قبل أيام استيقظ العالم على خبر انتحار ملكة جمال أمريكا لعام 2019 "تشيلسي كريست"، بإلقاء نفسها من الطابق التاسع والعشرين.
خبر مفجع لافت للانتباه، ليس لأن الخبر يخص شخصية عامة أو ملكة جمال فقط، ولكن لأنها "تشيلسي"، المرأة الملهمة للجميع!
شهادات
حصلت "تشيلسي كريست" على درجة الدكتوراه في المحاماة، وحصلت على درجة الماجستير في تخصص إدارة الأعمال من جامعة "ويك فورست"، بالإضافة لعملها كعارضة أزياء ومقدمة برامج تلفزيونية، وحصولها على لقب ملكة جمال أمريكا ومشاركتها في مسابقة ملكة جمال العالم.. امرأة ناجحة بكل المقاييس المادية والظاهرية.
فما الذي يدفع امرأة في الثلاثين من عمرها إلى الانتحار؟ وما الذي قد يقتل الرغبة في الاستمرار على قيد الحياة بداخل شابة ملهمة بشهادة كل من عرفها؟
يقول الروائي وليام ستايرون، واصفاً القاتل الخفي "الاكتئاب كلمة انزلقت في اللغة مثل البزاقة، دون أن تترك أثراً علی خبث هذا المرض وشدّته إذا خرج عن السيطرة".
في العصر الحالي تنتشر المصطلحات الطبية التي تصف وتشرح أبسط الأمراض والمشكلات النفسية، ورغم شيوع وتشعب هذه الأمراض فإننا نجد أن القاتل الأبرز لأكثر الناس هو الاكتئاب.
ولنكن صريحين، لا ينجو أحد من الاكتئاب بشكل كامل في هذا الزمن، ورغم محاولات التوعية بأضرار ومخاطر المشكلات النفسية فإن هناك مرحلة عصيبة، لا يعود منها المريض، بل يخطو فيها خطوات ثابتة نحو الانتحار.
حينما انتحر الأديب العالمي "إرنست هيمنغواي" باستخدام بندقيته المفضلة في الصيد لم يصدق أي شخص هذا الخبر، وخاصة قرّاءه ومحبيه حول العالم. أديب عالمي حائز على جائزة "نوبل" وجائزة "بوليتزر"، وأرفع أوسمة الحروب كمراسل حربي، كاتب من نخبة كُتّاب القرن العشرين وله إسهامات عديدة في القصة والرواية العالمية، ويمتلك أسرة كبيرة وأبناء وأحفاداً، لم يكن يعرف أحد بشكل حقيقي لماذا انتحر هيمنغواي إلا حينما كتب ابنه كتاب "Papa".
في الكتاب يذكر غريغ هيمنجواي شعور والده بالذنب لانتحار أبيه، انتحر كلارنس هيمنغواي (والد إرنست) في عام 1928 ببندقية الصيد المفضلة بإطلاق رصاصة في الرأس، ليعود إرنست بعده بأكثر من 30 عاماً ليُكرر ذات الفعل. ليس الذكور وحدهم من ينتحرون في عائلة الأديب العالمي، "مارغو همنغواي"، التي كانت الشهرة تلاحقها منذ طفولتها، والتي وقّعت عقداً قيمته مليون دولار وهي في الثانوية، والتي لاحقتها الإخفاقات بكثرة على مدار حياتها، انتهى بها الحال منتحرة وهي ابنة الثالثة والخمسين في ذكرى انتحار جدها!
اللغز الأكثر تعقيداً
الدماغ البشري هو اللغز الأكثر تعقيداً على هذه الأرض، فبينما تحتوي هذه الرأس على الأفكار والخلايا داخل نفس الحيز، تحتوي على ملايين المشاعر والتجارب التي قد يعجز عن تحملها في وقتٍ ما!
يقول فرويد إن الجهاز النفسي للإنسان يتكون من الشعور وما قبل الشعور واللاشعور.
الشعور: هو الحالة الحالية التي تحكم الإنسان، أي أنه الحالة الواقعية في اللحظة الحالية التي تسيطر وتستحوذ عليه، كالفكرة مثلاً، الفكرة هي حالة شعورية قد لا تدوم لفترة طويلة "مادامت لم تنفذ" تظل الفكرة حالة شعورية لفترة قصيرة ثم تختفي إلی مرحلة الوسط، وهي "ما قبل الشعور"، التي تُتيح في أي وقت عودة الحالة الشعورية للفكرة عن طريق تهييء بعض الظروف البسيطة.
ما قبل الشعور: هو القسم الثاني أو المتوسط بين الشعور واللاشعور، وفيه قد تختفي الأفكار الشعورية حتی يستطيع المرء الشعور بها مرة أخری.
اللاشعور: يحتوي اللاشعور علی الدوافع البدائية، الغريزية، الجنسية، والعدائية للمرء منذ طفولته.
يبدأ المنتحر في عملية الانسحاب من الحياة حينما يدرك أنه لا يمكن لأي شيء أن يحرك مشاعره أو غريزة بقائه. يمكن للمرء أن يظل متشبثاً بالحياة بوجود أي شعور بداخله تجاه أي شيء. يمكن للحب، الكره، الهواية، المهنة، أو الأشخاص أن يتسببوا ببقائنا هنا لأطول وقت، ويمكن لنفس الأسباب أن يرحل الناس.
كتبت تشيلسي علی حسابها الشخصي بموقع إنستغرام قبل رحيلها، "ليجلب هذا اليوم الراحة والسلام".
حينما يقرر الناس الموت يحزمون حقائبهم كالمسافرين، يمكن أن يساعدهم الوقت لتوديع الأحباب وطبع القبلات علی الجبين والتلويح بالأيدي، ويمكن ألّا يحدث هذا ويرحلوا في غفلة، في قلب الليل البارد يمكن للأرواح أن تحلّق بسبب قسوة الحياة.
لماذا تنتحر الجميلات؟
في السنوات الأخيرة انتحرت أكثر من ملكة جمال حول العالم، ما يطرح التساؤل حول سر انتحار الجميلات تحديداً؟
وما الذي يجعل أجمل نساء العالم يقعن في فخ الاكتئاب، ويسقطن من البنايات العالية محلّقات، في الوقت الذي يجب على صورهن فقط أن تحلق في كل السماوات!
في العصر الحالي تدور كل الأحداث حول قابلية أي شيء للرواج، بغض النظر عن الجودة، أو عن القيمة. وفي الوقت الذي تتوج فيه المرأة بلقب الأجمل يبدو أنها تصاب باللعنة، مع الوقت يخفت الجمال، ويظهر جمال آخر، بمعايير مختلفة كُليا، قد توازي المعايير الأولی، وفي الوقت الذي قد تحصل فيه ملكة جمال علی كل شيء يمكن أن تفقد فيه نفس المرأة كل شيء، فقط نتيجة التقدم في العمر، أو خفوت الأضواء. يبدو لقب "ملكة جمال" لقباً مطاطاً، لأنه لا توجد معايير حقيقية للجمال، ولأنها مشكلة نسبية فإن هذا اللقب ينتقل من امرأة لأخرى، ولكن علی ما يبدو ينتقل بلعنة ما تمنح المرأة الجميلة أفضل أوقات حياتها، وأتعس طريقة لإنهائها.
انتحرت عارضة الأزياء والممثلة الموريشيوسية فيفيكا باباجي، ملكة جمال موريشيوس لعام 1993، وملكة جمال موريشيوس يونيفرس 1994. تم العثور عليها ميتة في شقتها بعدما انتحرت شنقاً بمروحة السقف في شقتها، في مقر إقامتها في باندرا في مومباي. ذكرت تقارير الشرطة أن الاكتئاب الحاد دفع فيفيكا إلى الانتحار. فيما توجت سيلا مولنار ملكة جمال المجر عام 1985، وانتحرت الفتاة البالغة من العمر 17 عاماً في 10 يوليو/تموز 1986، بينما رحلت تشيلسي في 31 يناير/كانون الثاني 2022، بعد تتويجها بلقب ملكة جمال أمريكا في 2019.
لسنا آلات
تبدو المقارنات في مثل هذه الظروف شيئاً سخيفاً ومحبطاً، ولكنها ككل شر، شيء لا بد منه. يبدو انتحار تشيلسي حدثاً كئيباً، ولكنه يجعلنا نعيد تسليط الضوء على ضرورة الاهتمام بالصحة النفسية، ليس كشيء ثانوي أو غير هام ولكن كشيء ضروري. في العصر الحالي لم يعد ممكناً تحمل كل هذا الضغط العصبي والنفسي الذي قد يدفعنا كلنا للانفجار.
تُقدر منظمة الصحة العالمية أن نحو 700 ألف شخص يموتون سنوياً بالانتحار، محددة أن الاكتئاب العامل الأكبر، إلى جانب اختبار كوارث يعجز صاحبها عن التعامل مع توترات الحياة، مثل الضائقة المالية أو العلاقات العاطفية الفاشلة أو حتى الأمراض المزمنة.
في عالم رأسمالي متسارع تهبط وتصعد فيه مؤشرات البورصة بجنون، بناءً علی عوامل غير معلومة، فإننا بالمثل نعيش في عالم تعس مليء بالأحداث غير المعقولة، التي تُسبب لنا الضغوط. وكما نجح الإنسان في صنع آلات عملاقة يمكنها هدم الجبال أو تحويل التراب إلی ذهب، عليه أن يتذكر دوماً أنه ليس آلة، وليس سلعة قد تكون رائجة اليوم وفي الغد غير ذلك، وأنه ليس من الواجب عليه أن يستمر في محاولات الدوران حول مركزية الوظيفة أو النظام الحياتي اليومي فينسی نفسه.
يقول الطبيب النفسي والكاتب المجري الكندي جبور ماتيه: كطفل لدينا حاجتان أساسيتان، حاجة واحدة منذ الصغر، وهو أمر مطلق وغير قابل للتفاوض، وهو التعلق؛ وبالتالي فإن الحاجة الأخرى هي الأصالة. الأصالة إذن هي الارتباط بأنفسنا، لأنه بدون أصالة، دون اتصال بمشاعرنا الغريزية فقط كم من الوقت يمكنك البقاء على قيد الحياة هناك في الطبيعة؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.