انبعثت المادية من جديد مع كارل ماركس، وهي في الأصل امتداد لتعاليم الماديين (الفيزيوقراطيين) الفرنسيين في نهاية القرن الثامن عشر، فماركس مزج بين أفكار الفيزيوقراطيين والاتجاه الحديث، خصوصاً مكتسبات المنهج الهيجلي* الديالكتيكي (الجدلي)، أي دراسة الظواهر في تطورها وفي نشأتها وزوالها، وكان كارل ماركس هو الذي يمثل هذا الاتجاه الجديد، وتعود الكتابات الأولى لماركس إلى سنة 1840، ومنذ تلك الفترة كثرت كتاباته كمؤرخ وفيلسوف واقتصادي وعالم اجتماع، وكداع للاشتراكية إلى حدود وفاته سنة 1883.
تعتبر البنية التحتية (القاعدة الاقتصادية، قوى وعلاقات الإنتاج) هي نقطة الانطلاق في التحليل الماركسي، فماركس يميز في التاريخ البشري بين أربعة أنماط إنتاج مختلفة، أي أربعة نماذج من البنية التحتية: نمط الإنتاج القديم (العبودي)، والإقطاعي (القنانة)، والبرجوازي (العمل المأجور)، ونمط الإنتاج الآسيوي.
فالانتقال من نمط إنتاج إلى نمط آخر يحدث بسبب التعارض الذي يحدث بين الطبقات، فالطبقة الجديدة التي في حالة التكون لكي تنجح، عليها أن تواجه الطبقة التي كانت سابقاً مسيطرة. لم يستخدم في كتاباته التاريخية تفرعات ثنائية بسيطة فقط، بل اعتمد على تفرعات متعددة، ففي كتابه "صراع الطبقات في فرنسا" ميّز في المجتمع الفرنسي في تلك الحقبة بين البورجوازية المالية والبرجوازية التجارية، والبورجوازية الصناعية، والبورجوازية الصغيرة والطبقة الفلاحية، وطبقة البروليتاريا وطبقة البروليتاريا الرثة، ما يوحي بأن التعارضات الأساسية الثنائية المكتشفة لدى دراسة أنماط الإنتاج قد لا تكفي لتعريف الطبقات.
في كتابات ماركس غالباً ما يتحدث عن مفهوم "الطبقة بذاتها" (مثل الفلاحين) ومفهوم "الطبقة لذاتها" (مثل البروليتاريا في حالة صراع)، يقول يانيك لوميل في كتابه "الطبقات الاجتماعية": "لم يوسع ماركس بشكل كاف تحليل العلاقات التي بإمكانها أن تقوم بين المفهومين"، يضيف ماكس فيبر لمفهومي ماركس دور الوعي في تعيين الطبقات، بل في وجودها ذاته، وفي تعبيرها عن ذاتها وبروزها إلى السطح الاجتماعي، ومن هنا التمييز بين الطبقة لذاتها والطبقة بذاتها، واعتبار الفيصل بينهما هو وعي الطبقة لذاتها، حيث "إن الوعي الطبقي يتجلى أكثر ما يتجلى عند منعطفات تاريخية تشهد تغيراً تقنياً هاماً أو تحولاً اجتماعياً كبيراً".
ويعتبر ماكس فيبر من أهم الفلاسفة في العصر الحديث، فقد حاول فيبر بناء أدوات تحليلية ووصفية للمجتمعات وتاريخها، ففي كتابه "الاقتصاد والمجتمع" توقف فيبر على أشكال التجمعات التي يمكن أن نجدها في المجتمعات، وقد خصص فصلين تمهيديين للتجمعات القائمة على المصلحة المادية من جهة والسلطة من جهة ثانية، وهناك مبدأ ثالث أقل جلاء وهو "الفئات". يعرف ماكس فيبر "الطبقات" بأنها تجمعات أو تجميعات أشخاص يشتركون في الوضعية نفسها بالنسبة لأسواق العمل والسلع الاقتصادية. فهو يعرفها بالاستناد بشكل دقيق إلى النظام الماركسي، بالإضافة إلى ذلك فهو يؤكد أن وجود الطبقات لا يكفي لإحداث أفعال طبقية.
يفسر فيبر أنه إلى جانب مجتمعات الطبقات هناك مجتمعات "الفئات"، التي تضم أفراداً يطالبون وينجحون في الحصول على "تقدير خاص" وعلى احترام الآخرين. ويقدم أمثلة عديدة عنها: مرافقي ملوك الميروفنجيين، أتباع الملك الأحرار في عصر الإقطاع، بل وفي بعض الأحيان الأقنان الذين هم في خدمة الملك. وهذه التجمعات من الأشخاص تتشكل على قاعدة المعتقدات المشتركة بنبل أوضاعهم، وهذه التجمعات تنحو للمحافظة على ذاتها عن طريق سَن قواعد للزواج والدخول إلى الفئة (الجماعة).
وتسعى هذه الفئات إلى تحويل التقدير الخاص الذي تحصل عليه إلى مصادر مكاسب أو سيطرة. ويرى فيبر أن التقسيمات الطبقية لا تُستمد من السيطرة أو غياب وسائل الإنتاج فحسب، بل تشمل أيضاً فوارق اقتصادية لا علاقة لها مباشرة بالملكية، وتشمل هذه الموارد بصورة خاصة المهارات والخبرات أو المؤهلات التي تؤثر على أنواع العمل التي يستطيع الناس القيام بها.
وفي النهاية، يقول أنتوني غدنز "لقد أسهمت كتابات فيبر إسهاماً كبيراً ومهماً في فَهم التَّراتُب الاجتماعي، لأنها أبرزت أبعاداً أخرى تؤثر في حياة الناس وتوجهاتهم ومواقفهم السلوكية الخاصة والعامة، بالإضافة إلى العامل الطبقي الذي عزاه ماركس إلى الموارد الاقتصادية وحدها، ومع إقرار أغلبية علماء الاجتماع بما أسهمت به المقاربات الماركسية لفهم الحياة الاجتماعية، فإنهم يرون أن النظرة الفيبرية تطرح موقفاً نظرياً أكثر مرونة وتقدماً لتحليل هيكلية التراتب الاجتماعي".
*المنهج الهيجلي يقوم في جوهره على التطور، أي هو نتيجة صراع المتناقضات (الديالكتيك)، على أساس أن كل ظاهرة تحتوي تناقضاً داخلياً يدفعها إلى الأمام، ويؤدي بها آخر الأمر إلى تحطُّمها، وتحولها إلى شيء آخر.
المراجع:
[1] بليخانوف بيلتوف، "في تطور النظرة الواحدية إلى التاريخ"، (الترجمة إلى اللغة العربية: دار التقدم، طبع في الاتحاد السوفييتي، موسكو 1981).
[2] يانيك لوميل، "الطبقات الاجتماعية"، ترجمة د. جورجيت الحداد، الطبعة 1، (دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت- لبنان 2008).
[3] فوازي طرابلسي، "الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان"، الطبعة 1، (دار الساقي، بيروت- لبنان 2016).
[4] أنتوني غدنز، "علم الاجتماع، ترجمة وتقديم: فايز الصياغ، الطبعة الرابعة، (المنظمة العربية للترجمة، بيروت، تشرين الأول 2005)، ص349.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.