لطالما تساءلت: لم يتعامل البعض مع التخلي وكأنه فن؟ تجدهُم يُتقنونه ويستسهلونهُ إلى الدرجةِ التي تظنُّ فيها أنهم بلا قلبٍ وبلا رحمة. لا تكادُ تديرُ وجهكَ عنهم حتى يتركوكَ بمفردكَ تُكملُ مشواراً قد وعدوكَ ذاتَ يوم بأنّهم سَيكملُونه معكَ خطوةً بخطوة. فتغدو كما المجنون. تردّدُ ما قالوه لكَ عن ظهر قلب وأنتَ تعلم سراً أن لا مكانَ لكَ في قلوبهم. تتساءلُ إنْ كانتِ الذكرى تدقُّ أبوابهم أم أنَّها تفعلُ ذلك معكَ فقط. ترصدُ آثارَهم كما المحققين وتتعقبُ كلماتهم. وتقرأُ ما وراءَ عباراتهم. في محاولةٍ منك لمعرفة ما إنْ كانت تلكَ الكلمات قدْ كُتبت لكَ أم لسواك.
حتى إذا علمت أنَّكَ غير معنيٍّ بها عُدتَ أدراجكَ مُحملاً بالخيبة. تبحثُ عمَّن يعلّمك فنّ التخلّي. ولأنّنا أيضاً مجموعة من البشر. نحملُ بين أضلُعِنا قلوباً رقيقة وأرواحاً ضعيفةً. يحدثَ أن ينكسرَ شيءٌ ما بداخلكَ من صديقٍ. من قريبٍ. ومن حبيب. وربما من عابرِ سبيل.
بكلمات بسيطة لا تُلقي لها بالاً وأفعال أحياناً ما تكونُ عادية لا تحسِبُ لها حساباً. قدْ تكسر قلباً دونَ أن تشعر. هي أيضاً وقبلَ اليوم لم تكنْ لتصدقَ بأنَّه سيكسرُ قلبها ويتخلَّى عنها.. كانَ يعتبرُها قضيته التي سيناضلُ من أجلها حتى النهاية ولأنّها كذلك فقدْ انطلتْ عليها الحيلة وصدقته.
تذكرُ ذلكَ اليوم تماماً. بالتاريخ والسنة والساعة. تتمنّى لو أنَّ تلكَ اللَّحظات تُمحى من ذاكرتها. وتصبحَ نسياً منسيّاً. ولكنّها الذكرى تعبثُ بك حتى يتعذرُ عليكَ العودة كما كنتَ سابقاً. بلْ إنّه الحنين. ذاكَ الذي يجعلُ روحكَ تائهةً في الزّحام تبحثُ عمَّنْ يلمَّ شتاتها.
كانتْ على ثقة بأنه لا يجيد فن التخلي الذي يتقنه الكثير من أقرانه. فقد كان بالإضافة إلى أنّه يحبها. متمسكاً بكلّ ما يساعدهُ على الصمود، هو الذي خسر بلاده ولم يسبق له أن رآها. لا يريد لقلبِه أن يخسرَها هي أيضاً. لذا وثقتْ به وأصبحتْ ترى في نفسِها أهمَّ ما يصمُدُ من أجلهِ المرء.
ولكنّه وبينَ ليلة وضحاها، عبرها. وتجاوزَها ومضى دون أن يقدّم لها سبباً أو توضيحاً أو حتى تبريراً. كانَ لغيابهِ المُفاجئ عنها وقعُ الصَّدمةِ الأولى. كيفَ تقفُ حائراً فلا تعلمُ ماذا تفعلُ وماذا تقول وكيف ومتى ستتقبلُ تلكَ الصَّدمة وتنهار. تكتفي بالتفكير ثمَّ التفكير إلى أنْ تجدَ نفسكَ مُحطّماً. خاصةً عندما تبدأُ ذاكرتكَ بإعادةِ شريطِ ذكرياتك أمام عينيكَ. عندها فقط. تعلمُ أنّك لنْ تعودَ لتلتقيَ بهذا الشَّخص مرةٍ ثانية. وحينَها تتأكدْ بأنَّ الصّدمة قد أخذتْ مفعولَها في قلبكَ وجسدك.
هذا ما حدثَ معها بالفعل. في البداية اكتفت بعد الأيام. يوماً بعد يوم وكأنّها أعوام. ثم ومعَ حذف أول صورة ورسالة له. ذرفت من الدموع الكثير. حينها فقطْ أيقنتْ أنَّ معركتَها مع النسيان قد بدأتْ. تلوم نفسها دائماً. لِم لَم تكن الطرف المُبادر بالتخلّي؟ على الأقل لن تنظر وراءَها ولن تتأثرَ بذكرى أو وعدٍ نُسِيَ على قارعةِ الطريق. ولكنَّ أسئلةً كهذه عادةً ما تبقى مُعلَّقة بلا إجابة. كأيّ ذكرى لا تُمحى بسهولةٍ كان نسيانُه وتجاوزُه صعباً عليها. على الرغم من أنّه امتلك الشَّجاعة ليمرَّ على كلَّ تلكَ الذكريات دون شعورٍ بالذنب أو بتأنيبِ الضمير.
ولأنَّ مثلَ هذهِ القصص تحدُث مع الكثير. تقفُ حائراً لتتساءل: كمْ مِن العُمر والوقتِ يكفينا لنمتلكَ نحنُ أيضاً تلكَ الشَّجاعة. شجاعةَ التخلّي عن كلّ شيء دونَ الالتفاتِ إلى الوراء. وعلى مبدأ تعدّدت الأسباب والتخلّي واحد. قد يأتيكَ التخلّي على هيئةِ "صديقٍ" اختارَ أن يُدير لكَ ظهره ويترككَ بمفردك وأنتَ في أمسِّ الحاجة إليه.
أو ربما على هيئةِ "حبيب" شاركتْه كلّ لحظاتكَ الجميلة والتعيسة ورسمتَ معه خططكَ الألفيةَ للعيشِ معه أبدَ الدهر. ليخذلكَ في النهاية ويُكمل حياتَه الجديدة مع سواك. ويجعلكَ تندم لأنَّك اخترتَه منذُ البداية.
أو على هيئةِ "وطن" أحببتَه جداً فأغلقَ كلَّ الأبوابِ في وجهك. ورماكَ بالرصاص بعدَ أنْ قدَّم لكَ كلّ أسباب الانتحار.
أو على هيئة "كلمات".. كأنْ تحاولَ أن تكتبَ مقالاً أو تدوينة مثلاً فتجدَ أنَّ الأفكار والعبارات التي ترقصُ في مخيلتك ترفضُ أن تخرجَ لتترجمها على أوراقك التي بعثرْتَها أمامك.
أما وبعد قراءتي لكتاب "فن التخلّي" لعبد الله ناصر، وجدتُ أنّه قد يأتيكَ أيضاً على هيئة "حياة سريعة" كأنْ تستيقظ لتحتفلَ بعيد ميلادك الواحد والعشرين فتجدُ نفسك رجلاً في الأربعين وبجانبك امرأةٌ تعتني بكَ وتهتم بشؤونك وكأنها زوجُك.
أو على هيئة "فارق هائل في التوقيت"، حيث يبتعدُ عنكَ ظلك فلا تملكُ القدرة لأنْ تلحق به أو تستعيده.
أو على هيئة "عقوق" فتنصُبُ كميناً لوالدك وتقوم باستدراجه بضربِ أخيك والصراخِ على أختك ومضايقةِ الجيران فيتجاهلكَ وتستمرُ أنت في استفزازهِ عبثاً لتكتفي صورتُه المُعلّقة في الجدار بتوبيخكَ لا أكثر.
أو "أنْ يخلُط الباب بينكَ وبين الزوار ويشيخَ الطريق وتفقدَ المنارةُ بصرَها فتغدو مثل نفق"، كما تقدّمه لكَ قصة "خيارات التقدم في السن".
أو أنْ " تُقْدِم على الانتحار فتُلقي بجسدكَ في منتصفِ الطريق ويرتمي ظلّكَ ليدفعَ عنك الموت ببسالة وتعود إلى بيتك تاركاً ظلّك خلفك ينزفُ بلا ضمادات".
"قفزة الثعلب" "رزنامةٌ من يوم واحد" "شيخوخة" و"انفصال" "حيوات جان فالجان" "حدبات لا مرئية "بعد أربعة أيام من الحرب" "حياة على الرَّف" "رصاص متجول" "أحزان ثقيلة" "لحياة أخرى" "لامبالاة" وغيرها من قصص الكتاب الذي يحتوي على 81 قصة. جميعها كُتبتْ بأسطرٍ قليلة. تتنوعُ بين الحزن والفرح. رسمها الكاتب بأسلوبٍ لطيف جعلها تبدو في بعض الأحيان كقصيدة نثر. لِما تتميّز به من شعرية ولما تحتويهِ من صور. فتمتزجُ بين الخيال والواقع. وتبتعد عن الحشْو لتقتربَ من الدهشة التي يبحثُ عنها كلّ قارئ.
نصيحتي للّذين ينكسرونَ بلا ضجيج. أن يتعلّموا فنّ التخلّي. كما وصَفه عبد الله ناصر. عبرَ جمْعِ الضحك والبُكاء من زوايا الفم والعينين ولملمةِ أصابعِ الحب ومسحِ المواعيد من فوقِ الطاولة والمُعانقات من تحتها. وكنسِ الخُطوات اللاَّهثة إلى اللّقاء. ورمْيِ الماضي والذكريات جانباً. والكفّ عن تخيُّل الذكرياتِ الجميلة.
وَ"لا بدَّ أيضاً من رتْقِ الجوْرب والقدمين والخُطى والطريق؛ لأنه في النهاية لا يبقى من الجبلِ سوى تلكَ الحدْبة التي على ظهره".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.