لعل الأسبوع الماضي عاشه العالم في ترقب وانتظار، والمغاربة والعرب بشكل خاص، والكل يُمني النفس بإنقاذ الطفل ريان، الذي سقط في بئر على عمق يتجاوز 30 متراً في قرية جبلية تسمى تامرون، تابعة لتراب إقليم شفشاون في شمال المغرب.
هذه الحادثة التي وقعت يوم الثلاثاء الماضي هزّت العالم، وجذبت الآلاف من المتعاطفين والمتضامنين وفرق الإنقاذ المدنية، ومبادرات من أشخاص خبروا الاستغوار وتسلق الجبال للتطوع، قبل أن ينتشر الخبر بشكل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، والذي حتَّم على السلطات التواجد بعين المكان للسهر على عملية الإنقاذ باستعمال كل الوسائل الممكنة، في سبيل إنقاذ روح ملائكية تقبع تحت الأرض بدون مأكل ولا مشرب، والتي تعاني من كدمات السقطة وارتدادات وكسور.
مرت الأيام والليالي والعالم يترقب عبر مختلف القنوات والوسائط المتاحة خبر استخراج الشهيد ريان، في لمّة إنسانية وحَّدت العالم، ووجَّهت بوصلتها إلى تلك الحفرة التي تحتضن ملاكاً لا نعلم مصيره، وفي مشهد ختامي مساء يوم السبت توقف العداد، وفرق الإنقاذ تحمل الطفل ريان نحو سيارة الإسعاف، لتنطلق الفرحة في أرجاء هذا الكوكب، وتعالت أصوات الفرحة والتهليل والتكبير، لكن سرعان ما صعق الملايين بعد سماع خبر وفاة الطفل ريان، كانت صدمة قوية بعدما كنا نُمني النفس بإنقاذه.
لست أسرد أحداثاً لا تعلمونها، لكن السياق يفرض علينا ذلك، وللعودة للوراء قبل وقوع الحادث المأساوي، قبل السقوط المميت والمقدر، كان السبب في حفر هذه الآبار هو قلة الموارد المائية بالشمال المغربي في السنوات الماضية، حيث تعاني أغلب المناطق هناك من نقص حاد من مادة الماء الحيوية، وهذا النوع من الآبار يختص بحفره السوريون، والذين يتواجدون بآلياتهم في الكثير من مناطق المغرب لاستخراج المياه الجوفية التي كثر عليها الطلب، في غياب واضح لقوانين تقنن مثل هذه العمليات.
كما صرَّحت الأم المكلومة في فلذة كبدها بأنها لم تتمكن من شرب ولو كوب ماء من هذه البئر التي ابتلع طفلها، وفي الكثير من الأحيان تضطر إلى طلبه من الجيران.
صدف عجيبة في هذا الحادث، كان السبب وراء الحفر هو البحث عن الماء، فسقط ريان في البئر، وهو اسم عربي، ومعنى هذا الاسم المذكر، أي المرتوي بعد العطش، وأيضاً هناك باب في الجنة اسمه الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون، وحبيبنا ريان صام لخمسة أيام متتابعة ليلاً ونهاراً.
هذا الحادث سيكون السبب وراء تسليط الضوء على هذه المنطقة المهمشة اقتصادياً واجتماعياً وبيئياً، وعلى مستوى البنية التحتية، وعلى الأنشطة التي استنزفت الفرشة المائية، وأبرزها زراعة القنب الهندي، أو ما يُسمى بالكيف، المنتشر في الشمال المغربي بكثرة، وهو الطابو المسكوت عنه بعد الحديث عن تقنينه وتسويقه واستعماله في المجال الطبي، دون مراعاة للجفاف الذي يضرب البلاد في السنوات الأخيرة والإمكانيات المائية وندرتها.
وتُشكل ندرة المياه في المغرب تحدياً صعباً لدى المسؤولين، بسبب الضغط المتزايد عليها، لأسباب متعددة، كالتوسع العمراني والتطور الديموغرافي والاقتصادي والتغيرات المناخية، حيث قام المجلس الاقتصادي والاجتماعي في المغرب بإصدار معنون "نقطة يقظة" يبين فيه أنواع وأشكال التهديد للموارد المائية، ويذكر أن حصة الفرد حالياً تقل عن 650 متراً مكعباً للفرد، مقابل 2500 عام 1960.
هذا الحادث المقدر ننتظر منه فك العزلة وتأهيل المنطقة، وربط شبكة الماء بمنازل الدوار، لكونه حق من حقوق الإنسان الطبيعية، وأما ريان فقد أدى مهمته على أكمل وجه، يبقى للمجتمع المدني والإعلام الحقيقي دور في تفعيل وتشجيع المبادرات الجادة، التي بدأت تتقاطر على أسرة ريان من مختلف بقاع العالم.
ستبقى خالداً في قلوبنا يا ريان، وجهت نحوك أنظار العالم ووحدتهم وأنت قابع في الغياهب، لا يعلم مصيرك إلا رب العباد، رحمك الله وجعلك طيراً من طيور الجنة، وألهم أهلك وذويك الصبر والسلوان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.