كثيراً، طالب الرئيس المصري، خاصة في بدايات عهده، الإعلام بأن يسانده بأدواته وإمكانياته والكوادر التي يحويها بما يتناسب مع قوة الحرب الإعلامية والتكنولوجية الحالية، على حد تعبيره.
وكانت الآلية التي أراد الرئيس من إعلامه أن يتبعها هي أن يتوحد الهدف وتتحدد أولويات الخطاب في إطار استراتيجية واضحة المعالم تستهدف توظيف كافة وسائل الإعلام بالسرعة المطلوبة لضمان سرعة التفاعل مع الأحداث والقضاء على كل ما قد يسبب أزمات تثير الرأي العام.
"التهويل والتهوين" هي استراتيجية إعلامية معروفة ومعتادة في التضليل الإعلامي، فالمقصود بالتهويل هو افتعال اهتمام بحدث وإبرازه واستخدام كلمات مبالغ فيها للإيهام بأهميته على الرغم من عدم تناسبه مع قيمته، والتهوين يتعمد عرض الموضوع بصور تقلل من قيمة آثاره الحقيقية.
تلك الثنائية كثيراً ما يستخدمها الإعلام المصري الرسمي وغير الرسمي، فافتتاح متحف أو تجديد طريق رغم أن ما يمسه حقيقةً هو مصالح فئة معينة من المجتمع وليست كلها إلا أنه يقابل باحتفاء كبير والكثير من الجوق والطبول، ولكن غلاء السلع الغذائية والاستراتيجية التي تمس مصالح المجتمع المصري كافة، يقابلها خطاب داعٍ للتقشف وكأنه أمر سهل، أو خطاب يدعو إلى "عدم استخدام البيض الأورجانيك" و"صنع الخبز داخل البيت" بدلاً من شرائه، وكأن معدات تكلفة الفرن في المنزل، ومؤن الخبز، لا تكلف سوى حفنة من الجنيهات.
إعلام الجمهورية الجديدة
تتمثل قوة الإعلام بشكل عام في قدرته على الاستحواذ على مزيد من القوة لجمع المعلومات المتعلقة بمختلف نواحي الحياة، والقدرة على تحليلها، وأحياناً التلاعب بها، وآفة ذلك للمتلقي في الجمهورية المصرية الجديدة هو أنه يتعرض للكثير من التضليل والاستفزاز بشكل يومي.
إلا أن تلك الآفة تعد ميزة كبيرة جداً حيث إن تلك القوة الإعلامية تتركز في أيدي مجموعة من الشركات التجارية التي تهيمن عليها نخبة متعاونة من رجال الأعمال والإعلاميين وفي الخلفية تمتلكها أجهزة سيادية تابعة للدولة، ويمول بعضها مجموعة من الدول الخليجية التي تتقاطع مصالحها مع مصالح النظام في مصر، إنه تحالف شبه "كومبرادوري". والمصطلح الأخير يشير إلى تاجر في بلد فقير، يعمل سمساراً يتوسط في إبرام الصفقات مع الأجانب، ويستغل معرفته بالظروف المحلية واتصالاته مع التجار الأجانب لتحقيق أرباح هائلة لنفسه.
وبمرور السنوات تتغول الشركات وتقوم شركة بشراء الأخرى، ما يجعل فئة المالكين والمديرين التي تقوم بإدارة مؤسسات الإعلام وتتحكم في صياغة الرسالة الإعلامية تصغر يوماً بعد يوماً، وتتركز في أيدي شركة واحدة تقريباً كحال "الشركة المتحدة" في الإعلام المصري، ويؤدي هذا إلى تقليص حجم النخبة الإعلامية وحصر وجهة نظرها ضمن مجال ضيق ومشوّه، بينما تحاول التأثير في قطاعات مختلفة من المجتمع، وتفرض وجهة نظرها هذه عليها.
إن تلك الشبكة المعقدة كان ليكون تأثيرها في المجتمع أقل بكثير خصوصاً مع ظهور الإعلام البديل في عصر السوشيال ميديا ومنصاتها، ولكن حرية الإعلام البديل بحد ذاتها دخلت مرحلة التراجع و"الاحتواء الدولتي" بسبب توجه شركات الإعلام إلى الاندماج مع شركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وقيام الشركات الإعلامية والمعلوماتية الكبرى بشراء شركات الإنترنت صغيرة الحجم وضمها إلى الإمبراطورية التجارية الكبرى التي تتحكم في الرسالة، فأصبحت الرسالة القومية تصل إلى منابر جديدة لتطرح وجهات نظرها، وهذه قدرة من قدرات الدولة وتحالفاتها على الشراء والاحتواء، والتي إن فشلت فهي تلجأ للحجب والمنع.
بما يتسق مع دعوة الرئيس المصري في أكثر من مرة المجتمع الدولة لحجب المواقع التي تتبنى وجهات نظر الإرهاب في إطار الحرب الدولية على الإرهاب، وبذلك الستار، حجبت الكثير من مواقع الإعلام البديل داخل مصر التي تتبنى وجهات نظر يصنفها النظام كإرهابية.
كانت المشكلة التي واجهت نظام مبارك في مصر، والتي سمح بحدوثها مجبراً بسبب الكثير من الضغوط الأمريكية والدولية على نظامه، هي انفجار الفضائيات العربية، ثم ثورة الإنترنت المعلوماتية، أي تعدد المصادر البديلة عن التليفزيون الحكومي والصحافة القومية وبعض من صحف المعارضة، وما صاحب ذلك من ظهور نخبة إعلامية خارج حظيرة النظام قادرة على انتقاد الحكومة والنظام دون المساس بالرئيس والجيش بطبيعة الحال.
لكنها ساعدت كثيراً في تشكيل وبلورة وعي حقيقي للفقراء والمهمشين بقضاياهم، وساعدت في تثويرهم أحياناً، تلك المشكلة لم يواجهها النظام الحالي في مصر الذي وُلد من ذلك المخاض الواسع من الحرية وخاصًة بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني، وكان عنده الوقت الكافي لإعادة تشكيل ذاته وسن مخالبه، بل استخدم حرية الإعلام والإعلام البديل ذاتها في حشد المجتمع لتأييده، وشرذمة كل الفئات الثورية ثم القضاء عليها فيما بعد، وإعادة تأسيس قنواته الإعلامية التي أصبح لها ثقلها وترتكز على الإعلام الخاص أكثر من الحكومي.
إلى جانب خطاب الدولة، تخدم تلك الخطابات الإعلامية مصالح مادية وطبقية خاصة لا علاقة لها بمصلحة عامة أو قيم إنسانية، وتروج لفلسفات تتوافق مع قناعات وطموحات المالكين والمعلنين من التجار والشركات، وذلك بالتركيز على القضايا والقيم التي تعني هؤلاء وتخدم مصالحهم، لذلك، والمثال قريب، في إحدى حلقات الإعلامي أحمد موسى والتي خصصها للحديث عن الغلاء وانعكاسات الحرب الروسية الأوكرانية، برز الحديث عن الحديد وسوق العقارات في تلك الحلقة آخذاً نصيب الأسد من الحديث والتحليل، أكثر من تقرير بسيط عن غلاء الخبز والسلع التموينية الذي لم يأخذ من الحديث سوى دقائق، وفي سياق عرض لأحداث اجتماع مجلس الوزراء.
إن حديث موسى عن سوق العقارات والحديد وانتقاد أزمة غلائهم بجرأة في تلك الحلقة يعكس مشكلة لطبقة تهتم بسوق العقارات، وهي ليست الطبقة الوسطى ولا الدنيا بطبيعة الحال.
يعكس ذلك الموقف عنجهية تستهين بعقول العامة من الناس ومشاعرهم، وتعكس جهلاً موازياً للنخب الإعلامية بمشاكل الناس ومعاناتهم الحقيقية في الشارع، رغم أن تلك المشكلة حتى لا تختمر في المركز والأطراف فقط، بل هي الحال الدائر لشكوى سكان العاصمة أيضاً.
أبناء الحكومة
إن الخطاب الذي يتبعه عمرو أديب وموسى وغيرهما، هو خطاب من الحكومة لأبنائها، وأبنؤها ليس لفظاً للتشكيك في تواطؤ الطبقات التي نقصدها مع الحكومة، بقدر ما هو لفظ للتعبير عمّن تعتبرهم الحكومة أبناءها الحقيقيين، ألا وهم "الطبقة الوسطى الجديدة" التي يجتهد النظام لصناعتها في مصر، والتي لها مشكلاتها الاقتصادية التي تعانيها.
استثمرت الحكومة في عهد الرئيس الحالي موارد ضخمة في إنشاء العقارات لتوليد الإيرادات ودفع النمو الاقتصادي وجذب مستثمري القطاع الخاص، وكان من ضمن نتائج هذا بناء ثلاث مدن ذكية تستخدم التكنولوجيا الرقمية لتحسين كفاءة الطاقة، تلك المدن التي استهدفت سكانها من الطبقة المتوسطة في شريحتها العليا، وكانت هناك العديد من المشاريع الحضرية الأخرى تستهدف أسر الطبقة المتوسطة الأقل ثراءً كما يرى الباحث في مؤسسة "كارنيغي" في سلسلة مقالاته المنشورة عن تحليل الاقتصاد العسكري المصري، يزيد صايغ، والذي يرى أن الحجم الهائل للمشاريع القومية في عهد السيسي يميزه عن غيره في محاولة صناعة طبقة وسطى جديدة ترتبط مع النظام بالعديد من المصالح ومستوى معيشي محدد.
موظفو الحكومة كذلك من الطبقة الوسطى، وموظفو المؤسسات العسكرية والشرطية والقضائية هم الآخرون مستهدفون بذلك الخطاب الترشيدي، إن رأينا أن الحكومة منذ 2014 وهي تسعى لاكتساب تلك الفئة من الموظفين في صفها حيث بلغت نسبة الارتفاع في الأجور من 2014 حتى العام إلى 125% مقسمة على أربع زيادات في عهد السيسي آخرها الزيادة المرتقبة في أول يوليو/تموز القادم.
مجتمع الجمهورية الجديدة
لا تلتفت الحكومة إلى الفقر في المجتمع المصري تقريباً، وإلى اندثار العديد من المهن الحرفية في الاقتصاد غير المنظم وغير المرئي في الدولة، ولكنها تستهدف توطيد شعبيتها في فئة معينة من الطبقة الدنيا، وكأنها تصنع طبقة دنيا جديدة ترتبط مصالحها بمصالح وتوجهات النظام، تلك الطبقة هي التي تكونها سكان العشوائيات التي تتم إعادة تجديدها وتسليم المواطنين فيها الشقق كاملة من كل شيء يمكن أن يميز شقة من الطبقة المتوسطة، ويلزم المواطن الفقير بإيجار رمزي يدفعه للحكومة على المدى الطويل، بعد أن كان يعيش خارج الاقتصاد المنظم للحكومة، أو "عالة على الدولة" كما تراه الحكومة.
إن ذلك المجتمع الجديد في الجمهورية الجديدة، يستهدف ربط العديد من الطبقات بمصالح مختلفة مع الحكومة، تكون مصالحها مرتبطة مع استقرار النظام وأمنه دائماً، وهو ذلك المجتمع أيضاً الذي يستعد لتلقي الخطابات الأبوية الترشيدية من إعلاميي الجمهورية الجديدة الدعاة للتقشف وشد الحزام، أما بقية المجتمع من الهامشيين والفقراء فأصبحوا غير مرئيين من الإعلام، كما أنهم لن ينتظموا في ثورة تقلق النظام وتلفت نظر الإعلام بطبيعة حال البروليتاريا الرثة التي تستكين إلى مجتمع آمن رغم الفقر، خصوصاً بعدما رأت ما تفعله الثورات في مجتمع الشرق الأوسط، وهي السلاح الذي دأب النظام على تذكرتهم به دائماً عما يحدث في ليبيا وسوريا واليمن، وكيف أنهم كانوا محظوظين بهذا النظام الذي قادهم إلى بر الأمان.
ففي مجتمع كهذا، ضمنت الحكومة وإعلامها خصاء الحراك السياسي والصراع الطبقي فيه، لم يعد استفزازاً أن يتحدث عمرو أديب فيما تحدث، بل هو نتيجة طبيعية تتساوق مع رؤية الدولة وإعلامها لمجتمع الجمهورية الجديدة.
مصادر
– تأملات في الإشكالية الثقافية، الثقافة والديمقراطية: د.محمد عبد العزيز ربيع
– الدولة وحروب الجيل الخامس: سارة نصر
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.