أعلنت السلطات العليا في إسبانيا بشكل مفاجئ، يوم الجمعة 18 مارس/آذار، دعمها لخطة "الحكم الذاتي" المغربية لتسوية النزاع في الصحراء الغربية.
بدا هذا الإعلان كخطوة جديدة في موقف مدريد من القضية الصحراوية، في ظل عالم منقسم، يعاين تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية الجيوسياسية، والجيو-اقتصادية، على المنطقة المغاربية من جهة، وعلى أوروبا الجنوبية من جهة ثانية.
يعد هذا التحول "التكتيكي" في موقف إسبانيا من ملف الصحراء الغربية الشائك، وهي المستعمر السابق للأراضي الصحراوية، التي دعمت في بداية النزاع حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير، قبل دعم خطة الأمم المتحدة لتسوية النزاع، والذي أصبح عاملاً لضرب أي مشروع تكاملي لتنمية واستقرار الدول المغاربية، بل صار عنصراً معرقلاً لمسار حلم الشعوب المغاربية، في بناء اتحاد المغرب العربي، هذا الحلم الشعبي القديم لأبناء المنطقة بات كابوساً، نتجت عنه معادلة التوتر الدائم بين الجزائر والمغرب، حول إيجاد حل عادل لقضية الشعب الصحراوي.
ورقة الصحراء بين الاستفزاز والإملاءات
دخول إسبانيا هذه المرة على الخط بجرأة "ترامبية"، عندما ذهبت واشنطن في خريف عام 2020 بالاعتراف بالسيادة المغربية على الأراضي الصحراوية المحتلة، مقابل تطبيع المغرب مع دولة الكيان الصهيوني، والدفع بتقارب استراتيجي مُعلن بين دولة المغرب ودولة الكيان الصهيوني. الذي زاد من حدة التصعيد بين الجزائر والمغرب من جهة وتحويل ملف الصحراء الغربية من ملف مُجمّد إلى جبل جليد. جاء إعلان بيان للديوان الملكي المغربي أشار فيه إلى رسالة وصلت من رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، معتبراً أن مبادرة الحكم الذاتي المغربية المقترحة للإقليم المتنازع عليه هي بمثابة الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف.
يقترح المغرب منح الصحراء الغربية التي يسيطر على نحو 80% من مساحتها، حكماً ذاتياً تحت سيادته لحل النزاع. بينما تطالب جبهة البوليساريو، الممثل الشرعي للشعب الصحراوي بإجراء استفتاء لتقرير مصير الإقليم. وكان في أغسطس/آب الماضي، أعلنت الجزائر قطع علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب، جراء ما اعتبرته الجزائر سلسلة مواقف وتوجهات عدائية، قبل أن تعلن عن إغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات المدنية والعسكرية المغربية، في سبتمبر/أيلول 2021.
يجب وضع إعلان مدريد عن دعمها لطرح المغرب لعام 2007، حيث قدم المغرب للأمين العام للأمم المتحدة المبادرة المغربيـة للتفاوض، بشأن نظام للحكم الذاتي في الصحراء. وفي 18 يونيو/حزيران وافق المغرب والبوليساريو على عقد مفاوضات مباشرة نُظِّمت لاحقاً في نيويورك تحت إشراف الأمم المتحدة.
تعد رسالة الوزير الأول الإسباني للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قبل أسبوعين، وحراك الدبلوماسية الإيطالية، ودفع العلاقات الجزائرية-الإيطالية، بالشراكة الاستراتيجية، وخاصة في ملف النفط والغاز، أحد ألغاز معضلة الصحراء المغربية في معادلة الأزمة الروسية-الأوكرانية، لمحاولة جرّ الجزائر إلى تصعيد مع إسبانيا هي الآن بغنى عليه، كما أنها في موقف جعل موقعها وتموضعها في تعاطيها مع الملفات الدولية تُحسد عليه في ظل الوضع الدولي والعربي والإفريقي الراهن.
اعتبرت الجزائر إعلان قرار مدريد أنه "خيانة ثانية" للشعب الصحراوي، بعد اتفاق تقسيم الصحراء الغربية، الموقّع في مدريد عام 1975، قبل أشهر قليلة من خروج المحتل الإسباني، في فبراير/شباط 1976. وقد تم استدعاء السفير الجزائري في مدريد للتشاور. ويرجح محللو الشأن المغاربي أن يطول بقاء السفير الجزائري في الجزائر، قبل أن يعود لمنصبه، على غِرار ما حدث مع سفير الجزائر في باريس، في خريف العام الماضى، إثر تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاستعلائية عن تاريخ الأمة الجزائرية.
علماً أن الجزائر ليست طرفاً في النزاع القائم بين المغرب ومنظمة البوليساريو، وموقفها كان دائماً الدفاع عن حق الشعب الصحراوي في ممارسة حقه في تقرير المصير، وفقاً للشرعية الدولية، ولا سيما قرارات الأمم المتحدة. علاوة على ذلك لطالما عرفت العلاقات الجزائرية-الإسبانية مرحلة هادئة، بل حتى إنها كيّفت بالمميزة خلال العقود الثلاثة الماضية، علاقات شراكة متينة بين البلدين، إذن ما سبب هذا التحول المفاجئ في الموقف الإسباني، هل استسلمت فعلاً مدريد أمام ورقة المهاجرين غير الشرعيين على شواطئ سبتة ومليلية؟ أم الدفع بها من قبل واشنطن وبروكسل للضغط على الجزائر في ملف تعويض الغاز الروسي بالجزائري؟
هذا ما يكشف عن أن قضية الصحراء الغربية هي رهينة حسابات دولية وإقليمية، اتخذتها الحكومة الاشتراكية الحاكمة في مدريد لتركيع الجزائر، باتخاذ الخطوة التي لم تجرؤ حكومات يمينية على اتخاذها لأكثر من 45 عاماً لنزاع الصحراء الغربية. وعرف المناضلون الاشتراكيون الإسبان الملاذ والمساعدات في الجزائر، في عهد العتبة الديكتاتورية في الستينيات، والنصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، كما وقفت الجزائر في الثمانينيات إلى جانب مدريد، التي كانت تواجه حركات انفصالية في إقليم الباسك وجزر الكناري، ودخول إسبانيا عهداً ديمقراطياً جديداً، عندها اتخذ الرئيس الشاذلي بن جديد قراراً بطرد ممثلي هذه المنظمات من الجزائر.
رضوخ مدريد أم هفوة في سوء تقدير موقفها؟
إذا كان رضوخ مدريد لابتزاز الرباط بعدم قدرتها وأوروبا معها على احتواء تدفقات الهجرة غير الشرعية؛ الجزائر هي الأخرى أصبحت باب عبور بلد واستقبال آلاف المهاجرين غير الشرعيين من دول الساحل الإفريقي على أراضيها، وهذا منذ سنوات، مقارنة بجميع بلدان المغرب العربي، بالعكس هي الآن تسعى لإيجاد سياسة عامة ناجعة للهجرة غير الشرعية، تعمل مع منظمات غير حكومية محلية ومنظمات المجتمع المدني، وفقاً للقانون الدولي الإنساني والمعاهدات الدولية على تقديم الحماية والمساعدة لهؤلاء الفارين من الحروب والفقر.
فالجزائر بالمقابل تلعب ورقة الغاز، التي أصبحت ورقةً وجوديةً في ملف العلاقات الدولية، تبقى الجزائر مورداً موثوقاً للغاز إلى إسبانيا. بفضل عمليات التسليم من الجزائر عبر أنابيب الغاز المغاربية-الأوروبية (GME) وMedgaz، أصبحت إسبانيا بلد عبور مهماً لهذه الطاقة لأوروبا. إضافة إلى ذلك العقود العديدة التي حصلت عليها الشركات الإسبانية في صناعة البناء في الجزائر خلال العقدين الأخيرين. عندها اتخذت مدريد قرار الطرح المغربي لنزاع الصحراء الغربية، لأنه سوف يؤدي بها إلى بلوغ عواقب اقتصادية وخيمة على الاقتصاد الإسباني، وهي لا تزال تتعافى من التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لجائحة كوفيد-19.
كما أن الجزائر ليس لديها ما تخسره بخصوص القرار الإسباني، الجزائر لديها بديل الواجهة الشرقية، زيارة وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو للجزائر الأخيرة بالتزامن مع مخاوف أوروبا لتوقف صادرات الغاز الروسي، وأعلن المسؤولون الجزائريون أن تموين السوق الأوروبي يتم عبر شبكة الأنابيب التي تتوفر على طاقة دفع تقدر بـ42 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي والغاز المسال، بفضل طاقة إنتاج تتجاوز 50 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال وأسطول مكون من 6 ناقلات. وهو ما أعطى دلالة على أن زيارة وزير الخارجية الإيطالي المفاجئة هدفها البحث عن منفذ بديل من الجزائر، لاحتمال توقف صادرات الغاز الروسية نحو أوروبا.
ويضاف إلى ذلك أن الجزائر مرتبطة مع دول الاتحاد الأوروبي بعقود متوسطة وطويلة المدى، بعد مفاوضات شاقة استغرقت نحو 4 سنوات، خصوصاً مع روما ومدريد. كون الجزائر اليوم بإمكانها مطالبة مدريد بمراجعة أسعار الغاز التي تعتمدها لها، خاصة أن العقد ينتهي سنة 2030، ومقابل ذلك تعمل الجزائر على تقوية وتعزيز شراكتها مع إيطاليا، وهي التي استثمرت 1.4 مليار دولار في مجال الطاقة بالجزائر، ما يجعل إيطاليا بوابة الغاز لأوروبا، في الوقت الذي يسعى الوزير الأول الإسباني بيدرو سانشيز لأن تكون إسبانيا بوابة الغاز لأوروبا، لكن بقراره الأخير أخطأ في تقديره للموقف الجزائري.
سياسة المساومة
تشهد الدبلوماسية الجزائرية اليوم قفزة نوعية في تغيير محددات سياستها الخارجية، وبالتالي لها القدرات اللازمة لتصبح مركزاً إقليمياً في الأمن الطاقوي لدول أوروبا الغربية المتوسطية، لتزويدها بجزء كبير من الغاز، لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي، حيث طمأنت الجزائر إسبانيا بشأن استمرارية إمداداتها، ما سمح لإسبانيا بأن تكون في وضع أكثر راحة، مقارنة بالدول الأخرى في أوروبا، بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا.
الجزائر تبقى شريكاً موثوقاً، وتفي بالتزاماتها الدولية، وترفض أن تكون طرفاً في حرب الطاقة بين روسيا والغرب، غير أن تُجر لهذه المعركة عبر تحريك أوراق الابتزاز والمساومة من بوابة الجنوب الأوروبي، بسبب عقيدة دبلوماسيتها المساندة للقضايا العادلة كقضية الصحراء الغربية والقضية الفلسطينية، وما قامت به مؤخراً في القمة الإفريقية مع ست دول إفريقية في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بمنع دولة الكيان الصهيوني من صفة عضو مراقب.
يبقى ملف الصحراء الغربية ملفاً دولياً، حيث كل المنظمات الدولية من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي ومحكمة العدل الدولية ومحكمة العدل الأوروبية وكل المنظمات الإقليمية والقارية لا تعترف جميعها بأي سيادة للمغرب على الصحراء الغربية. وجاء رد الأمم المتحدة بالرفض لإعلان الحكومة الإسبانية عن دعمها لخطة الحكم الذاتي المغربية، كحلّ للنزاع حول الصحراء الغربية، الذي تحول إلى لغز في بئر غاز.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.