من المؤكد أنّ عالم الرياضة بات منذ سنوات عديدة، بمثابة حركة اقتصادية دؤوبة يتحرك فيها الأشخاص بنشاط وطموح وآمال، وتُصرف فيها الأموال بسخاء وبحنكة وحتى بخبث واحتيال، من أجل تحقيق إنجازات شرفية جماعية وفردية وأيضاً نجاحات تجارية وخاصة للشركات الراعية للأندية وللرياضيين.. ولعل من أبرز المؤسسات الناجحة في هذا المجال، شركة "ريد بول" لمالكها النمساوي ديتريش ماتيشيتز.
وقبل الحديث عن الاستراتيجية الناجحة في الاستثمار الرياضي لشركة "ريد بول"، رأيت أنه من الأفضل التعريف بقصة إنشاء الشركة وحكاية مشروبها "الطاقوي" الذي يلقى رواجاً كبيراً لدى الشباب في شتى أنحاء العالم.
الحكاية بدأت من تايلاندا
ففي عام 1982، قام رجل الأعمال النمساوي ديتريش ماتيشيتز، برحلة عمل إلى هونغ كونغ بجنوب شرق الصين، والتي كانت تابعة في ذلك الوقت لبريطانيا، قبل عودتها إلى السيادة الصينية في سنة 1997، المهم.. وبينما كان ماتيشيتز في فندق إقامته لاحظ كثرة طلبات الزبائن لمشروب آسيوي، وعلم من البعض منهم أنه مشروب يساعد على مقاومة نقص النوم.
وبصفته مقاولاً ناجحاً، فلم يكن من الصعب على ماتيشيتز، معرفة الشركة المنتجة للمشروب "السحري"، المُسمى "كراتينغ داينغ"، المُخترع في عام 1975، والمطلوب بكثرة في جنوب شرق آسيا.
والشركة المنتجة هي الشركة الصيدلانية "تي سي فارماسوتيكال" التايلاندية، التي كان يملكها رجل الأعمال التايلاندي تشاليو يوفيدهيا، فلم يكن من الصعب أيضاً على رجل الأعمال النمساوي الالتقاء بتشاليو لمناقشة إمكانية عقد صفقة تجارية ضخمة، فتم الاتفاق على ترويج السلعة بأوروبا من خلال تأسيس شركة جديدة، تُسمى "ريد بول غامبه"، يملك كل واحد منهما نسبة 49% من أسهمها، فيما يملك نجل تشاليو نسبة الـ2% المتبقية.
وقد استثمر الرجلان مبلغ 1 مليون دولار في الشركة الجديدة لزيادة إنتاج "كراتينغ داينغ" وتسويقه بأوروبا، من 1984 إلى 1987، لكن بإحداث تغيير في بعض مكونات المشروب، وفق الخاصية الأوروبية، وذلك بتحويله إلى مشروب غازي وتخفيض نسبة السكر فيه.
وفي سنة 1987 أطلقت الشركة مشروبها الجديد بالنمسا، وسمته "ريد بول"، أي "الثور الأحمر" باللغة الإنجليزية، والذي لم يتأخر في غزو السوق الأوروبية ومعظم دول العالم، وحقق نجاحاً خارقاً خاصة لدى فئة الشباب، حتى إنه وصل ليشكل في سنة 1997 نسبة 75% من سوق مشروبات الطاقة بالولايات المتحدة الأمريكية.
استقطاب الشباب من خلال الرياضات الخطرة
وبما أنّ الشباب هم الفئة الأكثر تناولاً لمشروبات الطاقة، فقد سعت شركة "ريد بول" لاستقطابهم في البداية من خلال توزيع مشروبها مجاناً وبكمية كبيرة على الطلبة بالجامعات، ثم لجأ مسؤولو التسويق لاستراتيجية جديدة تتمثل في تمويل الرياضات الخطرة، التي يُجازف أبطالها بحياتهم من أجل تحقيق إنجازات خارقة وتحطيم أرقام قياسية خيالية كالقفز من أعلى البنايات الشاهقة أو التزحلق على الثلج بجبال وعرة، وهي المغامرات التي تمنح لمشاهديها- وخاصة الشباب- فكرة مؤكدة شعورياً ولا شعورياً بأنّ تلك الإنجازات ما كانت لتتحقق لو لم يتناول رياضيوها مشروب "ريد بول".
ومن أبرز الإنجازات الرياضية الخارقة التي مولتها ورعتها شركة "ريد بول" هي قيام النمساوي فيليكس باومغارتنر، يوم 14 أكتوبر/تشرين الأول 2012 بالقفز بالمظلة من على علو يُقارب 39 كلم، وبالضبط 38.969.4 كلم، ونجح من خلاله في أن يكون أول رجل يخترف بسرعته جدار الصوت، بحيث وصلت سرعته 1342.8 كيلومتر في الساعة، إذ قفز أولاً قفزة بسقوط حر حتى تعدت سرعته سرعة الصوت (1357.6 كلم في الساعة)، وهو السقوط الحر الذي استمر لمسافة 36.402.6 كلم، ثم فتح المظلة ووصل إلى الأرض في رحلة قفز دامت 9 دقائق و3 ثوان، مسجلاً بذلك أعلى سرعة للسقوط الحر وأعلى ارتفاع وصل إليه الإنسان بمنطاد.
انتقادات بسبب وفيات لمغامرين خارقين
ولم تكن قصة "ريد بول" مع المغامرات كلها نجاحات وسعادة، بحيث تعرضت الشركة لانتقادات عديدة من طرف عائلات وأصدقاء ومحبي المغامرين الذين مولتهم وماتوا خلال محاولة قيامهم بالإنجازات الخارقة، على غرار الأمريكي إيلي تومسون المُتوفى أثناء قفزه من إحدى الصخور العالية والوعرة لبلدة "لوثربرينن" السويسرية في عام 2008، والسويسري إيلي غيجينشاتز الذي مات بعد قفزه من أعلى برج "صن رايز"، مقر الشركة السويسرية للهاتف النقال التي تحمل نفس الاسم، بمدينة زيوريخ، واصطدامه بإحدى البنايات.
وبما أنّ شركة "ريد بول" اهتمت منذ البداية بالاستثمار في الرياضات الخطرة، فإنّها كانت تمول في عام 1995 الفريق السويسري "سوبير" لسباق السيارات "فورمولا وان" ثم فريق "أروفس" البريطاني في عام 2001، ثم قررت الشركة في أواخر عام 2004 شراء فريق "جاغوار" من شركة " فورد" وقامت بتغيير اسمه إلى "ريد بول راسينغ"، وقد سطع اسم هذا الفريق بفضل مُتسابقه الألماني سيباستيان فيتيل الذي توج باللقب العالمي لـ"فورمولا وان" في أربع سنوات متتالية، 2010 و2011 و2012 و2013.
ثم اشترت الشركة في عام 2005، فريق "ميناردي" الإيطالي وأعادت تسميته بـ"تورو روسو"، أي "الثور الأحمر" باللغة الإيطالية، لتصبح بذلك "ريد بول" مالكة لفريقين اثنين مشاركين في بطولة العالم للفورمولا وان.
سالزبورغ ولايبزيغ لكرة القدم مثالاً لنجاح الشركة
وأدركت مجموعة "ريد بول" مع مرور الوقت أنه من الضروري عدم الاكتفاء بالاستثمار في الرياضات الخطرة للمحافظة على مكانتها الرائدة في السوق العالمية، وأنه يجب أن تلجأ إلى الرياضة الأكثر شعبية في العالم، ونعني بها كرة القدم، فبدأت مهمتها بالاستحواذ في عام 2005 على النادي الذي يمثل المدينة المتواجد بها مقر الشركة وهو "أوستريا سالزبورغ"، وقامت بتغيير اسمه إلى "ريد بول سالزبورغ"، بعد صراع قانوني بالمحاكم النمساوية مع مجموعة كبيرة من أنصار ومحبي الفريق الذين كانوا يرفضون بيع النادي وأرادوا أيضاً فيما بعد تأسيس فريق يحمل اسم "أوستريا سالزبورغ" ويحتفظ بشعار النادي القديم وبتاريخه.
وبعد النمسا، سرعان ما اشترت الشركة نادياً لكرة القدم بالولايات المتحدة الأمريكية، في عام 2006، وهو "ميترو ستارز" لمدينة نيويورك والذي تغير اسمه إلى "ريد بول نيويورك"، وانضم لصفوفه، فيما بع، بعض نجوم الكرة العالمية، أبرزهم الفرنسي تيري هنري الذي حمل ألوانه من 2010 إلى 2014.
وفي عام 2009 اقتحم رجل الأعمال المثير للجدل، ديتريش ماتيشيتز، الكرة الألمانية، من بوابة فريق صغير، وهو "إس. في. ماركراندستادت" التابع لإحدى ضواحي مدينة لايبزيغ، والناشط بدوري الدرجة الخامسة الألماني، ولكن بما أنّ القوانين الألمانية تمنع تسمية الأندية الرياضية بأسماء الشركات الاقتصادية، فقد تم تغيير اسم الفريق المغمور إلى نادي "رازن بالسبورت لايبزيغ" والذي يعني باللغة الألمانية "رياضة الكرة على العشب" ولكن حرفيه الأولين "RB" يرمزان ويوحيان مباشرة لـ"ريد بول".
وقد نجح النادي في الصعود في سنة 2016 إلى الدرجة الأولى للدوري الألماني، ثم شارك في العام الموالي 2017، في مسابقة دوري أبطال أوروبا لكرة القدم، بعدما أنهى موسمه الأول في " بوندسليغا1″ في مركز الوصافة بعد العملاق بايرن ميونيخ.
وبغض النظر عن تنافس فريقي "ريد بول" النمساوي والألماني على الألقاب المحلية والظهور بوجه مشرف في المسابقات الأوروبية، فإنّ الناديين يعتمدان على سياسة مُربحة من خلال جلب لاعبين شبان مغمورين، من أندية أوروبية صغيرة، ثم بيعهم بمبالغ ضخمة لعمالقة أندية القارة العجوز، بعدما يكونون قد واصلوا تكوينهم الرياضي بامتياز مع سالزبورغ ولايبزيغ وتألقوا معهما بشكل لافت.
ساديو ماني وهالاند تكونا مع "ريد بول"
وأخص بالذكر هنا نادي ريد بول سالزبورغ الذي تخرج منه لاعبون مثل السنغالي ساديو ماني والغيني نابي كيتا (ليفربول الإنجليزي) والنرويجي إيرلينغ هالاند (بوروسيا دورتموند الألماني) والفرنسي دايوت إيباميكانو (بايرن ميونيخ الألماني) والياباني تاكومي مينامينو والزامبي باتسون داكا (ليستر سيتي الإنجليزي).
كما تملك شركة "ريد بول" منذ عام 2020 نادياً برازيلياً هو "ريد بول براغانتينو" بولاية ساو باولو، بعدما كانت راعية له في سنة 2019، لما كان الفريق ينشط في دوري الدرجة الثانية البرازيلي، وقد بلغ النادي بتسميته الجديدة، نهائي مسابقة كأس أمريكا الجنوبية "سود أمريكانا" في عام 2021 وانهزم أمام مواطنه "أتلتيكو باراناينسي" بنتيجة هدف لصفر.
ويُسمى الفريق الرديف لنادي "ريد بول براغانتينو" "ريد بول برازيل" وهو ينشط بدوري الأقسام الجهوية.
قبل الختام، أشير إلى أنّ التايلاندي تشاليو يوفيدهيا، مخترع المشروب الأصلي لـ"ريد بول" قد توفي في عام 2012، عن عمر 89 سنة، فيما لا يزال الملياردير النمساوي ديتريش ماتيشيتز، وهو في سن الـ77، يسعى لخوض تحدّ رياضي وتجاري جديد بشراء أحد الأندية الإنجليزية، حتى ولو كان فريقاً صغيراً وتكرار تجربة نادي لايبزيج الألماني معه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.