منذ قيام الرئيس التونسي قيس سعيّد بتعليق أنشطة البرلمان وتعطيله لأحكام الدستور تواترت هجماته الشديدة على معارضيه، وخص حزب حركة النهضة باتهامات عديدة وتهديدات لم تتجاوز التحريض والوعيد إلا في حالة وحيدة شهدتها صبيحة اليوم الأخير من العام الماضي، حين قام رجال أمن بزي مدني باختطاف نائب رئيس حركة النهضة ونقله إلى مكان مجهول تبين لاحقاً أنه مركز تكوين فلاحي مهجور في غابة تقع في ولاية بنزرت الساحلية.
وقد أثار الإفراج عن الأستاذ البحيري جدلاً لا يقل عن ذلك الذي أثارته ملابسات اختطافه، فقد تداولت مواقع التواصل صورة له تظهره في شكل يختلف عما عهده من يتابعون الشأن التونسي؛ إذ بدا شديد الشحوب تغطي وجهه لحية بيضاء طويلة وعيناه مغمضتان تعكسان حالة تقارب الإغماء بعد أكثر من شهرين من الإضراب عن الطعام.
وكانت الساعات التي سبقت الإفراج عنه قد شهدت انتشار شائعات قوية حول وفاته، يحيط غموض كبير بمن يقف وراء إطلاقها وترويجها.
وقد تعددت التفسيرات لخلفيات قرار الإفراج، ولكن الأكيد أن العامل الرئيسي وراءه هو تدهور الوضع الصحي للأستاذ البحيري والمطالبات الداخلية والدولية بوضع حد لاحتجازه التعسفي، وخاصة الشهادتين الصادمتين لطبيبين تمكنا من زيارته في اليوم السابق للإفراج عنه وأطلقا صيحة فزع بعد معاينتهما للتردي الخطير لحالته الصحية؛ مما قد يكون الدافع وراء إرسال وزارة الداخلية لطبيب من العاصمة عشية الإفراج عنه قام بإعداد تقرير مفصل عن وضعه الصحي.
ولكن ما أدخل البلبلة هو بلاغ وزارة الداخلية الذي ربط بين قرار الإفراج وبين تركيز المجلس الأعلى "المؤقت المعين" للقضاء، الذي تم تشكيله بعد حل المجلس الأعلى للقضاء، والحال أن صلاحيات المجلس المعين وحتى سلفه المنتخب لا تسمح بالتدخل في قضايا المواطنين، سواء من حيث إثارة التتبع أو إصدار البطاقات القضائية أو تكييف الوقائع وإصدار الأحكام.
وتفيد معلومات متناثرة هنا وهناك بأن أعضاء المجلس المعين عبروا في دوائر ضيقة عن امتعاضهم الشديد من الربط بين تنصيبهم وبين قرار الإفراج، بما يوحي بأنهم أكثر قابلية لتنفيذ تعليمات السلطة التنفيذية من سابقيهم.
ولكن أصبح من شبه الأكيد أن اعتقال البحيري يعود لسببين: التخوف من مساهمته في إذكاء المظاهرات الرافضة للانقلاب باعتباره مسؤولاً عن الشأن الداخلي لحركة النهضة، وخاصة الحرص على تحييده طيلة المدة التي تستغرقها حملة قيس سعيّد على القضاء- والتي انتهت بحل المجلس المنتخب المشرف عليه- تخوفاً مما ترسخ في الأذهان من روايات حول نفوذه الواسع داخل قطاع القضاء وعلاقاته الواسعة بالقضاة.
وتفيد مصادر قضائية بأن البحيري ليس معنياً بما أشار له وزير الداخلية في ندوته الصحفية في بداية شهر كانون الثاني/يناير الماضي وردت عليه النيابة العمومية لاحقاً وتبين بمراجعة قاضي التحقيق المتعهد بالملف أن الأمر يتعلق بملابسات تجديد جوازي سفر كل من يوسف ندا (مفوض العلاقات الخارجية السابق لحركة الإخوان المسلمين) وغالب همت (صهر نجل رئيس حركة النهضة)، وقد تم الاستماع لمجموعة من الأشخاص ولم يتبين وجود فعل مجرم، خاصة أن الشخصيتين قد تحصلتا على جواز السفر التونسي منذ عقود إبان حكم الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة.
الطريف هو أن كل ما بقي بعد انجلاء الغبار عن الضجة الكبيرة التي أحدثها اختطاف البحيري ثم الإفراج عنه بعد 67 يوماً (دون أن يعلم أحد لِمَ اختُطٍف ولِمَ أُفرِج عنه) قضيتان.
القضية الأولى أثارت من السخرية أكثر مما أثارت من الاهتمام وتعنيه بصفته متضررا. وانطلقت إثر شكاية قدمها شخص طلب إخفاء هويته واتهم فيها شخصيات من حركة النهضة بمحاولة "اغتيال البحيري"!.
وباشرت فرقة أمنية الأبحاث واستمعت لحد الآن لقيادييْن من حركة النهضة ولا شك أن شكايةً بتهمة تضليل العدالة والادعاء بالباطل ستُقدم ضد هذا المبلغ بمجرد ختم الأبحاث فيها.
القضية الثانية فهي التي يتعهد بها مكتب التحقيق الواحد والعشرون وتتعلق بملابسات تسليم الوزير الأول الأسبق في نظام القذافي البغدادي المحمودي للسلطات الليبية بعد ثورة فبراير/شباط 2011، وتمت دعوة البحيري للاستماع إليه (بعد تعافيه) بصفته شاهداً، بعد أن تم الاستماع لكل من الرئيس الأسبق للجمهورية فؤاد المبزع ورئيس الحكومة الأسبق حمادي الجبالي ووزير الدفاع الأسبق (والمرشح لرئاسيات 2019) عبد الكريم الزبيدي وقائد الأركان السابق رشيد عمار، وتعذر الاستماع للرئيس الأسبق منصف المرزوقي الموجود خارج البلاد والمحكوم عليه بأربعة أعوام سجناً مع النفاذ العاجل بتهمة الاعتداء على أمن الدولة الخارجي!
الثابت أن حساب الربح والخسارة ليس في صالح مَن قرر الاحتجاز ولا من نفذه، ففضلاً عن الحملة السياسية والحقوقية ضدهما تنديداً بالاختطاف، والشكايات الجزائية والحقوقية أمام القضاء الوطني، وأمام الهيئات والآليات الدولية والأممية المعنية بالإخفاء القسري والاحتجاز التعسفي فقد كانت التظاهرات المسانِدة له والمطالبة بإنهاء احتجازه فرصة التقى فيها قادة أحزاب طالما فرقتهم إكراهات الواقع السياسي، فاستغلوها للنظر في إمكانات العمل المشترك لمواجهة سياسات سعيد وبداية التفكير في ملامح المرحلة القادمة.
كثير من الهزات الارتدادية خلفها إيقاف البحيري ثم الإفراج عنه، وطالت خاصة قطاع المحاماة؛ حيث تعمق الشرخ بين الأعداد الكبيرة من المحامين المناصرين للحقوق والحريات والمناهضين لإجراءات سعيّد وهياكل المهنة وعلى رأسها العميد الذي جاهر بمساندته للرئيس وإجراءاته ولم يُبد حماساً في الدفاع عن زميليه البحيري والكيماوي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.