تذكرت ضحكتها التي لا تفارق وجنتيها، وحبها للحياة بشغف، وطموحها اللامحدود، وعطاءها الذي تمنحه للآخرين بقوة.
هي في الثلاثين من عمرها، وهي فتاة متوسطة الجمال، إلا أنها تمتلك ما يكفيها من الصفات التي تجعلها رائعة بمعنى الكلمة؛ حيث تتميز بجمال الروح.
لكن ما تملكه من العلم والعمل لم يكن لها كفيلاً؛ لتكون قوية وقادرة على إخماد لسان المجتمع ونظرته للفتاة غير المتزوجة في سن الثلاثين، فهي كحال كثير من الفتيات اللواتي يعتقدن أن الزواج هو القوة والدرع الواقية للعيش ضمن حدود المجتمع الشرقي، فمهما كانت الظروف ومهما كلفها الأمر فلا بد من الزواج، ولا يهم ما ستقابله في حياتها الزوجية من عقبات، المهم لديها أن تصبح ضمن قائمة المتزوجات؛ لإسقاط نظرة المجتمع المتدنية لمن فاتها القطار.
فلقد تزوجت برجل متزوج ولديه سبعة أبناء، ذي دخل متوسط، بعد حالة يأس مرت بها؛ لكي تثبت لنفسها وللمجتمع أنها أنثى لا يعيبها شيء، وقادرة على الزواج والإنجاب.
وبعدما تزوجته عاشت معه بغرفة صغيرة في داخل المنزل الذي تقطن به زوجته الأولى وأبناؤه، لكنها سرعان ما واجهت مع زوجته الأولى مشكلات كبيرة كالعنف والإهانة وأقسى أنواع العذاب، وما كان عليه إلا أن يقف متفرجاً.
استمرت حياتها ما بين صراعات وانكسارات؛ حيث أثرت عليها بالكامل، وخسرت عملها التي كانت ترتكز عليه، وأصبحت تفتقر لكثير من متاع الدنيا من المأكل والملبس والمشرب، ولم تجد أحداً يناصرها، فكلما كانت تشتكي، تقع على مسمعها عبارة "إن ذلك كان من اختيارك.. فعليك أن تتحملي"، لم تكن لديها خيارات أخرى أو بدائل، فلقد عاشت في دائرة مغلقة من الحيرة والقلق، ولم يكن بوسعها أن تختار ما بين الطلاق والعيش مع أخيها وزوجته، الذي يندرج ضمن قائمة العاطلين عن العمل، أو أن تستمر في حياتها الزوجية الصعبة.
استمرت حياتها على هذا الحال خمس سنوات، حياة صعبة ومريرة، لاقت فيها جميع أنواع العذاب والحرمان والفقر والفقدان والإهمال والمرض والوحدة، والتشتت العائلي، وكانت أشبه بخادمة لأبناء زوجها إرضاء للزوجة الأولى، وكانت حصيلة هذه الحياة المعقدة طفلين صغيرين.
لم تتوقف حياتها عند هذا الحد، فكانت ذات مرة قدمت طلباً في إحدى المؤسسات الخيرية للحصول على منزل صغير، لذوي الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وبعد فترة طويلة شاء القدر أن تحصل على منزل صغير، ولكن سرعان ما طلب زوجها منها أن تتنازل عن ملكية البيت له، فوافقت دون أدنى شك، ولكن هذه المرة كان وقع الظلم عليها شديداً؛ حيث كانت في زيارة لأخيها، وأثناء العودة لمنزلها تفاجأت بوجود زوجة ثالثة في المنزل الجديد، وانتهت قصتها بالطلاق.
لا أزال أختزن في ذاكرتي مقولة لأحد الفلاسفة، عندما قال: "أن يفوتك قطار الزواج خير من أن يدهسك"، هذه المقولة تلخص ما عايشته هذه الفتاة في تجربتها الزوجية.
ما يثير الدهشة والاستغراب، هل التأخر في الزواج وتعدي سن الثلاثين يدفع بفتاة حالمة، مثقفة، طموحة إلى مثل هذه التهلكة؟
أي منظومة ينتمي إليها هذا المجتمع، لا شك أنها منظومة غريبة ومعقدة نوعاً ما، إنه مجتمع تحكمه عادات وتقاليد وأعراف بعيدة كل البعد عن الدين والشريعة والمبادئ، مجتمع يفكر بالزواج المبكر، ويضطهد المطلقات، ويكره "العنوسة"، ذلك المصطلح الذي اصطنعه ليصبح بمثابة كابوس تهابه جميع الفتيات، ويصبحن ذوات أيديولوجية محدودة وسيكولوجية تنحصر في التفكير، حول كيفية التخلص من شبح العنوسة، دون التفكير في النتائج التي ستقع على سوء الاختيار فيما بعد.
لا شكَّ أننا نحتاج إلى جهد كبير كي ننشئ جيلاً قويّاً، واثقاً، يعتمد على نفسه، ويبني نفسه، جيلاً تتم برمجته على معايير وقيم تختلف بعض الشيء عن تلك السائدة في مجتمعنا، لا بد من تشكيل منظومة وتركيبة جديدة لا تعرف للخوف معنى، قادرة على مواجهة الحياة في ظل عدم الزواج والارتباط.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.