التاريخ يعيد نفسه الآن، كل الدول استقرت في مواقعها التي كانت قبل مئة عام، وتحاول الوصول إلى حدودها التي كانت قبل مئة عام. البلدان ذات التراث العميق تنتفض والمغامرات الكبيرة آخذة في الصعود لتشكيل العالم، والأحلام الإمبراطورية تراود كثيرين في أقصاع آسيا وأوروبا.
خريطة القوة في العالم تتغير بشكل متسارع. دُمر النظام الذي تم تأسيسها بعد الحرب العالمية الثانية. تجري إعادة تشكيل القوى المركزية في العالم.
للمرة الأولى منذ عقود، يواجه الغرب، الأوروبي تحديداً، تهديدات هائلة من خارج بنيته الجيوغرافية. في نفس الوقت، ليس لدى الغرب أي وسيلة لبناء نظام عالمي جديد بمفرده مرة أخرى؛ ما يعني تشققات وتصدعات في المحاور والتحالفات الاستراتيجية، وتشكّل مناطق صراع إقليمية خطيرة جداً.
"لا يوجد عذر لاحتلال أوكرانيا.. لا يوجد تهديد لروسيا".
إن هجوم روسيا على أوكرانيا يدور حول التغيرات المتسارعة في بنية النظام العالمي، على الأقل من وجهة نظر موسكو.
لقد احتلت روسيا علناً دولة ذات سيادة. في العادة، لا يمكن أن يكون هناك عذر أو مبرر لذلك، ولكن هذا نذير بظروف عالمية جديدة. لقد فُتحت أبواب عصر الجنون.
يمكننا أن نقول بوضوح إن أولئك الذين اتحدوا ضد روسيا اليوم سيفعلون الشيء نفسه غداً ضد بعضهم؛ لأن العالم لا يمكن قراءته بالأنماط القديمة، ولن تقيد أي دولة نفسها بالأنماط القديمة.
صحيح أنه لم يكن هناك تهديد مباشر يستهدف روسيا من الأراضي الأوكرانية. ولذلك، لا يوجد مبرر سياسي أو قانوني للاحتلال. وكدولة ذات سيادة، يمكن لأوكرانيا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو" أو أي تحالف إذا رغبت بذلك.
وإن تصور هذا الانضمام -الذي لم يحدث- على أنه تهديد محتمل لروسيا لا يمكن أن يكون قبوله مبرراً للغزو.
في الوقت ذاته، قامت الولايات المتحدة وبريطانيا، قبل نشوب الحرب، باستفزاز روسيا لدرجة غير مسبوقة. وهناك أسباب وكواليس كثيرة في هذا الموضوع. لكن من الواضح أن كلا البلدين منخرط في مواجهة مع روسيا، ويحاول ذلك من خلال أوكرانيا.
وهنا التهديدات وردودها ليست بين روسيا وأوكرانيا، بل بين روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا الغربية. أوكرانيا ليست سوى ساحة الصراع الأولى في هذه المواجهة. وسيكون هناك بالتأكيد بلدان جديدة قادمة.
الحرب الأوروبية بدأت الآن
على الرغم من أن الحرب في أوكرانيا، فإن الصراع الدائر هو بين روسيا وأوروبا والولايات المتحدة؛ لذلك، يمكننا اعتبار أن العقوبات الغربية الثقيلة والضغوطات وعزل روسيا عن العالم والشلل الاقتصادي الذي يضربها، وبدء العمليات السرية داخل أوكرانيا، وتزويدها بالسلاح علانيةً، ودعوات إغلاق المجال الجوي أمام روسيا، مرحلة أولى من الحرب بين الشرق والغرب، بين أوروبا وروسيا.
جاء العدوان الروسي بدافع الخوف، في عقل بوتين اعتقاد أن بلاده سوف تتفكك للمرة الثانية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وأن الغرب لديه مثل هذه الخطة. لهذا السبب يحاول تجنب هذا الاحتمال بالهجوم بدلاً من الدفاع. وكل ما نراه من التوسع الروسي في السنوات الأخيرة هو جهود لتأخير ومنع هذه النهاية الرهيبة.
ستستمر هذه الحرب لفترة طويلة.. لكن في أي البلدان ستنتشر؟
هذه الحرب ستستمر لفترة طويلة وإذا فشلت روسيا في إتمام احتلالها بسرعة فسوف تواجه كابوساً طويلاً. بالإضافة إلى العقوبات الاقتصادية، فإن الوضع العسكري الحالي سوف يزعزع استقرار روسيا. وفي الوقت الذي يسعى فيه بوتين جاهداً لتجنب "الانهيار الثاني"، فإن قراراته سوف تسرع من "الانهيار الثاني".
الحرب المطولة ستنقل مناطق الصراع إلى خارج أوكرانيا. وستتشكل جبهة من بحر البلطيق إلى بحر إيجة بين الشرق والغرب عبر لاتفيا وليتوانيا ورومانيا وبلغاريا.
صراع القوة المركزية وحسابات تقاسم السلطة الجيوسياسية التي شهدناها في الشرق الأوسط منذ سنوات نشهدها الآن في البحر الأسود وفي الشمال، وصلت الصراعات إلى أعتاب أوروبا للمرة الأولى، والتي كانت تجري لسنوات بعيداً عن الولايات المتحدة وأوروبا.
بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت الحرب الأوروبية، فالحرب الروسية على أوكرانيا هي حرب أوروبية. لا نعرف كم من الوقت سيستمر الدرع الذي بنوه في أوروبا الشرقية، وكم من الوقت سيحمي أوروبا الغربية. ولكن اعتباراً من اليوم، يمكننا أن نقول إن أوروبا بدأت المعركة مباشرة مع روسيا.
حرب أوروبا قد تؤدي إلى المزيد من الدول المحايدة، على الرغم من أنهم يبدون متحدين ضد روسيا اليوم، إلا أنهم لن يتمكنوا من الحفاظ على اتحادهم لفترة طويلة. قريباً سينهار التحالف المتشكل ضد روسيا داخل أوروبا.
إقحام تركيا في الحرب
بالنسبة لتركيا، هذه الحرب ليست حرباً أوكرانية، بل حرب البحر الأسود. بعد سنوات من الكفاح في الجنوب، ستكافح تركيا الآن تهديداً جديداً في الشمال، وهو عدم الاستقرار الناجم عن الحرب الغربية الروسية.
وتحاول الولايات المتحدة وبريطانيا جر تركيا إلى هذه الحرب بسرعة. ويفسر ذلك باللغة السياسية التي تستخدمها أوكرانيا. ويخطط الغرب لتقديم تركيا كورقة رابحة ثانية إذا لم يستطِع الغرب تركيع أوروبا الشرقية ودول البلطيق وروسيا. هذه المرة يعملون على إشعال الحرب التركية الروسية عبر البحر الأسود.
لكن يجب أن لا يُسمح أبداً بنشوب حرب تركية- روسية. ومن أجل الدفاع عن أوروبا، لا ينبغي أن تقع تركيا في وضع بلدان مثل أوكرانيا وبولندا. لا ينبغي أن تقع في هذه الفئة؛ لأن تركيا ليست قاتل الغرب المأجور.
يمكن لتركيا العمل مع التحالف الغربي ولكنها تتخذ مواقفها وفقاً لوزنها المحدد.
وبغض النظر عما يحدث، لا ينبغي أن تكون هناك حرب بين تركيا وروسيا. لا ينبغي أن تكون تركيا دولة جبهة للولايات المتحدة وبريطانيا.
لندعْ أوروبا تدافع عن نفسها.. لندعها تقود نفسها إلى الجبهة. لقد انتهى عصر الازدهار بإشعال النار في الأمم الأخرى. يجب ألا تدفع أمتنا ثمن دفاعها عن أوروبا.
إذا أركع الغرب روسيا، سيعيد الكرة مع تركيا
حتى لو كانت تركيا دولة في حلف شمال الأطلسي، فهي تعرف أنها تهديد مستقبلي للغرب. ونحن نعلم الآن أن الغرب ينظر إلى تركيا على أنها تهديد، على الرغم من أنها حليفة حالياً. لقد شاهدنا ذلك بوضوح في سوريا. وفي بحر إيجة والبحر الأبيض المتوسط.
شاهدنا ذلك في "قره باغ" وفي مسألة منظمة "بي كا كا" الإرهابية وتنظيم غولن المصنف إرهابياً في تركيا. لقد رأينا أن كل هذه التهديدات مصدرها الولايات المتحدة وأوروبا.
إن تعزيز تركيا لنفوذها المتزايد يخيف الغرب؛ لهذا السبب ينفذون خطة إيقاف تركيا في كل منطقة. ولهذا السبب أسسوا جبهة سياسية داخلية وصمموها لتكون واجهة للاحتلال الداخلي.
وإذا استطاع الغرب تركيع روسيا، فسوف يتحول مباشرة إلى تركيا كخطوة ثانية. وسوف يتجه لتقليص وتحجيم نفوذ تركيا الإقليمي.
العقل التركي سيتجاوز هذه الأزمة
إن أمر بوتين بـ"وضع قوات الردع النووي في حالة تأهب قصوى للحرب"، مؤشر لا حاجة له على أن الأمور قد تتفاقم بسرعة وباتجاه مأساوي. وتهديد بوتين وتلويحه بالسلاح النووي ليس مجرد خدعة. روسيا تضع في حساباتها أن التهديد الذي تتعرض له حالياً قد يصل إلى نقطة الإبادة. وينبغي على تركيا أن تقوم بحساباتها وفقاً لذلك.
الحرب بين تركيا وروسيا ستُخرج كلا البلدين من المعادلة العالمية. ستقسم كلا البلدين، وهكذا سيتخلص الغرب من تهديدين في نفس الوقت.
يجب على تركيا أن تستخدم صراعات القوى هذه وفقاً لاحتياجاتها وأهدافها الخاصة. يجب أن تفعل كل ما يتطلبه الأمر في الجنوب والغرب والشمال. العقل التركي، عقل الإمبراطوريات، سيظهر حكمة كبيرة هنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.