ما أبشع أن يستيقظ المرء صباحاً على صوت انفجارات ومدافع تدك أرضه وتخرجه من بيته الذي عاش فيه عقوداً آمناً مطمئناً. تحكي لي صديقتي الأوكرانية، أنه حتى قبل أيام لم يكن أهلها يتوقعون حربا أبداً، وأن الأمور كانت تبدو طبيعية رغم التصعيد المتبادل، وحشد الروس لجنودهم وعدتهم الحربية على الحدود التي تبعد عن بيتهم ثلاثين كيلومتراً، وأنهم يظنون أنها حرب كلامية، تهدد روسيا ولا تفعل، يخرجون كالمعتاد، ولا يخزنون حتى سلعاً تموينية، فهي متوفرة دائماً.
ولكنهم اليوم استيقظوا على كابوس يضطرهم إلى مغادرة بيوتهم إلى مناطق أكثر أمناً، يتركون كل غالٍ وراءهم طلباً للأمن، الذكريات والأثاث وقبلهم الأمان، يغادرون إلى المجهول. لكن حتى هذا الاختيار لأسرة صديقتي لم يكن متاحاً، فقد قطعت كل الطرق، وأغلق المطار ولم يستطيعوا الخروج من بيوتهم إلا لشراء البقالة، لكن جميع المحلات خاوية، الصيدليات مغلقة لا يوجد إلا مسكنات الألم.
في أول يوم للحرب انقطعت الاتصالات، في اليوم الثاني استطاعت الوصول لهم. تخبرني أنها تحمد الله على أنها غادرت أوكرانيا، فقد أجبر جميع الرجال تحت سن 45 على الانضمام للجيش والتعبئة العامة، اضطر الجميع لتوديع أسرهم دون معرفة هل سيرونهم ثانية أم لا.
نعرف جميعاً أن ما قبل الحرب والانقلاب والنفي واللجوء لا يعود أبداً، مهما تحسنت الظروف لاحقاً، يبقى الماضي دائماً كطيف ذكرى، إذا عدنا للأماكن نفسها فلن نجد الدار وساكنيها كما كانوا.
تحدثنا عن الصور التي نشرت لهروب الناس من كييف عاصمة أوكرانيا، التي تشبه صور هروب الناس من إدلب في سوريا قبل عامين، نفس المجرم ونفس الفاشية وأناس عاديون يبحثون فقط عن حياة آمنة لا يفقدون فيها أحباءهم وأرواحهم، حتى ولو صاروا لاجئين يتحملون حياة جديدة في أعمار مختلفة ودول مختلفة.
يضطرون إلى ممارسة مهن غير مهنهم الأصلية، ويتعلمون لغة أخرى مضطرين، ويعيشون حياتين بين أرضين، ينتظرون انتهاء الظلم والبغي، أملاً في أن يعودوا إلى ديارهم مرة أخرى، رغم أنهم يوقنون عدم استطاعتهم ذلك، يعرفون أنه كلما مر الوقت على لجوئهم زاد الأمر صعوبة وقل الأمل. تخبرني أنها كانت دائماً ما تقول إن أوروبا لا تتدخل بشكل جاد لإنهاء الصراع في سوريا أو ليبيا أو اليمن، لأنها دول بعيدة عن حدودها، لكن الحرب تبعد فقط 900 كم من هامبورغ! إنها على أبوابهم، ولا يستطيع أحد فعل أي شيء.
تخبرني أن الجميع يشعر بالخذلان، وأنهم تُركوا وحدهم، وأن الجميع يتحدث كثيراً، لكن لا أحد يستطيع إيقاف تلك الحرب، وبينما تعلن دول أوروبا ترحيبها باللاجئين الأوكرانيين لم تحاول حتى الضغط على فتح طرق آمنة لمغادرة البلاد.
تقول إنه حتى لو سُمح لمن علقوا هناك بالمغادرة، كيف سيتركون أزواجهم وأبناءهم الذين ذهبوا للحرب؟ كيف ستتحرك أمي المقعدة التي لا تغادر السرير؟ كيف سيتركها أبي وحدها!
لا تستطيع صديقتي النوم ولا تتناول الطعام وهي تعلم أن أهلها هناك لا يجدون ما يأكلونه ولا يستطيعون أن يناموا آمنين.
وتظل قصة صديقتي الأوكرانية، وكل قصة من قصص الحرب واللجوء والنفي مؤلمة مهما تشابهت وجوهها وتكررت أحداثها، فكل قصة متفردة بحزنها وقسوتها وتفاصيلها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.