احتفل الجميع إذن باليوم العالمي للمرأة، في الثامن من شهر مارس/آذار، كما هو الحال كلّ عام، أو فلنقل تفاعل كل شخص مع هذه المناسبة على طريقته، فهناك من احتفى بالمرأة، وهناك من أعرب عن سخطه عليها، وهناك من ذكّر بروعة صفاتها، وهناك من عدّد نقائصها، وهناك من دعا إلى دعم جهود تحريرها، وهناك من حذّر من هذا التحرير المزعوم، وهناك من حشد النكات والطّرائف المضحكة المتعلّقة بها، والبعض ربما أعلنوا تجاهلهم لهذا اليوم لأنهم اعتبروه مستورداً من ثقافة غريبة على الثقافة العربية.
يوم مستورد وقضايا مستوردة
والحق يقال فإن اليوم العالمي للمرأة ليس وحده المستورد، بل إن كثيراً من النقاشات المثارة حول المرأة مستوردة أيضاً من ذات المصدر ذي الثقافة السائدة العابرة للقارات، حيث تجاوزت الشعوب هناك محناتها الكبرى، وتخلصت من طغاتها، وكتبت دساتيرها بأيديها، وصارت أكثر أيامها ظلامية ودموية وراءها، ووضعت برجالها ونسائها أحجار الأساس الصلبة في كل ميادين الحياة المهمة، لتلتفت الآن إلى التشعب في قضاياها الفكرية تشعباً مبالغاً فيه أحياناً، فتفصفص على طاولات المؤتمرات، وفي أروقة الجامعات، وبرامج المساء الحوارية؛ مسائل ومعضلات إنسانية وأخلاقية وفكرية لم يكن أحد من قبل ليتوقع مناقشتها.
إن قضايا مثل الجنس الثالث وتشريع الميول المثلية والموت الاختياري والتطرف النسوي ما هي إلا نتاج حضارة مترفة، وصلت إلى مرحلة الهذيان الفكري والأخلاقي، هذا الهذيان الذي نستقبله في مجتمعاتنا بحبور ساذج كونه منتجاً جديداً عليه ختم "الشعوب المتحضرة".
النسوية هنا وهناك، فروقات شتى
لا ينكر منصف وجود ظلم واقع على المرأة في المجتمعات العربية، لكن وجوه هذا الظلم وشدته تختلف اختلافاً كلياً مع تلك التي عانت منها المرأة في الغرب، حيث نشأت الحركات النسوية الأولى.
فلقد حملت تلك الحركات إرثاً ثقيلاً من المظالم، بلغ حد حرق عشرات الآلاف من النساء في محاكم التفتيش، والذي ظل ممارساً إلى القرن السابع عشر في أوروبا.
وفي قالب هذا الظلم الواسع تم صب الفكر المضاد له، لتأتي الحركات النسوية الغربية شديدة التطرف، حتى بلغت في تطرفها حد السعي لتغيير اللغات بضمائرها الحاضرة والغائبة، بشكل يحقق المساواة بين الجنسين.
وقد لعب الدين الإسلامي، على عكس ما يُشاع عنه، دوراً كبيراً في حماية المرأة المسلمة من التطرُّف في ظلمها، حتى في أكثر مراحل التاريخ سوداوية، بسبب خطوطه الأخلاقية العريضة التي تحث على نصرة الضعيف، ولوجود نصوص صريحة تحرم ظلم النساء، في حين سارت عمليات حرق "الساحرات" جنباً إلى جنب مع مباركة الكنيسة ووفق توجيهاتها، لذا فإن استيراد التحامل الشديد على الرجال وعلى الدين من الحركات النسوية الغربية يكون بمثابة إلباس القضية النسوية العربية ثوباً واسعاً جداً لم يُفصل على مقاسها.
كما أن الحركات النسوية الغربية لم تنضج إلا كثمرة على فرع الحرية السياسية في المجتمعات الغربية، في حين تبدو الحركات النسوية العربية، التي تعزل نفسها عن النضال السياسي العام، مثل الثمار الفاسدة التي سقطت عن فرع منخور.
إنه من غير المنطقي الاكتفاء بالحديث عن تحرير المرأة في مجتمعات تفتقر للحريات الأساسية، كحق الحياة وحق الكلام وحق الممارسة السياسية النزيهة.
لذا يجب على كل من يحمل لواء تحرير النساء من الظلم الاجتماعي الواقع عليهن، ألا يتناسى أن جهاده هذا يجب أن ينطلق أولاً من أجل تحرير الإنسان العربي من الاستبداد السياسي، لأنه أصل كل استبداد وكل مظلمة.
إن استيرادنا لنقاشات تلك المجتمعات المترفة ينسينا غالباً منطلقاتنا الخاصة للتعاطي مع المسائل، ففي حين تُناقش هناك قضايا النساء من منطلقات علمانية ليبرالية متنوعة فإن نقاشنا هنا يجب أن ينطلق من مذاهبنا الفكرية الخاصة، وإرثنا الثقافي والديني والحضاري، لكي نستطيع الوصول إلى نتائج مقبولة وقابلة للتطبيق.
وبالمنطق نفسه فإن تراجع المتصدرين للمشهد الديني عن سعي صادق ولحوح للإصلاح الاجتماعي الذي يرفع الظلم عن النساء، والاكتفاء برد الفعل أو ربما بالعداء والمحاربة لكل مناداة بالإصلاح، يترك الباب مفتوحاً على مصراعيه للدعوات ممسوخة الهوية، كي تتصدر وتحتل المنابر المنادية بحقوق النساء، ثم لتصِمَ تلك المنابر الدينية بمعاداتها للمرأة بشكل يصعب لاحقاً التبرؤ منه.
صدع جديد في المجتمع، في مصلحة مَن؟
إن مركزية الفرد في المجتمعات المترفة، والتي أنتجت الكثير من المفاهيم الممزِّقة لوحدة الأسرة، ومن بينها التطرف النسوي، هي تجربة حديثة العهد اختارتها هذه المجتمعات بنفسها، وتخوضها الآن دون أن يُعرف إن كانت هذه القيم ستثبت جدواها في النهاية أم لا.
لكن نقل فردانية مشابهة، بل فرضها تقريبا بقوة الهيمنة الثقافية، على مجتمعاتنا العربية التي تمارَس عليها مسبقاً كلُّ أشكال التمزيق السياسي والحزبي والطائفي والقومي والمناطقي والأيديولوجي، هو شرخ إضافي نحن الآن أكثر الناس في غنى عنه.
إن استقطاباً جديداً، هذه المرة على أساس الجنس، وبين الرجال والنساء، هو عبء إضافي يلقى على كاهل المجتمع، كما أن ادعاءات الأفضلية، وجدالات الحقوق والواجبات، وأجواء التنافس المشحونة بين الجنسين تبدو في منتهى السخافة واللاجدوى، في وقتٍ تحتاج فيه الشعوب إلى التكاتف قدر الإمكان في وجه أعدائها الحقيقيين، الذين يخططون ليل نهار لإغراقها في مزيد من وحول الاستبداد.
للأسف نتحمل جميعاً هنا جزءاً من وزر الانجرار إلى مثل هذه الجدالات السخيفة، حين نجد أنفسنا متحمسين للدفاع عن الفريق الذي ننتمي إليه بإظهار العدائية ضد الفريق الآخر، فنجد أنفسنا نكتب بغضب حين يجب أن نكتب بهدوء، ونتحدث بحماقة عوضاً عن أن نتحدث بحكمة، رغم أنه ليس ثمة أي منفعة من الكتابة بهذه الروح الناقمة.
لا يتعلق الأمر فقط بإضاعة الوقت في هذه النقاشات، بقدر ما يتعلق بالتشويش على إيجاد الحلول الحقيقية للمشاكل، والاكتفاء بجوائز الترضية المؤقتة التي تُشعر كل جنس بالتفوق والفخر بخصائصه المميزة.
الإنسانية الواسعة بديلاً للنسوية الضيقة
هذا الوعي الحاد بالجنس الذي نلحظه اليوم أكثر من أي وقت مضى، ولدى مختلف الأعمار، هو تغوّلٌ لهويتنا الجنسانية على حساب هويتنا الإنسانية.
وإن الجهود المُصلِحة يجب أن تنطلق من عقول تتجاوز وعيها الحاد بجنسها، لتعالج مثل هذه القضايا بنظرة إنسانية واعية، وبخطاب إنساني راق وجامع. يجب علينا أن نتخلى عن كراسي الأستاذية التي منحتنا إياها أفضلية جنسنا، لنطيل وعظ الجنس الآخر وزجره وتأنيبه، مستندين رجالاً إلى أفهام مغلوطة وتعاملاتٍ مقلوبة مع مفاهيم ونصوص دينية كقوامة الرجال على النساء، أو نقص عقلهن، أو تشريعات تعدد الزوجات وغير ذلك، أو متخندقاتٍ نساءً وراء تفسيرات دينية مغايرة للنّصوص ذاتها، ومحملة بروح الانتقام والعداء هي الأخرى.
إن الغضب والشعور بالإهانة والخوف من التعدي على حقوقنا أو خسارة مكانتنا يُفصح عن نفسه غالباً على هيئة عدائية عمياء، لا تتورع عن القيام بظلم مماثل وإهانة مماثلة وتعدٍّ مماثل على الآخر خارجٍ من خنادق حماية النفس، ومتذرعٍ بمبررات رد الفعل.
وليس بعيداً من هنا انتشار وسمي #خليها تعنس و #خليك جنب أمك في مصر، والتي تعد مؤشرات واضحة على شروخ غاية في العمق، آن الأوان للتوقف عن التعامل معها بمنطق طفولي صبياني يؤججها عوضاً عن أن يحتويها.
علينا -كأفراد عاقلين ومؤسسّات ثقافية بالدرجة الأولى- أن ندرب أنفسنا على تجاوز الاستفزازات، وعلى الضحك بلا ألم على العبارات المهينة في سياق النقاشات الفارغة، وعلينا أيضاً أن نتجاوز دعوات الانحياز غير المنصف لجنسنا بدافع إغراء الانتقام من الجنس الآخر.
فقضية المرأة هي جزء لا يمكن تفكيكه عن الحاجة إلى إصلاح اجتماعي شامل، موازٍ للإصلاح السياسي، ومنطلق من ثقافتنا الخاصة، وغير منصاعٍ لمساطر التقييم الغريبة على مجتمعنا.
إن قضية المرأة هي قطعة من فسيفساء في لوحة الظلم الكبير الذي يعانيه المواطن العربي، والذي يبدأ أول ما يبدأ بالعرش الذي يتربع عليه طاغية، لا يهمه حقيقة أيُّ أحد من مواطني دولته رجالاً أو نساء، لكنه لا يمانع على الإطلاق من التفرج عليهم وهم منغمسون في مقاتلة بعضهم بعضاً، ليتابع هو استغراقه في ظلمه الأسود.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.