نحتاج للفن كمرآة، لنعكس حقيقة حياتنا الواقعية بصورة مختلفة تعبر عنا، وتُخفف عنا. لذا حينما يغضب الناس من فيلم أو مسلسل أو من كتابٍ ما بسبب عدم انسجامه مع واقعهم أو خيالهم فإنهم يكونون صادقين، لأننا نتذوق الفن لأنه يتقاطع مع ما نعيشه ولا نعرف التعبير عنه.
البحث عن علا
في الحلقة الأولى من مسلسل "البحث عن علا" من إنتاج (نتفلكس) تعود شخصية "علا عبد الصبور" التي تؤديها الفنانة هند صبري إلی المشاهدين بعد غياب امتد لأكثر من 10 سنوات.
تبدو هند صبري مع التقدم في العمر أكثر نضجاً، تحاول الإمساك بخيوط الشخصية القديمة التي تعلق بها محبو مسلسل "عايزة أتجوز" في نسخة مستحدثة.
تبدأ أولى حلقات "البحث عن علا" بالتعريف بما سبق طلاق علا من زوجها. وتدافع علا عن نفسها في حديثها مع أقارب زوجها في عيد ميلاد ابنها، توضح أنها فضلت مراعاة الأطفال والاعتناء بالزوج بدلاً من إكمال عملها والحفاظ علی حياتها العملية. وبالرغم من أنه سبب عظيم إلا أنه يبدو غير مُقنع لأنها في كل الأحوال مُلامة كأي امرأة يفرغ المجتمع إحباطه وغضبه عليها. يقرر هشام الانفصال عن علا لأنه- مش مبسوط- بحسب تعبيره.
وتبدو علا من بعده امرأة مشتتة، تدخل في نوبة اكتئاب تجعلها فارغة. ويظهر في "البحث عن علا" أولياء الأمور كفزاعة تخيف الأبناء. تُلقي أم علا، سهير، التي تؤدي دورها الفنانة سوسن بدر، اللوم عليها، بينما يعيش هشام مكبوتاً من أمه التي تخاف عليه من أي شيء، ويخفي عنها ما قد يغضبها.
مظاهر فارهة فارغة
حينما يتم عقد المقارنات بين علا وأمها تظهر المشكلات المدفونة بين صراع الأجيال على السطح، تبدو محاولة كل أم أن تبدو أماً جيدة محاولة غير جادة لأنها ليست بما يناسب احتياجات أطفالها، ولكن بما يمكنها تقديمه حسب البيئة والظروف الاجتماعية التي ساهمت في تنشئتهم، وهذا القصور هو ما يجب معالجته، لأننا في القرن الحادي والعشرين يجب علينا أن نتأكد أن الأطفال يحصلون على الحب والحنان تماماً كما يحصلون على الطعام والشراب.
ترفض سهير النوم بجوار حفيدها باعتباره "رجل البيت" الجديد بعد ترك والده المنزل ويحتاج للخصوصية، الطفل الذي لا يتخطى 10 سنوات يكون رجل بيت مسؤولاً عن أمه وجدته وأخته لمجرد أنه ولد ذكراً، بينما أمه لا تبدي اهتماماً بكلام أمها التي ترفض أكل الأطفال للطعام الجاهز فقط خوفاً عليهم في الوقت الذي أصبح فيه هذا للطعام جزء أساسي في حياة أي إنسان.
تبدو مثالية أحداث "البحث عن علا" أمراً شديد الاصطناع، لا أحد بهذه المثالية حينما يتعلق الأمر بالهجر، الانفصال، أو الطلاق بشكل رسمي، حينما تخبر ابنة علا والدتها بأنها تدعمها وفي صفها تخبرها علا بأنها ليست حرباً لكي تكون في صفها هي أو والدها.
في الغالب حينما يبدأ الشوط الأخير قبل الانفصال في الزواج فإن كل طرف يشحذ أسلحته على طريقة والدة علا للضغط على الطرف الآخر للبقاء، واستخدام حجج عديدة لدفعه لاستكمال العلاقة مثل الخوف على الأولاد، المظهر الاجتماعي، الحالة الاجتماعية في مجتمع يُفضل إضفاء بعد القيل والقال عن أسباب الانفصال وغيرها.
تبدو المقارنة بين علا ووالدتها صالحة للتطبيق عن حالة العلاقات قديماً وحديثاً، ولكن في كل وقت تحدث فيه تصدعات كبرى في حياة أي رجل وامرأة مرتبطين لا تنتهي قصتهما معاً بهذه السهولة. وكما يمكن أن تظهر الشخصيات بصورة مصطنعة، يمكن صناعة كادرات جميلة شديدة الجاذبية، ولكنها أيضاً بلا قيمة.
نهايات وبدايات
في "البحث عن علا" تبدأ حيوات جديدة بعد نهاية العلاقة الأهم في حياة بطلة المسلسل. وكما كان "عايزة أتجوز" عنواناً معبراً جداً عن حالة امرأة متوسطة الجمال من طبقة اجتماعية متوسطة تحكي بأسلوب ساخر عن أزمتها في مجتمع شرقي كامرأة شارفت على الثلاثين، ولكنها بلا علاقة عاطفية واحدة وأن كل مخاوفها تكمن في عدم وجود عريس، فإن "البحث عن علا" يبدو عنواناً مثالياً لعنونة الجزء المستوحى من عايزة أتجوز، ولكن السؤال القائم، والذي لا إجابة واضحة له بين الأحداث، أين ومتی فُقدت عُلا حتى تبدأ رحلة البحث عنها؟!
يبدأ "البحث عن علا" بتبريرات فشل علا في الاستمرار في وظيفتها كدكتورة صيدلانية بسبب رعايتها للأسرة، وتبدأ مباشرة بعد الطلاق في محاولة البحث عن مشروع لتبدأ فيه لتدارك ما فاتها. تتحول حياة عُلا بوتيرة أسرع من المنطقي، فمن الطبقة المتوسطة تقفز في الجزء الجديد المعروض علی شبكة نتفلكس العالمية إلی الطبقة الغنية، يتخلل كلماتها الكثير من المصطلحات الإنجليزية، تشرب "الواين" في العشاء، وتبكي علی ضياع 13 سنة في زواج غير سعيد بسبب التنازلات الكبرى التي قدمتها فقط من أجل تحقيق أمنيتها، من أجل تخطي أزمة العنوسة والحصول على زوج!
لا يناقش "البحث عن علا" المشكلات الحقيقية لبطلة الجزء الأول، ولم تعد علا عبد الصبور – في رحلة "البحث عن علا"- هي النموذج الأكثر انتشاراً في المجتمع كما كانت منذ أكثر من 10 سنوات، ربما تبدو المقارنة ظالمة نتيجة مرور السنوات، ولكن عدم وجود أي مبرر درامي يدفعنا للسؤال عن جدوی تقديم جزء جديد للمسلسل يبدو خيالياً لما يمكن أن تعيشه بطلته الحقيقية، ويبدو غرائبياً بالنسبة لما قد تعيشه أي امرأة تمر بتجربة طلاق تحدث بسبب أزمة منتصف العمر!
حينما تنفصل النساء
في مجتمعنا لا يوجد وعي كافٍ بأزمة منتصف العمر، لا أحد يدرك أن كل ما يواجهه في مرحلة معينة هو انعكاس لأشياء حدثت وانتهت في الماضي، وأن كل خيبات الأمل تنتج عن توقعاتنا الكبری بأن في المستقبل هناك أشياء أفضل قد تحدث، وأن العلاقات قد تكون- من تلقاء نفسها- أكثر هدوءاً فيما بعد.
ولكن ما يحدث عكس ذلك، تماماً كما هو عكس ما يمكن أن يحدث مع علا عبد الصبور لو أنها هي نفس المرأة العادية التي ظهرت منذ سنوات طويلة. حينما تنفصل أي امرأة في مجتمعنا الشرقي تلاحقها الاتهامات، وتزاحمها الشكوك، قد تتعثر في الرجال بنفس الكيفية التي حدثت مع علا ولكنهم في الغالب يكونون رجالاً متحرشين، ولو أننا نتحدث عن طبقة متوسطة فإن أغلبهم سيكونون زملاء عمل لا يرون في المرأة المطلقة إلا فرصة لا تعوض للحصول على علاقة مؤقتة بلا عنوان. ولو أن علا ارتقت بطبقتها الاجتماعية وحصلت على المنزل والسيارة من عملها كان من الممكن أن يتعاطف معها المشاهد أكثر ولكنها لم تكن تعمل.
هي نفسها على ما يبدو حصلت عليهما كمقابل للتنازل عن حياتها العملية، مقابل ألا تكون ذاتها، ومن ثم تستمر كردة فعل طوال الأحداث. تصنع لها الصدفة شركاء لنجاح مشروع جديد وتلتقي برجال ليسوا ممن قد تواجههم أي امرأة في حياتها العادية..
الحقيقي في مواجهة المزيف!
ترفض علا شرب الخمر في الحلقة الأولى لأنها لا تشرب، بينما في الحلقة الثانية ودون تمهيد أو داعٍ تشرب "النبيذ الأحمر" على العشاء بأريحية. وتظهر قهوة الفيشاوي العريقة وشارع المعز كأماكن سياحية من الممكن السير فيها عكس ما هو طبيعي، وتظهر سهير في أحد المشاهد لتكذب في كل ما تقوله فقط لإمكانية رواج اسمها ومنتجات ابنتها. يظهر جزء جديد من المسلسل بملامح لامعة بلاستيكية، يبدو كل شيء مثالياً وحياً، ولكنك حينما تمعن النظر تجده بلا روح، ميت. بلا قضية حقيقية يمكن أن تتم مناقشتها في عمل لاقى رواجاً كبيراً بسبب تلاحمه مع أزمة حقيقية في إطار ساخر. وبضيوف شرف قد ينقذون ما قد يمكن إنقاذه بعدما لم يعد في الإمكان مناقشة القضايا في الأدب أو التلفاز بشكل جاد،
فأصبح من اللازم علينا أن نتحمل أداء نجوم الفن الباهت كضيوف شرف بلا أي طائل فقط كي يساهموا في رفع أسهم الجماهيرية.
إلی أين نذهب مع نتفلكس؟
مع اهتمام نتفلكس بتقديم وجبات سريعة للمشاهد العربي باعتباره عميلاً سخياً، فإن السؤال مشروع حول مدی قيمة ما يمكن أن تقدمه نتفلكس للمشاهد العربي. فبعد موسم "ما وراء الطبيعة" الذي كان سيئاً من جميع النواحي، ونسخة عربية من فيلم أثارت الجدل بلا أي جديد، يأتي "البحث عن علا" المنتظر في نسخة بلا قيمة، نسخة منزوعة القيمة للتسلية فقط، مليئة بمظاهر سطحية وحوارات مزينة بالهدوء بشكل جميل تصلح للرواج علی مواقع التواصل الاجتماعي فقط. ما الذي ترغب شبكة عالمية من تقديمه للمستهلك العربي غير الهراء؟!
متى يمكن أن تتم كتابة أعمال جادة لتُعيد الشعور للمتلقي بأنه مرئي من قبل كُتّاب الدراما الذين أصبحوا يكتبون عن أسطح المشكلات اللامعة، تاركاً كل ما يجب الكتابة عنه راكداً في العمق؟ هنا سؤال عن جدية المشاريع الفنية التي لم تعد تطرح الأجوبة ولم تعد ذات قيمة أو مدلول عن طرحها للأسئلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.