ريان طفل يبلغ خمس سنوات، سقط في بئر عمقها 32 متراً، يوم 2 فبراير (شباط) 2022، وذلك بمنطقة تمروت، بإقليم شفشاون بالمغرب، ودامت عملية إنقاذه من لدُن السلطات المغربية خمسة أيام، وجرى إخراجه ليلة يوم 5 فبراير/شباط، بعد مجهودات متواصلة طيلة خمسة أيام من الحفر والتنقيب.
اختلفت الاتجاهات المتناوِلة للحدث بين اتجاه يرى أن عملية الإنقاذ أعادت روح التضامن الاجتماعي بين الأفراد، بل أعادت الوحدة العربية، وبين اتجاه آخر يرى أن السلطات المغربية حوّلت جبلاً من أجل إنقاذ ابنها، واتجاه آخر يرى استغلال القضية من طرف النشطاء الفيسبوكيين، ونشطاء اليوتيوب من أجل الشهرة وزيادة المشاهدات… إلخ.
لفت انتباهنا في هذه العملية مجموعة من المسائل الجديرة بالدراسة والتحليل، ومنها: تضارب منطق التفكير بين الشعب المُمَثل في المتطوعين الذين يعرضون أنفسهم لإخراج الطفل العالق، ومنطق الدولة الذي يفكر في إطار حسابات سياسية دقيقة. وأيضاً نتساءل حول الدلالات التي يجسدها تفاعل الجماهير مع الواقعة بالدعاء والتهليل بجنبات البئر طيلة الأيام الخمسة، بالإضافة إلى التغطية الصحفية التي لم تستطع الوصول إلى خبر وفاة الطفل قبل إخراجه.
بين منطق الدولة ومنطق الجماهير
الشعب كالدولة يحسّان بثقل المسؤولية، الأول ينطلق من دواعي التضامن والروابط الاجتماعية، والثاني ينطلق من سلطته على المجال العام، ومن السلطة المخولة له بموجب القانون والتاريخ، إلا أن هناك عدم فهم لتضارب الاختصاصات بين الطرفين.
حاولت مجموعة من المتطوعين تقديم المساعدة والمبادرة من أجل إنقاذ الطفل العالق، إلا أن هذه المحاولات فشلت، لا لأن الدولة رفضتها، بل لأن التطوع والمبادرة يكونان ناجحين في الحالة التي تغيب فيها الدولة، بحيث لا يمكن لهذه الأخيرة أن تسمح لمواطن كيفما كان أن يحظى برمزية البطولة وهي متواجدة ومتتبعة وممارسة في عمق الحدث.
المسألة الثانية، الشعب لديه شغف إلى المعلومة؛ لأنه لا يرتهن لحسابات سياسية، والدولة تحاول الحد من التغطية الإعلامية لكل التفاصيل، وبدأ الغموض وتضارب الروايات في الأمتار الأخيرة التي يتوق فيها الجميع للمعلومة، الدولة تفكر في حساباتها، ماذا لو وجدناه ميتاً، ماذا لو حمَّلونا المسؤولية عن التأخر رغم كل الجهود المبذولة… إلخ من الأسئلة. وبالتالي جسدت العملية منطقين في التفكير، الأول الجماهير، يفكر خارج إطار الدولة، والثاني يفكر في إطار سياسي، وفي حسابات سياسية ورمزية دقيقة، ولذلك استطاع إخفاء وفاة الطفل إلى حين إعلانه رسمياً بعد نقل الضحية إلى المستشفى.
حدود التغطية الصحفية
رغم تواجد عدد كبير من المنابر الإعلامية في عمق الحدث، وحضور مجموعة من الناشطين "الفيسبوكيين"، ونقل تفاصيل الحديث عن طريق المباشر، جرى السماح لهم بمعرفة الجوانب السطحية في عملية الإنقاذ، كعمق البئر وحجمها، واسم الطفل وعمره، وعدد الأمتار المتبقية للوصول إليه، وبعض الانهيارات الطفيفة التي تظهر من حين إلى حين، ونقل حركة الطفل وبيان كونه حياً في الأيام الأولى، ونقل المحاولات الفاشلة للمتطوعين، وحديث الجنبات، إلا أنه كلما طالت مدة العملية، وظهرت مخاطر جديدة، أصبحت التغطية الإعلامية خافتة، وجرى التستر على المعلومة، فكان هناك تضارب كبير في الروايات، مع عجز التغطية الصحفية عن نقل حالة الطفل في اليومين الأخيرين.
لم يستطع أحد الوصول إلى الحقيقة رغم تواجد الكثير من الجماهير والصحافة بعين المكان طيلة خمسة أيام، حتى توصلوا إلى خبر وفاته عبر بلاغ الديوان الملكي والتصريحات الرسمية، فقدرة السلطات على إخفاء خبر وفاة الطفل إلى حين إخراجه ونقله يوحي لنا بحدود عمل الصحافة وبكونه عملاً هامشياً، لم يستطع فرض نفسه في السبق الإعلامي والوصول إلى الخبر.
وهو الأمر الذي يتجلى بوضوح في غياب القنوات الرسمية في تتبع الحدث؛ الأمر الذي جعل المتابع والراغب في المعلومة يلجأ إلى القنوات الخارجية والتغطية الدولية للحدث، واكتفت القنوات الرسمية بتخصيص دقائق معدودة في النشرات الإخبارية، ولا تعرض فيها إلا الأخبار المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي. فقدرة السلطات على إخفاء الحقيقة وإعلانها في الوقت المناسب يوحي بشدة أن تأميم الإعلام لم يعد مقتصراً على الإعلام الرسمي، بل تجاوزه إلى الإعلام البديل.
تديين الحدث وتكريس ثقافة المعجزات
لم يكن هاجس الجماهير الحاضرة طيلة الأيام الخمسة قرب البئر تتبع تفاصيل الحدث وانتظار مآلات عملية الإنقاذ فقط، بل كان أيضاً رفع أكف الضراعة إلى الله، والدعاء من أجل التدخل الإلهي لإنقاذ الطفل، وتلاوة الأدعية الجماعية، وانتظار تحقيق معجزة إنقاذ الطفل، الأمر الذي انعكس أيضاً على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث إن الجميع نشر تدوينات مشحونة بتديين الحدث، ونقل الأدعية، ومشاركتها الواسعة في مواقع التواصل الاجتماعي، وتجاوزت هذه المقاربة الحدود المكانية للواقعة، إلى عولمة الدعاء والتعاطف.
ورغم كل ذلك لم تنجح محاولات الإنقاذ، ولم يجر الوصول إلى الطفل قبل وفاته، وبالتالي لم يتدخل الإله لإنقاذ الطفل، هناك فقط متطوعون فشلوا في الوصول إليه، ومجهودات الآليات والمهندسين والطبوغرافيين الذين جرى استدعاؤهم من طرف السلطة، هناك فقط الجهود العملية، ومع ذلك لم تتلق الجماهير صدمة عدم التدخل الإلهي لإنقاذ الطفل، بقدر ما تلقت صدمة وفاة الطفل المعلنة رسمياً من لدن الدوائر العليا.
التنافس على البطولة
كانت هناك مجموعة من المتطوعين يرغبون في إنقاد الطفل، في ضرب خارق لرمزية حضور الدولة في عمق الحدث، كانوا مدفوعين بمنطق تفكير الجماهير، بحيث دفعتهم الجماهير إلى عيش التحدي، بل تميل هذه الأخيرة إلى البحث عن طرف خارجي غير الدولة، لتنسب له الإنجاز ورمزية التضحية، كانت البداية مع المتطوعَيْن اللذين حاولا إنقاذ الطفل، لكن المحاولتين فشلتا، ليأتي الدور على شخصيات أخرى، كنموذج علي الصحراوي وسائق الجرافة.
حظي علي الصحراوي، رجل خمسيني، حِرفي في حفر الآبار، بشعبية كبيرة ورمزية البطولة، في عمله الذي قام به في الأمتار الأخيرة، فيما عرف بالحفر الأفقي، واستعان في ذلك بالآلات التقليدية، رافضاً اتخاذ البروتوكلات المعروفة في مثل هذه العمليات، من اللباس الواقي واتخاذ الاحتياطات، كان رمز علي الصحراوي الرافض للبروتوكلات الرسمية والمستعين بالآلات التقليدية في الحفر الرمز الملهم والمنقذ الأول في نظر الجماهير.
نخلص إلى أن عملية الإنقاذ المستمرة لمدة خمسة أيام مليئة بالعبر، التي يمكن للدارس والباحث السوسيولوجي أن يعتمدها كدراسة حالة في بحث علاقة الدولة بالمجتمع، وفي بحث تمثلاث الجماهير وهي تفكر بمنطق خارج الدولة الحديثة، وكيف تستحضر المعجزة والأسطورة في الوقائع والأحداث، وفي المآسي، وما هي رموز التضحية عند الجماهير، وما هو نموذج القيادة عندها… إلخ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.