الحرب بين روسيا وأوكرانيا لها تأثيرات عديدة على أسعار الغذاء في الدول النامية مثل دول المنطقة العربية. الأخبار التي تنقل لنا هذه التأثيرات تحمل بداخلها جزءاً سلبياً وآخر إيجابياً (إلى حد ما).
الأخبار السلبية أضحت الآن معروفة للجميع، أسعار الغذاء سوف ترتفع نتيجة توقف الصادرات الأوكرانية من المواد الغذائية. هذه لم تعد أخباراً جديدة، ففي نهاية شهر يناير من العام الجاري وقبل انطلاق الحرب الحالية، نشرت مجلة (فورين بوليسي) الأمريكية تحليلاً حذر فيه الباحث أليكس سميث من أن الحرب بين روسيا وأوكرانيا سوف تؤثر على أسعار الغذاء في دول عدة في آسيا وأفريقيا. سميث ذكر من بين هذه الدول ليبيا واليمن ومصر كدول مرشحة لأن تؤدي اندلاع الحرب إلى ارتفاع في أسعار المواد الغذائية بها.
التأثير لن يكون فقط بسبب تراجع الصادرات الأوكرانية، ولكن لأن أي تغيير في حركة التجارة في البحر الأسود سوف يؤثر أيضاً على الصادرات الروسية. وروسيا أيضاً تصدر مواد غذائية لعدد كبير من الدول النامية. فإذا امتدت هذه الحرب إلى أسابيع فإن كلاً من الصادرات الروسية والأوكرانية ستنخفض لتُؤثر بالسلب على أسعار الغذاء العالمية. هذا هو الجانب السلبي من الأخبار.
الجانب الذي يحمل بعض البشارات الإيجابية هو أن التأثيرات السلبية المتوقعة نتيجة نقص الإمدادات لن تظهر آثارها السلبية بشكل كامل إلا مع قدوم الصيف. بمعنى أنه لا يزال أمام هذه الدول وقت يمكن من خلاله أن تبحث عن بدائل وأن تجد حلولاً لهذه المشكلة.
لو أخذنا مصر كمثال نجد أن هذا التوقع هو الأقرب إلى الحقيقة. فطبقاً لتصريحات وزير التموين والتجارة الداخلية المصري فإنه يوجد لدى مصر احتياطي من القمح يكفي لمدة أربعة شهور.
وإذا أضفنا إلى ذلك الإنتاج المحلي الذي سيتم جمعه هذا العام، فعلى الأغلب فإن مصر لن تواجه مشكلة في الحصول على القمح حتى نهاية فصل الصيف. ويمكننا توقع أن عدداً كبيراً من الدول ستكون لديه استراتيجيات بوجود احتياطي استراتيجي لشهور قادمة من المواد الغذائية الرئيسية. ما يمكننا أن نتمناه الآن هو ألا تمتد هذه الحرب لفترة طويلة.
لكن ماذا لو جاءت الريح بما لا تشتهي السفن؟ ما الآثار المتوقعة على أسعار المواد الغذائية في العالم العربي في حال استمرت هذه الحرب لشهور؟
هنا تعود الأخبار السلبية للظهور مجدداً. فنقص الإمدادات القادمة من أوكرانيا أو/ وروسيا يعني أن أسعار المواد الغذائية سوف تستمر في الارتفاع. فطبقاً لتصريحات أرنود بيتي، مدير "مجلس الحبوب الدولي"، فإنه إذا طال أمد الحرب، فإن البلدان التي تعتمد على صادرات القمح بأسعار معقولة من أوكرانيا قد تواجه نقصاً بدءاً من يوليو، هذا النقص قد يؤدي إلى انعدام الأمن الغذائي وإلقاء مزيد من الناس في براثن الفقر في دول مثل مصر ولبنان؛ حيث يهيمن الخبز المدعوم من الحكومة على النظم الغذائية. لقد ارتفعت بالفعل أسعار المواد الغذائية في الأسبوع الأول للحرب. لكن إذا استمرت الحرب، فإن الأسعار سوف تواصل الارتفاع في الشهور القادمة لتهدد ما يطلق عليه اسم "الأمن الغذائي".
وإذا كنت من الأناس التي تعتقد أن الأمن يرتبط فقط بالجيوش وأجهزة الشرطة، فالأزمة الحالية فرصة لكي نتذكر أن مفهوم الأمن هو أوسع من ذلك وأنه يشمل أبعاداً متعددة من ضمنها الأمن الغذائي.
يقوم مفهوم الأمن الغذائي على ثلاثة أعمدة الرئيسية: العمود الأول هو توفر الغذاء. بمعنى أن يكون الغذاء موجوداً بالفعل للمواطنين داخل حدود الدولة ولا يُعاني مشاكل في الغياب أو النقص. العمود الثاني هو إمكانية الوصول إلى الغذاء. فلا يجب فقط أن يوجد الغذاء، ولكن أن يستطيع المواطنون الوصول إليه. فعلى سبيل المثال وجود الغذاء في الأسواق لكن بأسعار مرتفعة لا تتيح لقطاعات واسعة من المجتمع الوصول إليه يضعف من الأمن الغذائي لهذه الدولة. أو وجود السلع الغذائية بأسعار معقولة في الحضر لكن عدم توفرها في الريف أو توفرها بأسعار أعلى في الريف يضعف من الأمن الغذائي.
الخاصية الأساسية هنا وجود قدرة لدى المواطنين إلى الوصول للسلع الغذائية في حال احتياجهم لها.
العمود الثالث والأخير للأمن الغذائي هو وجود قدر من الثبات والاستمرارية في هذا التوفر وإمكانية الوصول. على سبيل المثال، وجود السلع الغذائية بأسعار معقولة أغلب فترات العام وعدم تواجدها في فترات أخرى هي أمثلة أخرى على ضعف الأمن الغذائي في هذه الدولة. التهديدات التي تكون نتيجتها توقع عدم وجود المواد الغذائية مستقبلاً هي تهديدات تضعف من الأمن الغذائي للدول.
إذا كنت لاتزال تعتقد أن ربط كلمة "الأمن" بالغذاء" هو مبالغة كبيرة، فإن الحالة المصرية يمكن أن تقدم مثالاً نموذجياً يشرح أهمية هذه العلاقة. في نهاية السبعينات شهدت مصر انتفاضة شعبية استمرت ليومين متتالين بسبب قرار الحكومة رفع أسعار المواد الغذائية، وهي الانتفاضة التي أطلق عليها اسم "انتفاضة الخبز".
الدرس الأهم التي استفادته الحكومة من هذه الانتفاضات أن هناك عدداً من المواد الغذائية التي يجب أن تعمل الحكومة على توفيرها بأسعار رخيصة للمواطنين، على رأسها الخبز. خلال السنوات القليلة الماضية قام النظام المصري بعدد من "الإصلاحات" الاقتصادية تم خلالها رفع الدعم تدريجياً عن الطاقة والبنزين، والنقل، والمواصلات، وغيرها. وفي العام الماضي، خرجت إلى العلن تصريحات من عبد الفتاح السيسي، أعلى سلطة سياسية في الدولة إلى رئيس الوزراء ووزير التموين والتجارة الداخلية على المصيلحي، عن ضرورة رفع سعر رغيف الخبز.
الوقت الحالي ربما يكون هو الفرصة المناسبة لتنفيذ هذا القرار لكن التبعات الاقتصادية والأمنية لهذا القرار هي التي أجَّلت تنفيذه حتى الآن. المصيلحي وفي تصريحات لوكالة رويترز في بداية شهر فبراير قال إن الحكومة تريد اتخاذ قرار بتحويل دعم الخبز إلى دعم نقدي يتم إرساله إلى جيوب المواطنين مباشرة.
الوزير يعتقد أنه هذه هي أفضل وسيلة لدعم الخبز في مصر، ويقول إن هذا هو رأيه الشخصي الذي يتفق مع عدد من آراء الخبراء الاقتصاديين في هذا المجال. المشكلة في تقديره أن نسبة التضخم مرتفعة الآن في مصر، وتحويل دعم الخبز إلى دعم نقدي سيزيد من نسبة التضخم وهو أمر تريد الحكومة تجنبه طبقاً لتصريح المصيلحي.
لكن لهذا القرار تبعات أمنية أيضاً، فارتفاع أسعار المواد الغذائية للمواطنين في ظل أزمة اقتصادية بسبب أزمة وباء كورونا قد تكون له تبعات سلبية على النظام. أقلها، زيادة حالة السخط الشعبي والاحتقان الداخلي.
السياسات الحالية للحكومة تركز على توفير الخبز لكنها لا تعطي نفس القدر من الأهمية لمدى قدرة الوصول إليه.فطبقاً لتقرير رويترز، خلال الأشهر القليلة الماضية، ارتفع استيراد القطاع الخاص من القمح في حين تراجع استيراد القطاعات الحكومية. يمكننا الاستنتاج أنه لن تكون هناك مشكلة مستقبلية في مصر من "توفر" القمح بسبب استيراد القطاع الخاص له. هذا هو العمود الأول في الأمن الغذائي. لكن على الأغلب، ستكون هناك مشكلة في إمكانية الوصول له حيث ستقتصر على شرائح اقتصادية أعلى، أو ستنخفض أعداد المستفيدين من الدعم الحكومي للخبز. في كل الأحوال، نتمنى ألا يطول أمد الحرب الحالية، وآثارها السلبية كبيرة ولا تقتصر على بلد أو منطقة محددة، وعلى رأس الآثار السلبية في منطقتنا تهديد الأمن الغذائي لدول عديدة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.