تحتل الضغوط النفسية على البشر في هذا العصر المصاب بالجنون مكاناً رئيسياً في قائمة مسببات الأمراض العضوية والنفسية، فما بين ضغوط الحياة اليومية، في العمل والبيت، والحروب، والفقر الناتج عن الوضع الاقتصادي المتردي، وانعدام الأمن، والحالة السياسية غير المستقرة، يبقى الشخص مضغوطاً نفسياً، تتفجر داخله طاقة كبيرة، وكأنه يتعرّض لخطر مستمر دون أن يتم تصريفها في الدفاع عن النفس، مخلّفة آثارها الممرِضة.
الضغط النفسي هو محاولة الجسم الدفاع عن نفسه لمواجهة الحالات الطارئة التي قد تضر به، فعندما يواجه الشخص حدثاً يستقبله على أنه خطر يهدد أمنه أو حياته أو حياة الأشخاص الذين يرتبط معهم بعلاقات حميمة، ينتج عنه رد فعل لا يمكن إبعاده، فتتولد آثار نفسية وجسدية واضحة لديه، وتختلف ردة الفعل هذه من شخص إلى آخر، حسب حالته النفسية والعقلية وخبراته الحياتية.
تحدث ردة الفعل هذه بشكل تلقائي وطبيعي، بل ومفيد في بعض الأحيان، فعلى سبيل المثال، عندما تشاهد ابن الجيران ذا العامين من عمره يهم بالقفز من شباك منزلهم الذي يقع في الطابق الثالث تجد قلبك يخفق بشدة، وتتنفس بسرعة كبيرة، وربما يكون لديك ألم مزمن في قدمك، ولكن وقت الحدث لا تحس به، بل تندفع بقوة لم تعهدها لتلقُّف الصغير. وشاهدنا حالات نجحت فيها تلك المحاولات، ولم يتأذَّ الطفل، وقد يستغرب الشخص من أين له هذه القوة التي تفجّرت داخله فجأة، ومكّنته من تنفيذ ما قام به. في هذه الحالة الضغط النفسي الذي تعرض له الشخص كان مفيداً لدرء خطرٍ كان على وشك الحدوث.
ومثال آخر على الضغط النفسي؛ الأطفال الذين عايشوا الحروب تراهم يقفزون ويستلقون أرضاً ويخبّئون رؤوسهم عند سماعهم لأصوات مرتفعة مثل هدير محرك جرافة أو شاحنة، وكأنهم يعيشون أحداث الحرب مرة أخرى. فهذه حالة غير طبيعية من الضغط النفسي الذي يكون له مردود نفسي على الطفل، بسبب ما مر به من أحداث مخيفة حفرت آثارها التي يصعب إزالتها في نفسه.
وجميعنا يعرف أن ما زاد عن حده انقلب إلى ضده، فإذا استمرت هذه الحالة الدفاعية لفترة طويلة، وبقي الشخص واقعاً تحت تأثير الضغط النفسي، فإن ذلك يمكن أن يُسبب التوتر والقلق والاكتئاب، واضطرابات نفسية أخرى، تظهر على شكل أعراض جسدية مختلفة كألم في الصدر، والدوخة، والإسهال والإعياء… إلخ.
أسباب الضغط النفسي
مسببات الضغط النفسي كثيرة جداً ومتنوعة، بحيث لا يمكن حصرها، وتختلف مسببات الضغط النفسي من شخص إلى آخر، فما يعتبره شخص حدثاً مقلقاً قد يعتبره آخر أمراً تافهاً، قد لا يكلّف نفسَه عناء الالتفات إليه.
فالخطورة لا تكمن في قسوة الحدث الخارجي، وإنما في استعداد الشخص ومدى تقبله لهذا الحدث، فقد نجد شخصاً يتعرض لضغط نفسي عالٍ إذا قام جنود الاحتلال بتفتيش منزله، فينعكس ذلك عليه، فيصبح مكتئباً حزيناً شارد الذهن يعاني من قلة النوم وكثرة الكوابيس الليلية؛ خوفاً وقلقاً على نفسه وأبنائه، بينما نجد آخر يهدم الاحتلال بيته فنراه يتصرف بهدوء وسكينة، ويحمد الله أن الله سَلَّم فهُدم البيت ولم يُقتل أحد من العائلة.
الآثار الصحية التي يُسببها الضغط النفسي
تظهر أعراض مختلفة لدى الكثير من الناس نتيجة القلق والمواقف الضاغطة، وإذا قمنا بتقسيم الضغط النفسي لثلاثة أنواع فإن النوع الأول يكون الضغط النفسي الحاد، الذي يصيب جميع الناس لفترة من الوقت وينتهي، ويرافقه أعراض منها:
الاضطرابات النفسية: عصبية، وقلق، وارتباك، وإحباط، ونفاد الصبر، واضطرابات النوم.
الاضطرابات البدنية: إرهاق، وصداع، وارتعاش، وحرقة في فم المعدة، وحموضة المعدة، وإسهال، وإمساك، وامتلاء البطن بالغازات، وضغط الدم، وخفقان القلب، وتعرّق راحَتي الكفين، والدوار، وقصور في التنفس، وتشنج عضلي، واضطراب الطاقة الجنسية.
الاضطرابات العقلية: ارتباك في الفهم، وعدم القدرة على التركيز والتذكر، والتردد في اتخاذ القرار.
مثال: عندما كنت تتقدم لامتحان في المدرسة، أو تدخل لمقابلة مهمة، ألا تشعر بألم في بطنك وشعور ضاغط برغبتك في الذهاب إلى المرحاض، وعدم قدرتك على تذكّر المعلومات للوهلة الأولى عند تسلمك ورقة الامتحان، نتيجة الضغط النفسي الذي يسببه لك الامتحان؟
توصّلت دراسة إلى أن الضغوط النفسية الشديدة تُقصر عمر الإنسان؛ مثل الضغوط النفسية الناتجة عن الطلاق، أو فقدان العمل والبطالة، أو المعاناة من إعاقة دائمة… إلخ. وارتبطت كثرة الضغط النفسي بحالات الموت الناتجة عن أمراض القلب، والسرطان، وأمراض الرئة، والحوادث، وتليف الكبد، والانتحار.
النوع الثاني هو الضغط النفسي الحاد المتكرر: ويظهر لدى الأشخاص الذين يعانون من ضغوط نفسية متكررة، ومن حياة مضطربة جداً، فيتصف الشخص بالتسرع وشدة ردود أفعاله لأي سبب، كما يكون سريع الاستثارة والغضب، ويظهر مرتبكاً ويعبر عن ارتباكه بصورة عدائية، تظهر عليه علامات القلق المستمر، ويعاني من: صداع شديد، وتوتر، وألم في الصدر، وأمراض في القلب.
النوع الثالث: الضغط النفسي المزمن: يتميز بضغط نفسي يستمر لفترة طويلة تلازم حياة الشخص، وغالباً ما يكون مقترناً بمعاناة الشخص من مشاكل دائمة مثل الفقر، والأمراض المزمنة، والتفكك العائلي، والحرمان المزمن وعدم القدرة على توفير احتياجاته.
وأهم ما يميز هذا النوع: فقدان الشهية، أو الإكثار من تناول الطعام، وزيادة الوزن، والشعور بعدم الأمان، وضعف النظام المناعي، وأمراض القلب، وآلام مزمنة في المفاصل والظهر والفك والأكتاف، وعصبية مفرطة، وضعف في التركيز وكثرة النسيان، وقرحة في المعدة، وتضاؤل القدرة على مقاومة مسببات الضغط النفسي، واكتئاب، وإرهاق مزمن، وصداع شقيقة، وعزلة، وصعوبات في الكلام مثل التأتأة، والانفجار في البكاء لسبب غير واضح، واندفاعية زائدة، والميل لتناول الكحول والمخدرات، وسهولة تعرضه للفزع، والتدني في تقدير الذات، والخوف من الفشل والمستقبل.
كيف أواجه الضغط النفسي؟
في معظم الحالات يمكنك أن تخفف من ضغطك النفسي بنفسك، وإليك بعض الخطوات التي تزيد من قدرتك على مقاومة الضغوطات النفسية:
1- حدِّد الأشخاصَ والأشياء التي تُسبب لك ضغطاً نفسياً وتجنبها إن كان بمقدورك، وتعامَل معها بهدوء وضبط نفس إن اضطررت لمواجهتها.
2- تعلَّم كيف تُنظم وقتك وتُرتب أولوياتك، فهذا يقلل من توترك.
3- أعطِ لنفسك فترات استراحة أثناء العمل أو الدراسة، ربع ساعة لكل ساعة ونصف الساعة، لتجدد نشاطك، وتُقلل من الضغط النفسي لديك.
4- ضع لنفسك أهدافاً واقعية، ولا تقارن نفسَك بالآخرين، فلكلٍّ احتياجاته وقدراته.
5- هناك مَثل عربي يقول "هوِّن الدنيا تهون"، انتبه إلى نفسك، قلِّل من شدة ردود أفعالك الانفعالية، فتوترك ناجم عن شعورك بوجود خطر ما يهددك، فلا تجعل من كل مشكلة تواجهها أمراً كارثياً.
6- لا تنظر إلى السلبيات فقط، بل ابحث عن الإيجابيات في كل ما تتعرض له من صعوبات وظروف قاسية، فمن سنن الله في خلقه أن يعقب الشر الذي نتعرض له خيرٌ وفير، فأنى للفجر يا تُرى أن يولد إذا لم يكن هناك رحم ليلٍ شديد الظلمة؟
7- رياضة المشي السريع لمدة 20 دقيقة يوميّاً تُنمي قدرتك على مقاومة اضطرابات الضغط النفسي.
8- ابتعد عن التدخين تماماً، والإفراط في شرب القهوة أو أي شيء يحتوي على مادة الكافيين.
9- خُذ حاجتك اليومية من النوم، فالنوم الكافي مهم جداً للتقليل من الاضطرابات النفسية.
10- حسِّن نظرتك لذاتك، ولا تهن نفسك، ذَكِّر نفسَك بالأشياء الحسنة التي قمت بإنجازها سابقاً، وراجع حساباتك، وصحِّح أخطاءك، ولا توجه اللوم المتكرر لنفسك، إنما ابدأ من جديد.
انتبه: كبت المخاوف والقلق وعدم التحدث عنها سيقلل من قدرتك على مقاومة الضغط النفسي، واعلم أن الحديث عمّا يؤرِّقك هو علاج فعال في معظم المشاكل.
تذكر
وكن على ثقة أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك إلا بإذن الله، فذكرك الله يقوي من عزيمتك، ويرفع من معنوياتك، وانظر إلى المجتمعات البعيدة عن الله، فنسبة الانتحار والأمراض الناتجة عن الضغط النفسي ترتفع بشكل جلي، رغم أنهم يحيون حياة يسيرة، ونجد النقيض من ذلك بالمجتمعات التي يؤمن أهلها بالله، فتعمل عقيدتهم على حمايتهم من الضغط النفسي وآثاره الخطيرة، فتهون الصعاب أمامهم، وتصغر الدنيا وما فيها في أعينهم.
فكلما ضاقت عليك الدنيا قل يا الله، فهو خير مجيب لك، وخير مفرج لكروبك وهمومك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.