يعتني مجال الاستخبارات العسكرية بتقييم قدرة الخصم على خوض الحرب بناء على مجموعة من العلامات الإرشادية التي يتم جمعها من الميدان والمجالات ذات الصلة مثل التكنولوجيا والاقتصاد. بينما تبحث الاستخبارات المتعلقة بالقضايا السياسية في نوايا قائد الخصم والدائرة المقربة منه؛ إذ لا تعتمد الدول على تطمينات ووعود وتعهدات الخصوم.
ولعل الأزمة الأخيرة في أوكرانيا أوضح مثال على ذلك؛ فبينما الرئيس الأمريكي بايدن وحلفاؤه الغربيون يتهمون موسكو منذ عدة أسابيع بالإعداد لغزو أوكرانيا، ظل الرئيس الروسي يتهم بايدن بالكذب ويؤكد أنه لا ينوي غزو أوكرانيا ثم اعترف بوتين لاحقاً باستقلال مناطق في شرق أوكرانيا وأرسل إليها قوات روسية بزعم تنفيذ مهام حفظ سلام، وذلك ضمن حرب معلومات وتضليل هي الأقوى من نوعها خلال العقود الأخيرة.
هزائم وانتكاسات عربية
يحفل التاريخ المعاصر بالعديد من الحالات التي صدّق فيها رؤساء دول عربية وعود خصومهم، ومن أبرز نماذج ذلك ما حدث قبيل حرب 1967 التي ما زلنا نعيش تداعياتها حتى اليوم. فقبيل اندلاع الحرب بأيام اجتمع وزير الخارجية الأمريكية دين راسك مع السفير المصري بواشنطن مصطفى كامل، وأبلغه أن تل أبيب أخبرت بلاده أن مصر وسوريا سيشنان هجوماً وشيكاً على إسرائيل وطلب "راسك" من السفير المصري إبلاغ عبد الناصر مناشدة الحكومة الأمريكية له التمسك بضبط النفس وتجنب تنفيذ أي عمليات عسكرية هجومية، ونقل "راسك" تعهداً من الرئيس الأمريكي جونسون بمنع إسرائيل من القيام بأعمال عسكرية هجومية ضد مصر. وعقب انتهاء اللقاء أبرق السفير المصري بمضمون ما سمعه إلى القاهرة على وجه السرعة.
عقب ساعات من اللقاء المذكور، توجه السفير السوفييتي بالقاهرة إلى منزل الرئيس عبد الناصر قبيل الساعة الثالثة صباحاً ليطلب إيقاظه لإبلاغه برسالة عاجلة من رئيس الوزراء السوفييتي كوسجين تضمنت صورة رسالة بعث بها الرئيس الأمريكي جونسون إلى كوسجين على الخط الساخن بين واشنطن وموسكو، وأبلغه فيها أن القوات المصرية ترتب لهجوم على المواقع الإسرائيلية، وأنه إذا حدث ذلك فإن الولايات المتحدة سوف تعتبر نفسها في حل من تعهداتها للاتحاد السوفييتي بممارسة ضبط النفس.
وبالتالي طلبت موسكو من عبد الناصر عدم تنفيذ أي عمليات هجومية ضد إسرائيل، استجاب عبد الناصر ليعلن الإعلام المصري أن القاهرة ستتخذ موقفاً دفاعياً ولن تهاجم إسرائيل في ظل تعهدات واشنطن وموسكو بأنهما ستقفان معاً ضد من يبدأ بشن الحرب في المنطقة.
هذا الخطأ المريع من عبد الناصر وظّفته تل أبيب للإمساك بزمام المبادرة، ونجحت في شن هجوم خاطف اجتاحت خلاله سيناء وغزة والجولان والقدس الشرقية والضفة الغربية، وتمكنت من تدمير الجيش المصري في ظل ركون عبد الناصر إلى التعهدات الأمريكية التي كانت جزءاً من خطة خداع استراتيجي تبناها الرئيس جونسون بالتعاون مع تل أبيب.
تفاصيل تلك الأحداث سطرها بالتفصيل الدبلوماسي المصري السابق والسفير في واشنطن عبد الرؤوف الريدي في مذكراته التي نشرها بعنوان "رحلة العمر: مصر وأمريكا.. معارك الحرب والسلام". ورغم أن اشتراك أمريكا في تلك الخديعة أمر متفهم في ظل تحالفها مع إسرائيل، إلا أن محل الاستغراب هو موقف الاتحاد السوفييتي.
وقد تناول الريدي في مذكراته الدوافع التي قد تكون حركت موسكو للاشتراك في تلك الخديعة رغم تحالف نظام عبد الناصر معها، ويخلص إلى أنه بعد هزيمة 1967 حقق الاتحاد السوفييتي عدة مكاسب استراتيجية؛ إذ أصبحت مصر معتمدة بالكامل على التسليح السوفييتي، ووافقت على إقامة قواعد عسكرية سوفييتية على الأراضي المصرية وبلغ عدد الخبراء السوفييت بالبلاد قرابة 20 ألف خبير كما عقدت القاهرة معاهدة صداقة مع موسكو.
خديعة صدام لمبارك
شهد عام 1990 نموذجاً آخر للخديعة، ففي ذلك العام اتهم الرئيس العراقي صدام حسين الكويت بنهب البترول العراقي والإضرار باقتصاد بلاده، فسارع الرئيس المصري آنذاك حسني مبارك في 24 يوليو/تموز 1990 لزيارة نظيره العراقي في بغداد لنزع فتيل التوتر. ووعد صدام خلال اللقاء حسني مبارك بعدم شن أي هجوم على الكويت، فعاد مبارك من الزيارة مطمئناً ومصدقاً لتعهدات صدام، بحسب السفير الريدي في مذكراته.
ومع تزايد الأنباء عن تحركات عسكرية عراقية قرب الحدود الكويتية تحدث السفير الريدي عن اجتماعه مع بعض المسؤولين الكويتيين ومن بينهم مساعد وزير الدفاع الذي قال إن تحركات الجيش العراقي تهدف إلى الضغط على الكويت للحصول على أموال للخروج من ضائقته المالية، واستبعد أن تكون هذه التحركات مقدمة لعمل عسكري كبير ضد الكويت. ولكن سرعان ما غزا الجيش العراقي الكويت في 2 أغسطس/آب 1990، وتبين عدم مصداقية تعهدات صدام حسين لحسني مبارك.
المناورة السعودية قُبيل غزو العراق عام 2003
في ظل التوجس السعودي من نظام الرئيس العراقي صدام حسين اعتمدت الرياض على المناورة في بيان موقفها من الغزو الأمريكي المحتمل للعراق، فبينما أعلن ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز تفضيل بلاده استخدام الوسائل الدبلوماسية في التعامل مع النظام العراقي دون اللجوء لشن حرب قد تترك آثاراً سلبية على المنطقة، كشف الصحفي الأمريكي البارز بوب وودوارد أجواء ما خلف الكواليس في كتابه (خطة الهجوم)؛ حيث ذكر أن السفير السعودي لدى واشنطن بندر بن سلطان التقى بالرئيس "بوش" أربع مرات قبيل الغزو للضغط عليه لشن الحرب، وشجعه على عدم الاستجابة لمساعي الوساطة الهادفة لتجنب الحرب، وحذره من تداعيات بقاء صدام حسين في سدة الحكم.
ومن ثم حدث الغزو الذي أدى إلى انهيار العراق وامتداد النفوذ الإيراني بالمنطقة حتى صار يحاوط السعودية من عدة جهات، سواء من جهة مياه الخليج والعراق أو من جهة سوريا واليمن.
إن دروس التاريخ وتجارب الواقع تؤكد ضرورة عدم تصديق الدول لتعهدات الخصوم بعدم الاعتداء، والاعتماد بدلاً من ذلك على المؤشرات الميدانية المجمعة من مصادر متعددة بما يكفل التحقق من صحة المعلومات، بالتزامن مع رسم الخطط المناسبة للتعامل مع التهديدات بما يكفل التصدي لها قدر الإمكان. فالأخطاء في الحروب قد تكون هي الأخطاء الأخيرة؛ إذ ربما تتعرض الدولة للدمار أو الانهيار، وربما يسقط النظام ليحل محله نظام جديد يشرف المحتل على تأسيسه مثلما حدث في العراق عقب سقوط النظام البعثي عام 2003.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.