في فصل شتاء كل عام، تطالعنا تقارير صحفيّة وصور عن معاناة مخيمات النزوح واللجوء في هذا البلد أو ذاك، الذي يعاني أهله من البرد القارس ومن غياب وسائل التدفئة.. وتكاد القلوب تتفطر حين نرى صور أطفال يرتجفون من البرد خارج خيامهم، أو تغرق أقدامهم في سيول المياه والثلوج، فكيف حين نسمع عن أطفال ماتوا من البرد بعد عجز الوالدين عن تأمين وسائل التدفئة لهم.. في مخيمات لبنان أو الشمال السوري أو العراق وغيرها.
أمام هذا الواقع الموجع، تسعى المنظمات والجمعيات الأهليّة لسدّ احتياجات أولئك القابعين قسراً في المخيمات، فتقوم بتوزيع ما يتيسّر لها من أغطية ومازوت و"صوبيات".. لكن إذا كان المقيم في بيت مقفل آمن لا يتحمّل برد الطقس، وإذا كان الأشخاص الكبار يكابدون الصقيع وقسوة العيش في تلك الظروف، حيث يقيمون في خيام ضعيفة ويفتقدون أدنى سبل الوقاية من البرد القارس.. فكيف بالأطفال والرضّع؟
سؤال راودني حين كنت أقلّب صور أطفال يرتجفون من البرد في بعض مخيمات اللجوء، ناهيك عن حرمانهم من حقهم الطبيعي في التعليم: هؤلاء ما ذنبهم؟ لماذا نأتي بهم إلى الدنيا كي يتألموا ويعانوا ويواجهوا خطر الموت تجمّداً، في ظلّ ظروف حياة سيئة في العراء؟
وقد جرّني هذا السؤال إلى فكرة أخرى:
مشكورة تلك المؤسسات الدولية والأهليّة التي تبذل جهدها في محاولة توفير الدفء لأطفال يعيشون في بيئة بدائيّة لا تتوفر فيها أبسط مقوّمات العيش الكريم، لكن أليس من المهم أيضاً- إلى جانب التخفيف عن هذه الفئة المعذبة- أن تقوم تلك الجمعيات بحملات توعية للأسر اللاجئة، لضبط الإنجاب، رأفة بأولئك القادمين إلى هذا العالم القاسي؟
حين نقرأ تقارير صحفية نتفاجأ بارتفاع نسبة الإنجاب في تلك المخيمات، فهذا "بلال الذي فَقد عمله، والأب لخمسة أطفال، يحاول قدر الإمكان تأمين الحطب لتدفئة عائلته، ويقول لصحيفة "العربي الجديد": "المساعدة الشتوية التي تقدّمها مفوضية الأمم المتحدة لا تكفي سوى لشراء المازوت، وتؤمّن بالتالي التدفئة لأسبوعين فقط في حال كان الطقس مقبولاً، وأسبوعٍ واحدٍ في حال كان الطقس شديد البرودة".
أمّا "فلانة" وهي والدة خمسة أطفال، فتقول للصحيفة نفسها: "كنّا نستخدم مدفأة على الغاز، لكن اليوم بات سعر قارورة الغاز خياليّاً، والوضع المعيشي صعب جداً، وأولويّتنا توفير الطعام والشراب لأولادنا. زوجي فَقد عمله نتيجة حادث أقعده ثلاث سنوات، واليوم، بعد العلاج الفيزيائي الطويل، يستعيد قدرته على الوقوف والمشي نوعاً ما".
أقف مذهولاً أمام مثل هذه الحالات، فكيف لزوجين فرضت عليهما الحرب أن يخرجا من بلدهما ويقيما في مخيم بظروف عيش قاسية، كيف لهما أن ينجبا خمسة أو ستة أطفال، وفوق هذا يقول الوالد إنه لا يعمل؟
بمعزل عن المتسبّب بهذا اللجوء، وبمعزل عن تقصير الدولة المضيفة عن تحمّل مسؤولياتها الإنسانيّة والقانونيّة.. لكن ألا يفرض هذا الواقع على الزوجين أن يتكيفا مع ظروفهما الاستثنائيّة، فيكتفيان بإنجاب ولد أو ولدَين؟
وقد أصدرت منظمة اليونيسف بتاريخ 17 كانون الأول 2021 تقريراً بعنوان "أطفال يكبرون في كنف أزمات لبنان" جاء فيه أنّ "حوالي أي أكثر من 80% من الأطفال (اللاجئين والمقيمين) في لبنان، يعانون الآن من فقر متعدّد الأبعاد، بعد أن كان العدد حوالي 900.000 طفل في عام 2019، وهم يواجهون خطر تعرّضهم للانتهاكات، مثل عمالة الأطفال أو زواج الأطفال بهدف مساعدة أسرهم على تغطية النفقات".
لذلك يمكن أن نوسّع الدائرة لنقول: هذا الطرح ليس مقصوداً به اللاجئون فقط، بل المواطنين المقيمين من الطبقة الفقيرة أيضاً.
الرزق على الله!
وهنا تطرح إشكاليّة مهمة، ينطلق منها البعض للدفاع عن فكرة الإنجاب دون تخطيط أو دراسة واقع، وهي ما جاء في الآية الكريمة: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ). إملاق أي فقر.
ولو أنّني لست أهل اختصاص لمناقشة قضيّة دينيّة شائكة كهذه، لكنّ من يتابع الأدبيات التي كتبت في موضوع ضبط الإنجاب وتنظيم النسل لأسباب معيّنة، يجد في الأمر متسعاً وتناولاً موضوعياً واقعياً للمسألة، بعيداً عن الأحكام المطلقة العامّة، لاسيما أننا هنا نتحدث عن الضبط والتنظيم، وليس عدم الإنجاب بالمطلق.
فإذا كان يحق للزوجين أن يؤخرا الإنجاب لأسباب تتعلق بصحّة الزوجة أو ظروف عملها أو دراستها.. وإذا كان يُباح للزوجين أن يتوافقا على تأخير الإنجاب في سنيّ الزواج الأولى لأسباب معيّنة.. ويباح لهما أن يتوافقا على إنجاب عدد معيّن من الأولاد، اثنين أو ثلاثة أو أربعة.. بحسب رغبتهما الخاصة..
فمن باب أولى أن يتوافق زوجان على الاكتفاء بإنجاب ولد أو ولدين، ريثما تتحسّن ظروفهما المعيشيّة ويعودان إلى بلديهما.. أين المشكلة في هذا؟ نعم لقد وعدنا الله تعالى بأنه رازقنا، لكنه أيضاً أمرنا بالأخذ بالأسباب.
أليس هذا أرحم للطفل من أن يقدم إلى عالم لا تتوفر فيه مقوّمات العيش، وقد يموت صقيعاً أو يتعذب كل يوم في ظروف قاسية لا تراعي أبسط حقوق الطفل واحتياجاته؟
هي دعوة إلى المنظمات والجمعيات الإغاثية، أن تقوم إلى جانب دورها الإغاثي، بدور التوعية والتثقيف تجاه الأهالي.. رأفة بقلوب الأطفال وأجسادهم الطريّة.
وهي دعوة إلى الأزواج أن يأخذوا بالأسباب كما أمرنا الله عزّ وجلّ، فيجمعوا بين التسليم برزق الله تعالى لنا، وبين ظروفهم التي يعيشون.
حفظ الله أولادكم.. ولا حرم الله أحداً منهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.