لعل من أكثر الأشياء التي قد تصيبنا بالدهشة ردة فعل لأحد الأصدقاء، عندما يصفك بـ"القوة" في نهاية حوار دار بينكما، وحين كان منشغلاً معك في الحديث عن خصوصياته يشتكي إليك بغصة وألم، ويحدثك عن همومه التي أثقلته، ويفتح قلبه لك من أوسع أبوابه، ويكون الحوار بينكما عبارة عن "فضفضة".
تكون أنت مستمعاً له في حيرة، وتعجب مما سترد عليه تارة، وفي تعاطف معه تارة أخرى، تتساءل قبل الرد عليه: هل سأتمكن من مساعدته، هل سأكون على قدر من الثقة التي منحنى إياها، وهل سأكون صديقاً جيداً له؟
وبعد الانتهاء من حديثه يخبرك بأنه بحاجة إلى حل لمشكلته التي تحدّث عنها، أو على الأقل أن تخبره بوجهة نظرك، حينها تبدأ أنت تحاوره وتشاركه الآراء والحلول، وكأنه سيناريو أنت من كتبته وتقرأه أمامه، إنه ليس مشهداً تمثيلياً فحسب، إنه مشهد حقيقي، ولا رواية أنت مؤلفها، بل أنت بطلها، تتحدث بمفردات وتراكيب لم تعتَد عليها، غير مألوفة، لم تخطر في بالك، وخارجة عن النص المتعارف عليه، تحاكيه بقوة، تخطط له ماذا يفعل، وما عليه ألا يفعل.. قد تجد نفسك حكيماً أو فيلسوفاً، أو ربما طبيباً نفسياً يدرك تماماً مجريات الأمور وتفسيراتها، وتُوصيه بالقوة والصمود والصبر، وتمنحه المزيد من الدعم المعنوي، وتتعهد له بأنك ستساعده في حل وتخطي مشكلته، وأنك بجواره حتى تتأكد من كونه بخير.
حينها يقول لك شكراً، ويُردف حديثه بالتمني بأن يقول لك: "يا ليتني مثلك كنت قوياً!".
حينها تصاب بالذهول والدهشة وتصمت قليلاً، ويمر أمامك شريط من ذكريات حياتك، تجاربك، همومك، تفاصيلك، شؤونك… وتتساءل: هل أنا حقاً قوي؟
مهلاً يا صديقي دعني أخبرك شيئاً، فلا يغرنك حديثي الملون معك، فأنا لا أدعي القوة والمثالية في مواجهة الحياة، أنا أضعف ما يكون عند الوقوع في المشكلة، وربما أكون في أمَسّ الحاجة للمساعدة.
ولكن بعد تخطي المشكلة أخرج منها إنساناً جديداً وكأنني وليد اللحظة، أخلع ثوب الهموم التي ألبستني إياه الحياة لفترة من الزمن، وأقف صامداً وأنفض الغبار عن كتفي، فما مضى لم يعد موجوداً، ولم يترك لي سوى بصمة جديدة، أو وسام أعلقه أمام ناظري، حتى وإن وقعت في مشكلة أخرى أعرف تماماً ما عليّ فعله.
فلقد علَّمتني الحياة عند الوقوع في المشاكل، ليس أمامي سوى خيارين: إما أن أدفن رأسي في الطين كالنعامة، أو أرفعه عالياً إلى قمم الجبال، فالمشاكل هي بمثابة الطرف الآخر في حلبة المصارعة لمواجهته، وحينها عليك أن تكون مدافعاً ذكياً وليس مهاجماً شرساً.
فحل المشكلات يكون بالحكمة والذكاء والصبر، وما تعلمته أيضاً أن أجعل خلاصة مشكلاتي القديمة بمثابة درع، أحصّن بها قلبي وعقلي، حتى أكون أقوى في كل مرة من سابقاتها، وأن تكون خلاصة تجاربي كالحروف الأبجدية، كل مشكلة تتمثل بحرف، أجمعها معاً، حتى أكتب بها مجلداً يحاكي خلاصة تجاربي؛ لتكون مرجعاً لي عند المشكلة القادمة.. نعم، فالحياة لا تتوقف عند مشكلة معينة فهي كالمد والجزر، وعليه يجب أن تكون متأهباً لما سيأتي بعد، وأن تجعل سقف احتمالاتك عالياً جداً حتى لا تُصدم بالواقع، وعلِّم نفسك أن كل شيء متوقع، ويجب أن تكون جاهزاً وقادراً على المواجهة، ولا تتعامل مع مشكلاتك كالرقص على فوهة البركان؛ بل واجهها كرقصة بالية على موسيقى كلاسيكية، بمعنى أن تكون هادئاً إلى حد كبير.
ولا تتخذ من الوحدة والانعزال مسلكاً، فالوحدة طقوس يمارسها العابد والزاهد والمتصوف، ولا يمارسها شخص يواجه الحياة.
إن حياتنا ربما تكون أشبه بعجينة الصلصال الملونة التي كنا نلهو بها في طفولتنا، ونصنع منها ما يحلو لنا من الأشكال، ومن كثرة الضغط عليها تراها تمتزج جميعها، حتى تصبح كتلة واحدة، ولوناً واحداً، وهو اللون الأسود، فنحن تُشكلنا ضغوط الحياة، من إنسان حزين تارة إلى إنسان مرح تارة أخرى، أو إنسان خائف أو قلق أو ضائع، حتى نصبح كتلة من المشاعر الممزوجة، غير واضحة اللون والمعالم، وما يبدو عليها هو خلاصة ما فعله الزمان بقلوبنا، حتى تصبح كالحجر، الذي يكسوه السواد.
أو ربما تكون حياتنا مثل قرص نيوتن الذي يحول جميع ألوان الطيف السبعة إلى اللون الأبيض، نتيجة دوران القرص بشدة.
وأخيراً يا صديقي، فليكن الدوران هي المشاكل التي تحول ألوان حياتك إلى اللون الأبيض بعد مواجهتها، ولا تكن عجينة الصلصال التي تتحول إلى اللون الأسود مع الضغوط.
فقط قرِّر وخذ موقفاً حاسماً، وحاول أن تنظر إلى الحياة من أفق أوسع، ومن منظور آخر، فأنت أضعف ما يكون في مواجهة مشكلاتك، وأقوى ما تتخيل عندما تقرر أن تكون قوياً ومستعداً للمواجهة، حينها قرِّر ألا تشكرني، وقل لنفسك شكراً؛ لأنك قادر.
دعوني أخبركم شيئاً: الصداقة لا تُقدر بثمن، فكم هو رائع أن تشعر أنك صديق جيد، وأن تأتيك رسالة شكر من أكثر من صديق، يُخبرك فيها كم كنت رائعاً بوقوفك معه ودعمك له، وأنك كنت سبباً لتخطيه مشكلته، حينها فقط تعرف قيمة ما فعلته بك خلاصة تجاربك في الحياة، ففي مواجهة مشكلات الحياة كنز ثمين لا نعرف قيمته إلا مع مرور الوقت.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.