يفرّ بعض اللاجئين العرب من جحيم أنظمة القمع المتسلطة إلى أوروبا، ولكن ثقافة التسلط والاستضعاف المتراكمة من بيئة الاستبداد لا تزال تجري في دمائهم، ولا يجد بعضهم أي قناة لتفريغ هذه الغرائز التسلطية إلا على المستضعفين من أطفالهم، فيصطدمون بقوانين تمنع العنف ضد الأطفال، وتسحب الطفل من عائلته إذا ثبتت إساءة المعاملة، ويمر إثبات الإساءة عبر تقارير ميدانية وأحكام قابلة للاستئناف، تليها أحكام نهائية، وحينها ترتفع بعض الأصوات للتنديد باختطافات مزعومة للأطفال، وتعتمد هذه المزاعم على شهادات آباء مُدانين بالعنف وارتكاب الإساءات بأحكام قضائية، وبعد فشل هؤلاء الآباء في المواجهة القضائية القانونية يلجأون إلى استثارة العاطفة الدينية والقومية، والادعاء بوجود اختطافات منظمة لأطفال العرب والمسلمين، مع أن القوانين تُطبّق هناك على جميع المواطنين الأصليين والمقيمين الوافدين بدون تمييز ديني أو عرقي، والقوانين لم تُستحدث مع قدوم اللاجئين، فقد تم تشريعها في سبعينات القرن الماضي، وتعد القوانين السويدية من أكثر القوانين صرامةً في حماية حقوق الأطفال على مستوى العالم، وكان على اللاجئين الاطّلاع على هذه القوانين مسبقاً قبل طلب اللجوء، إذا كانوا لا يثقون بأطفالهم أو بحسن معاملتهم لأطفالهم، وكون أغلبية الأطفال الخاضعين للحماية من عائلات عربية لا يعني بالضرورة وجود استهداف للعرب، بقدر ما يعني تراكم ثقافة التسلط والاستضعاف في البيئة العربية.
كنت أتحاور مع أحد الأصدقاء حول هذه الظاهرة فسألني: هل هناك من هو أرحم بالطفل من أمه وأبيه؟ قلت له هذا السؤال ينبغي توجيهه للأطفال الذين يقررون الفرار من عائلاتهم، لماذا يختار الطفل ترك أمه أو والده؟ هل سيفعل ذلك بدون مبرر حقيقي، ودون وجود ضرر بالغ وأذى جسدي ونفسي لا يتحمله؟ لماذا لا نتساءل: ما الذي يدفع هؤلاء الأطفال لترك أمهاتهم وآبائهم وطلب الحماية؟
والتساؤل الأهم الذي نحتاج إلى طرحه على أنفسنا يتعلق بوضعية الأطفال في البيئة العربية، فعلى سبيل المثال لدينا في اليمن آلاف الأسر التي لا تجد غضاضةً في تسليم أطفالها لميليشيات العنف، لتزج بهم في الحروب، ولا يعودون إلا جثامين هامدة، أو بإعاقات دائمة، أو مختلين عقلياً ونفسياً، فهل هؤلاء الآباء والأمهات مؤتمنون على حماية أبنائهم؟ وهناك إحصائيات تؤكد وجود آلاف الحالات من الاعتداءات الجنسية الأسرية على الأطفال في الدول العربية، وتؤكد دراسة مصرية أن 90% من أمثال هذه الجرائم لا تصل إلى أجهزة الأمن. ألا يحتاج هؤلاء الأطفال إلى قوانين حماية شبيهة بالقوانين الموجودة في بعض الدول الأوروبية؟
وتؤكد الدراسات أن ثقافة العنف ضد الأطفال متجذرة في الثقافة العربية، وجميع قوانين الدول العربية تجيز للآباء ممارسة العنف الجسدي باستثناء تونس.
وترتفع معدلات ممارسة العنف الأُسري ضد الأطفال في الوطن العربي بمستويات كبيرة، وتشير بعض الدراسات إلى أن 4 من كل 5 أطفال يتعرضون للعنف، وتؤكد دراسة أخرى أن 8% من إجمالي الناتج المحلي العالمي يتم إنفاقه في معالجة المشكلات الصحية والبدنية والعقلية والنفسية، الناتجة عن ممارسة العنف ضد الأطفال. وحسب إحصائيات اليونيسيف فإن اليمن والعراق تتصدران قائمة الدول العربية في ممارسة العنف ضد الأطفال، ورغم القوانين التونسية التي تمنع العنف، فإن الإحصائيات تؤكد ارتفاع جرائم العنف ضد الأطفال في السنوات الأخيرة في تونس، وسجلت دوائر الأمن الوطني بالمغرب في الفترة ما بين الأعوام 2007 و2012 ما يزيد على 11 ألف حالة عنف جنسي بالمغرب ضد الجنسين.
هذا الواقع المرعب الذي يعيشه الأطفال في الوطن العربي يغيب عن بال الكثير من المتحمسين في مواقع التواصل الاجتماعي مع قضايا سحب الأطفال من الآباء المدانين بارتكاب جرائم عنف ضد أطفالهم، في السويد رغم ما يحيط بهذه القضايا من معلومات مظللة، يتم ترويجها في مواقع التواصل، عن وجود اختطافات لأطفال العرب والمسلمين، وتختلط في هذه الأخبار الحقيقة بلغة الشحن العاطفي والمبالغات، وإخفاء بعض الحقيقة وإظهار بعضها، وعند التدقيق في كل قضية نجد أن وراء سحب كل طفل مشكلة إساءة حقيقية، فبعض الآباء أو الأمهات المدانين بالإساءة من المختلين نفسياً أو المدمنين، وهذه المبالغات والمعلومات المضللة توفر مادة دسمة لأحزاب اليمين المتطرفة، لتغذية ثقافة الكراهية والتحريض أكثر ضد اللاجئين والمسلمين.
وكما أشرنا سابقاً، فإن السويد تعد عالمياً من أفضل الدول في تطبيق القوانين الصارمة لحماية الطفولة، وقد قامت السويد بتأهيل المواطنين الأصليين للتعامل مع هذه القوانين. وتحتل السويد مكانة مرموقة في احترام حقوق الإنسان، وتجعلها هذه المكانة وجهةً مفضلة للباحثين عن اللجوء، وفي تقديري أن الضجة الأخيرة تقف خلفها فجوة ثقافية بين آباء قادمين من مجتمعات يعد العنف جزءاً من نسيجها الاجتماعي والثقافي، وتعتبره حقاً مشروعاً في القوانين المحلية، إلى مجتمع يُطبّق قوانين صارمة للدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق الطفل.
ختاماً: أتمنى أن يستجيب المسلمون في السويد لدعوة مجلس الإفتاء السويدي، بعقلنة هذه الاحتجاجات، والتركيز على معالجة بعض التجاوزات، وبلورة مطالب معقولة، كالسماح للوالدين بزيارة الأطفال وإعطاء الوالدين فرصة أخرى لإثبات حسن رعايتهما لأبنائهما، وتأهيل عائلات من المسلمين تعمل على إيواء ضحايا الإساءات من الأطفال اللاجئين، مع التركيز على تأهيل الآباء والأمهات من اللاجئين، على كيفية التعامل مع القوانين الصارمة في السويد لحماية الطفولة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.