمة بوديع، وفيه تم عقد الصفقة بانضمام محمد بودية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وتكليفه بمهام عسكرية ميدانية بأوروبا، هو الذي لم يُخفِ للحظة ما كان يردده سراً وعلانية: "مثلما كانت مسألة الجزائر وثورتها قضيتي فإن قضية فلسطين وثورتها هي أيضاً مسألتي".
أما الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والذراع العسكرية الجديدة التي سيؤسسها أبو إياد تحت اسم دلالي "أيلول الأسود"، فكانتا ترغبان في شن عمليات عسكرية دامية، ذات صخب إعلامي عالمي، لفتاً للأنظار لقضية فلسطين المنسية، عبر توظيف سوابق بودية وخبراته الميدانية والتنظيمية والتخطيطية والأمنية، ثم استثمار شبكة علاقاته الواسعة أوروبياً ودولياً، مع حركات التحرر اليسارية في ألمانيا وإسبانيا وفرنسا وسويسرا وبلجيكا، لصالح القضية الوطنية.
خرج محمد بعد اللقاء الحاسم مع وديع حداد، بكنية جديدة هي "أبو ضياء"، ليلتحق بعد أشهر بجامعة باتريس لومومبا بموسكو، لتعميق معارفه العسكرية والتقنية في تلك المؤسسة، التي أنشأها الكي جي بي لتجميع النخب اليسارية عبر العالم، وتسخيرها كأدوات منفذة لأيديولوجيا وإرادة الاتحاد السوفييتي في صراعه الوجودي ضد الإمبريالية الغربية والرأسمالية العالمية ودعم حركات التحرر الكونية.
وعلى مقاعد الدراسة نسج "أبو ضياء" علاقة وطيدة مع شاب فنزويلي غامض يدعى "إيليتش سانشيز راميريز"، ولم تكن هذه الثلاثية اللاتينية الشبيهة بأسماء لاعبي كرة القدم تعني شيئاً في ذلك الوقت، لكنها ستتحول فيما بعد وبتأثير واضح من محمد بودية، الذي أقنعه بارتداء القضية الفلسطينية، إلى اسم مرعب يُسمى "الشاكال".
أو كارلوس الثعلب، تلك الشخصية التي نسجت حولها قصص وروايات وأفلام سينمائية، لا تزال تصنع الحدث عبر المجلات والصحف حتى وقتنا الراهن.
هكذا مارس محمد بودية أو "أبو ضياء"، المتقن لأربع لغات، قوته المغناطيسية في جذب مختلف التيارات اليسارية الراديكالية المناهضة للإمبريالية نحو القضية الفلسطينية، فربط حبل العلاقات الشبكية مع منظمة بايدر ماينهوف الألمانية، وإيتا الباسكية، والجيش الأحمر الياباني، والألوية الحمراء الإيطالية، والجيش الأحمر الأرميني، ثم سريعاً ما ستسقط ثمار التنسيق والتشبيك الذي غرسه ورعاه في سلة القضية الفلسطينية، وتحديداً في حجر منظمة أيلول الأسود، تلك المنظمة التي اختارت اسماً دلالياً يعني "سبتمبر الأسود"، الذي شهد قبل أعوام فصلاً دموياً شنيعاً بين النظام الأردني ومجموعات المقاومة الفلسطينية، بيد أن أبو ضياء وباعتراف فصائل فلسطينية كان مرتبطاً بجوهر القضية، متعالياً على الخلافات الناشبة بين وديع حداد وأبو إياد، ساعياً للتقريب والإصلاح، مادّاً جسوره مع جورج حبش وياسر عرفات، زعيم حركة فتح، مقدماً بنك مزاياه للجميع، خادماً للقضية التي كانت عنده فوق الزعماء والأحزاب.
4/ "العقل المنفذ" في خدمة "أيلول الأسود" في عمليات مطار اللد وأولمبياد ميونيخ
لسنوات مديدة يعيش الرجل حياتين، بل شخصيتين، شخصية نهارية خلال أوقات الانكفاء على المسرح والنشاط الثقافي الفكري، وشخصية ليلية مكرسة للقضية الفلسطينية، لذا لم يكن مثيراً للريبة قط، سواء لدى رفاقه أو أبنائه، الذين سيعرفون بعد سنوات من رحيله أنه كان يزور بيروت بين فترة وأخرى، ومعسكرات التدريب للثوار الفلسطينيين بالضفة الغربية، للوقوف على الاستعدادات العملية، والأرجح أن كل تلك السفريات تمت بهويات مزورة، وكان الغرض منها تهيئة الرماد اللازم للحريق الذي سيضرب مصالح إسرائيلية وغربية في أوروبا، وفي قلب الأراضي المحتلة، وفي عمق الداخل الإسرائيلي.
مع بداية السبعينيات تفجّر غضب "أيلول الأسود" الدامي والساطع، في عدة مناطق عبر العالم، ففي شهر أغسطس/آب 1972 تعرّض الأنبوب الرابط بين إيطاليا والنمسا لتفجير بمنطقة ترياستي، متلفاً ما مقداره 250 ألف طن من النفط، ومكلفاً خسائر بـ2.5 مليار دولار، ثم تبعتها عملية اختطاف واحتجاز طائرة إسرائيلية في مطار اللد -بن غوريون حالياً- غربي القدس، في 8 مايو/أيار 1972.
في 31 مايو/أيار من الشهر ذاته شهد المطار نفسه عملية أخرى، نفذتها خلية الجيش الأحمر اليابانية، بقيادة الثلاثي كوزو أوكاموتو المكنى أحمد، وسويشي أوكودايرا المدعو باسم، وياسويوكي ياسودا الملقب "صلاح"، ألقى هؤلاء قنابل يدوية على طائرات إسرائيلية رابضة بالمطار، بعد استرجاعهم أسلحة أوتوماتيكية ورمّانات يدوية من حقائبهم، وخلَّفت التفجيرات المتبوعة باشتباكات مع أعوان أمن إسرائيليين مقتل 26 شخصاً وجرح 80 على الأقل، فيما قتل مهاجمان وأسر كوزو أوكاموتو.
حملت تلك العمليات وغيرها من حوادث اختطاف متواترة للطائرات توقيع أيلول الأسود، التي نفذتها للمطالبة بتحرير الأسرى الفلسطينيين، ورداً على سلسلة اغتيالات طالت مثقفين ومناضلين ودبلوماسيين فلسطينيين، مثل الشاعر غسان كنفاني، والسياسي كمال عدوان، وأبو مصطفى النجار، لكن عملية مرتقبة ستكسر أفق التوقعات الدامية، لما اختير تنفيذها في إبان حدث رياضي كبير هو أولمبياد ميونيخ بألمانيا 1972.
تولى محمد بودية إيواء وإخفاء وتمرير الكوماندو الفلسطيني الذي قاده محمد داوود عودة، المكنى "أبو داوود"، بسيارته رونو 16، عبر الحدود الفرنسية الألمانية، ليستيقظ العالم في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر/أيلول، على خبر صاعق، هو احتجاز سرية مسلحة لأيلول الأسود لرياضيين إسرائيليين، بهدف مقايضتهم بإطلاق سراح 236 أسيراً فلسطينياً، بينهم الياباني المعتقل كوزو أوكاموتو.
لكن تلك العملية المفاجئة، التي لم تلقَ الإجماع لدى الفصائل الفلسطينية والدول الداعمة لها، خُتمت خاتمة مأساوية، بعد الاشتباك مع قوات الأمن الألمانية، فانطوت على مقتل 11 رياضياً إسرائيلياً، وعدد من أعوان الشرطة الألمان وبعض من منفذي الهجوم.
5/ غولدا مائير تعلن "غضب الرب" وفيلق الموت يعد قائمة للتصفية باسم إيكس 12
كان لعملية ميونيخ تداعيات أمنية جمة، بعدما قررت رئيسة الوزراء الإسرائيلية تفعيل جهاز أمني تحت إشراف الموساد، ويعمل تحت أوامرها المباشرة، فتم إعداد "لائحة إيكس"، وضمت 12 رأساً مطلوباً للتصفية، بينهم وديع حداد والأمير الأحمر أبو حسن سلامة، ومحمود الهمشري ومحمد بودية، الذي سمته رئيسة الوزراء الإسرائيلية الرجل ذا اللحية الزرقاء، والرجل ذا المئة وجه، وفي ذلك قصص استحقت هذا الوصف.
يقول مراد بودية، نجل الفقيد في تصريحات وثائقية لقناة الشروق نيوز الجزائرية، "والدي كان شديد التحفظ، في العادة كان يتوخى أقصى درجات الاحتياط، عندما كان أشخاص يودون ملاقاته فهم مجبرون على ترك وصية في مقهى متعارف عليه في باريس، ثم كانوا يفاجأون به وهو يعترض سبيلهم بعد أيام في مكان آخر، لما يطمئن لهوياتهم". وتفيد روايات بأن محمد بودية الذي كان يتقن الديكور والسينوغرافيا بحكم امتهانه المسرح، مارس في أرض الواقع فنون التنكر والتخفي باستمرار، إذ كان يغير أماكنه من حين إلى آخر، ويركب لحية اصطناعية، تلك التي جلبت له، بلا ريب، كنية اللحية الزرقاء.
وفي أعقاب عملية "غضب الرب" التي أطلقتها غولدا مائير، وتم خلالها اغتيال محمود الهمشري، شهر يناير/كانون الثاني 1973، وكان يعمل قائداً للعمليات الخارجية الخاصة مع بوديا بأوروبا، جاء الرد سريعاً باغتيال ضابط كبير في الموساد يدعى "كوهين باروخ"، المتواري في كنية "يوري مولو" في العاصمة الإسبانية مدريد.
وفي أتون حرب الظلال تلك، وقتال الأشباح بين الموساد وأيلول الأسود، لجأ بودية لأسلوب التنكر المتواتر، وقد تبعته ذات مرة سيارة فدخل إلى محل، فيما بقِيَ الراصدون ينتظرونه، دون جدوى، بعدما اتضح لهم فجراً أنه كان في عداد الخارجين قبل ساعات، مرتدياً زياً نسائياً خالصاً.
لم يتأخر الرجل المهدد في أية لحظة في إنقاذ عناصر الفرقة الغنائية المغربية الشهيرة ناس الغيوان، التي كان يهدف لبعثها عالمياً عبر الأغنية السياسية، بعدما وصلته أنباء عن نية استهداف بعض أفرادها، الذين تعودوا على ملاقاته، لا بل أهدوه، بعد رحيله، أغاني تحت عنوان "فلسطينيات"، خاصة في ظل تلك العلاقة الروحية والفكرية التي جمعته بمؤسسيها الحقيقيين، العربي باطما وبوجمعة أحكور.
6/ عملاء غرسوا رقيقة ذكية لرصده، والموساد فخخ مقعد سيارته.
كان الرجل على مدار سنوات سبع طوال يعي منذ لقائه بوديع حداد في العام 1967، أنه محل شبهة، ومراقب باستمرار من قِبل أجهزة أمنية فرنسية وغربية، دون أن يترك لها أدلة تدينه بها، لكن إحساسه المتعاظم بالخطر بات أكثر مثولاً عندما أرسل خلية مكونة من فتيات ألمانيات شرقيات من عائلة بارج، بينهم الشابة إيفلين، والشقيقتان المغربيتان ناديا ومارلين برادلي، لتنفيذ هجمات بالقدس.
لم يعثر المحققون الذين أوقفوا أفراد العائلتين بالمطار على ما يستوجب القلق، فقد ازدانت الحقائب بثياب خاصة، ومعجون أسنان، وعطور، وكميات من القطن، لكن ذلك القطن فضح كل شيء، فبتحليله تم اكتشاف مادة متفجرة سائلة يمكن بتجميعها بصواعق مفجرة مخبأة في أجهزة استقبال ضبطت في حقائب العجوزين بارج، يمكن صناعة متفجرات وتنفيذ عمليات استعراضية شديدة الأثر. كُشفت العملية، وبات رأس محمد في المزاد أكثر من أي وقت مضى.
في صبيحة 28 يونيو/حزيران 1973، اقترب الرجل من سيارته التي تركها لدى مجموعة من أصدقائه، قبل تواريه لأسابيع طويلة، تفقدها فلم ير بها شيئاً، وفي اللحظة التي شغّل فيها المحرك لامست شرارة كهربائية الأسلاك الموصولة بقنبلة زُرعت تحت مقعده فقطَّعته إلى أشلاء.
سقط الخبر كالصاعقة على زميله حسين زهوان، ورفيقه بشير بومعزة، الذي بكاه بمرارة، لقد حذَّراه قبل أسبوعين بالاختفاء، لما وصلهما من أخبار نقلها صحفي فرنسي سمع ترديد اسمه بالسفارة الإسرائيلية بباريس، فعمل بالنصيحة لوقت، لكنهما لم يتوقعا أن تفاجئهما جثته التي شاهداها داخل سيارته على شاشة التلفزيون.
لا أحد يعرف كيف وصلت مجموعة "غضب الرب" التابعة للموساد لرأس الرجل ذي المئة وجه، فقط ثمة تخمينات ربطت بين عمليات اختراق للفصائل الفلسطينية واليهود الفرنسيين من ذوي الأصول الجزائرية، ثم التوقيف المريب لشبكة إيفلين بارج بالقدس. أما المناضل الثوري حسين زهوان، رفيقه في الثورة وفي المنفى الباريسي، فكشف في ندوة جريدة المجاهد المخصصة لذكرى "أبو ضياء" ما يلي:
" تم اصطياده بالتنسيق بين أعوان أجهزة فرنسية وغربية منسقة مع جهاز الموساد. زرعت سيارته برقيقة ذكية لتتبع حركة سير السيارة، ثم لُغمت فيما بعد، عقب التأكد من أنها مركبته".
توعدت فصائل فلسطينية بالرد الصاعق، أما السلطات الجزائرية، التي كانت أصدرت بحقه حكماً قضائياً عن "تهمة الإعداد لمؤامرة لقلب نظام الحكم" العام 1970، كان نفى وقائعها في رسالة شخصية مطولة بعثها إلى بومدين، ثم رد على طلب وصله من قريبته عبر وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة بكتابة طلب للنظر في قضيته "شكراً على موقفك، لكني مشغول بقضايا أهم"، فقد سارعت إلى استرجاع جثته من باريس لدفنها بمقبرة القطّار بالعاصمة.
انتهى عصر محمد بودية، فخلفه زمناً تلميذه الفنزويلي "الثعلب كارلوس"، الذي نفذ عملية تفجير طائرات لشركة العال الإسرائيلية بمطار أورلي الفرنسي سنة 1975، مطلقاً عليها: "عملية محمد بودية".
أما أبو داوود، قائد عملية كوماندوز ميونيخ، فإن أول عمل قام به بعد إطلاق سراحه بعد توقيف ظرفي بفرنسا العام 1977، فكان القدوم إلى الجزائر بغرض وحيد، وهو زيارة قبر أبو ضياء.
في العام 1985، نفذت فرقة تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عملية أمنية، استهدفت "حسناء"، تدعى سيلفانا رفائيل، معيّة مرافقين اثنين بيخت بميناء لارناكا القبرصي. تردد في الكواليس أن هذه المجموعة هي التي قادت فيلق الموت لمجموعات عملية غضب الرب، وقتلت عناصر لائحة "إيكس"، والشبح ذا الظلال الحمراء، عن عمر لم يتجاوز الواحد والأربعين عاماً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.