فوجئ المصريون يوم الحادي والعشرين من شهر مارس/آذار الحالي بإعلان البنك المركزى المصرى عن خفض قيمة الجنيه المصرى أمام الدولار الأمريكي بنسبة 16%، رغم استمرار تصريحات نفس مسؤولي البنك المركزي السابقة عن قوة الجنيه المصري رغم جائحة كورونا، حتى إنه حقق -حسب تصريحاتهم- أفضل أداء للعملة بين دول العالم عام 2020 رغم آثار الجائحة.
وهو ما كان يقابله المتخصصون بالتندر والسخرية، حيث ظل البنك المركزي المصري يثبت سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار الأمريكي، رغم تتالي الأحداث التي أثرت سلباً على الاقتصاد المصري، ومنها نقص العملات الأجنبية بالبنوك المصرية التجارية، وتحول صافي الأصول والخصوم بالعملات الأجنبية بتلك البنوك إلى "رصيد سالب" بعد حوالي عام ونصف من التعويم في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وذلك لمدة تسعة أشهر متتالية من شهر يوليو/تموز 2018 وحتى مارس/آذار 2019 .
ثم تجدد ذلك العجز بالعملات الأجنبية خلال عام 2020، مع تداعيات جائحة كورونا من شهر مارس/آذار وحتى أغسطس/آب لمدة خمسة أشهر فيما عدا شهر مايو/أيار، ثم تجدد ذلك العجز بصافي العملات الأجنبية بتلك البنوك التجارية، خلال العام الماضي من شهر يوليو/تموز وحتى شهر يناير/كانون الثاني من العام الحالي كآخر بيانات مُعلنة.
الأمر الذي واكبه خروج المستثمرين الأجانب من مشترياتهم لأدوات الدين الحكومي المصري، خلال عدة موجات بالسنوات الأخيرة، تمثلت فى موجة خروج خلال عام 2018 استمرت لمدة تسعة أشهر متصلة من شهر أبريل/نيسان إلى نهاية العام، وتكرر الأمر خلال عام 2019 بشهري أغسطس/آب وأكتوبر/تشرين الأول، كما تكرر بشكل أعنف فى عام 2020 بشهر مارس/آذار مع استمرار الخروج خلال شهري أبريل/نيسان ومايو/أيار.
إدمان القروض
ثم كانت الموجة الرابعة من خروج الاستثمارات الأجنبية بالعام الماضي، والتي استمرت مدة خمسة أشهر، بدأت في فبراير/شباط وحتى أغسطس/آب ثم بالربع الأخير من العام، ليزداد الخروج عنفاً بعد الحرب الروسية بأوكرانيا خلال شهري فبراير/شباط ومارس/آذار الحالي.
وكانت تلك الأحداث تقتضي إحداث خفض بسعر صرف العملة المصرية، مثلما فعلت دول عديدة خاصة بفترة ما بعد ظهور فيروس كورونا، خاصة مع تراجع قيمة الاحتياطيات من النقد الأجنبي بقيمة 5.4 مليار دولار عام 2020 نتيجة التداعيات السلبية لفيروس كورونا على الاقتصاد المصري، وإعلان عدد من المؤسسات الدولية أن العُملة المصرية مقومة بأكثر من قيمتها بنسبة 15- 16%.
لكن السلطة النقدية بمصر ظلت تكرر ادعاءاتها بقوة العملة المصرية، بعد أن لجأت إلى المزيد من القروض الخارجية لمساندة العملة المصرية، وهي القروض التي لم تتوقف فيما قبل وبعد التعويم عام 2016، بل زادت بقيمة 14 مليار دولار عام 2018، وزادت بنحو 16 مليار دولار بعام 2019، ثم بنحو 16.5 مليار دولار عام 2020، ثم بنحو 8 مليارات دولار خلال الشهور التسعة الأولى من العام الماضي حسب آخر بيانات متاحة، نتيجة تأجيل سداد القروض الخليجية لتتخطى 137 مليار دولار.
ومع اتساع مأزق نقص العملات الأجنبية مما يقلل قدرة الحكومة على سداد التكلفة المرتفعة لواردات الغذاء والنفط وباقي الاحتياجات الأساسية، والتي زادت تكلفتها فى أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، لجأ الجنرال المصري لدول الخليج الثلاثة الإمارات والسعودية والكويت للحصول على قروض جديدة، لكنه رغم موافقتها لم تكن قيمة تلك القروض فيما يبدو كافية لمعالجة النقص الحاد بالعملات الأجنبية.
ومع الخروج الحاد للأجانب من أدوات الدين الحكومي المصري، والذي ذكرت مصادر غربية بلوغ قيمته 15 مليار دولار خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة، لجأت مصر إلى صندوق النقد الدولي للاتفاق على برنامج جديد للاقتراض.
لكن الصندوق طلب منها الاستجابة لشروطه، وأبرزها خفض قيمة العملة بنفس النسبة التي ذكرت جهات دولية أنها مقومة بأكثر من قيمتها الحقيقية بها، ورفع سعر الفائدة خاصة بعد رفع البنك الفيدرالي الأمريكي الفائدة، وإعطاء دفعة لبرنامج الخصخصة وخفض الدعم لتقليل العجز بالموازنة الحكومية.
ونفذت مصر غالب المطالب؛ حيث زادت سعر أسطوانات الغاز المنزلية والتجارية، كما خفضت سعر العملة وبدأت فى رفع سعر الفائدة بنسبة 1% كبداية لرفع آخر خلال الشهور القادمة، كما أعلنت عن بيع بعض الأصول لصندوق أبوظبي السيادي.
مع التجهيز لطرح أسهم شركات حكومية بالبورصة، مما يهيّئ المجال للإعلان رسمياً من قِبَل الحكومة والصندوق عن السعي لبرنامج جديد مع الصندوق قالت بعض المصادر أن قيمة الإقراض به ستكون حوالى 10 مليارات دولار.
عوامل إضافية لموجة الغلاء
وهنا تلقت الأسواق المصرية ضربة إضافية لمعاناتها من التضخم المستورد والذي زادت حدته خلال النصف الثاني من العام الماضي، وطال الغذاء والطاقة والمعادن وغيرها.
التضخم الذي زادت حدته مع اندلاع الحوب الروسية الأوكرانية فى ضوء استيراد غالب الحبوب من الدولتين، خاصة القمح والذرة، مما انعكس على أسعار الخبز غير المدعم التى زادت بنسبة 50%.
ارتفاع أسعار المنتجات الحيوانية كالماشية والدواجن والأسماك والتي تعتمد على الذرة وفول الصويا كمكونين رئيسيين بصناعة الأعلاف، حتى طال الأمر إنتاج البيض والذي يمثل مصدر "البروتين" الأساسي لدى غالبية الشعب المصري.
وجاء خفض سعر صرف الجنيه بنسبة 16% ليزيد من الأعباء على المستوردين وعلى الشركات الصناعية التى تستورد جانباً كبيراً من مستلزمات الإنتاج، وكذلك على القطاع الزراعي الذي يعتمد على الخارج في جلب المستلزمات الزراعية، ثم زيادة الأعباء برفع سعر الفائدة مما يزيد تكلفة الاقتراض على المستوردين والشركات، فى ضوء التشديد الحكومي على وسائل الدفع للإستيراد وقصرها على الاعتمادات المستندية التي تتطلب دفع كامل قيمة الشحنة مسبقاً.
ليعم ارتفاع الأسعار الأسواق بداية من الوجبة الشعبية المتمثلة فى ساندويتش الفول والطعمية التى تستخدم القمح والفول والزيت المستورد، وكذلك المكرونة والمخبوزات، ويمتد التأثير على باقى السلع الغذائية حتى التى يتم إنتاج النصيب الأكبر من استهلاكها محلياً مثل الأرز والسكر، وبالطبع طال الأثر الأجهزة المنزلية والمعادن والمنتجات المعدنية خاصة الألومنيوم والنيكل والحديد، والسيارات سواء المحلية أو المستوردة والذهب والمشغولات الذهبية والأخشاب والمنتجات الخشبية.
وامتد الى صناعة المنتجات الجلدية ومواد البناء خاصة الأسمنت الذى يعتمد على الفحم كوقود أساسي، وكذلك حديد التسليح الذى وصلت أسعاره لأرقام قياسية، مما دفع شركات التطوير العقاري لرفع أسعار وحداتها السكنية والتجارية.
توقعات بتخطِّي معدلات تضخم 2017
وينتظر أن تشتد معدلات زيادات الأسعار بعد وصول السلع المستوردة بالأسعار المرتفعة، وتوقع زيادة أسعار المنتجات البترولية ببداية الشهر القادم استجابة لمطلب الصندوق، وكذلك مشاركة قطاع الخدمات فى رفع الأسعار؛ حيث ينتظر أصحاب المهن الحرة قليلاً حتى تتضح ملامح الفورة السعرية ثم يرفعون أسعار خدماتهم، بداية من السباك والكهربائي والميكانيكي وغيرهم من أصحاب الحرف، وكذلك الأطباء والمحامين والمحاسبين وغيرهم.
وإذا كانت معدلات التضخم المصرية الرسمية فيما بعد ثلاثة أشهر من التعويم للعملة المصرية فى نوفمبر/تشرين الثاني 2016، قد تخطت نسبة 30% لمدة تسعة أشهر متواصلة فيما بين شهري فبراير/شباط وحتى أكتوبر/تشرين الأول 2017، فإن البعض يتوقع أن تكون معدلات التضخم الواقعية وليس الرسمية التي يتم التحكم فيها إدارياً، أعلى مما حدث عام 2017 عقب التعويم للعملة المصرية.
حيث زادت الأسعار العالمية حالياً وكذلك أسعار الطاقة وأسعار الشحن، والاضطرابات في سلاسل التوريد العالمية ورسوم العبور بقناة السويس بالمقارنة لما حدث عام 2017، والتي اقتصر خلالها سبب التضخم المرتفع على تعويم الجنيه المصرى وزيادة سعر الفائدة بالبنوك إلى جانب الحرب الروسية- الأوكرانية الحالية التى لم يتحدد بعد مصيرها وموعد توقفها ومدى تأثيرها الاقتصادي الدولي.
ورغم إعلان الحكومة عن رفع أجور العاملين بالحكومة بنسبة 8% من الأجر الشامل، الذي يضم الأجر الأساسي والأجر المتغير للخاضعين لقانون الخدمة المدنية، وبنسبة 15% من الأجر الأساسي لغير الخاضعين لقانون الخدمة المدنية وبنسبة 13% لأصحاب المعاشات، فقد أشارت بيانات جهاز الإحصاء الرسمي والذي لا تحظى بياناته عن الأسعار بمصداقية سواء لدى الخبراء أو الجمهور، أن نسبة التضخم بأسعار الغذاء بلغت أكثر من 20 % خلال شهر فبراير/شباط الماضي.
وإذا كانت الحكومة قد قررت زيادة المعاشات الحكومية بنسبة 13%، فإن هناك شرائح أخرى من أصحاب المعاشات لم يلحقها التغيير منذ عامي 2014 و2015، وهى معاشات التضامن الاجتماعي ومعاشات "تكافل وكرامة" والتي تقل قيمتها الشهرية للأسرة عن معدل خط الفقر للفرد الواحد المعلن والبالغ 857 جنيهاً شهرياً، والذي تفترض السلطات أنه يغطي الاحتياجات الأساسية من الغذاء والشراب والملابس والسكن والمرافق والصحة والتعليم.
ومعدل خط الفقر المدقع المعلن في مارس/آذار عام 2020 والذى يفترض أن يغطى نفقات الطعام والبالغ 550 جنيهاً شهرياً، والذي زادت قيمته بالطبع حالياً في ظل زيادة أسعار الغذاء، بينما ما زالت قيمة معاش التضامن الاجتماعي الشهري تتراوح بين 325 جنيهاً للفرد و450 جنيهاً للأسرة المكونة من أربعة أفراد فأكثر، ومعاش "تكافل وكرامة" الشهري لكبار السن غير القادرين على العمل وللمعاقين 450 جنيهاً، مما سيزيد من معدلات الفقر والمعاناة لدى فئات عديدة من المصريين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.